الأحد، 8 أغسطس 2010

افلاطون برمنيدس

محاورة بارمنيدس*

تعريب لطفي خيرالله

سيفالس

I- حينما قدمنا إلى أثينا بعد أن خرجنا من أرضنا كلازومان، لقينا في الشّارع أديمنت وغلوقون. أخذ أديمنت بيدي فقال " عمت صباحا ياسفالس، إن كنت تطلب هاهنا أيّما حاجة ، فأبنها لنا، فإنّا موفّونها لك ما وجدنا سبيلا "

قلت : ما جئت إلاّ لأمر أطلبه منك.

أديمنت
وأيّ شيء ؟

سيفالس
ألا أخبرني، ماكان اسم أخيك لأمّك؟ فلقد ذهب عنّي، فأنا أوّل مرّة جئت إلى هنا من زمن بعيد لم يكن إلاّ حدثا. أولم يكن اسم أبيه بيريلمب ؟

أديمنت
إنّه، أمّا أخي فقد كان اسمه أنطيفون. و لأيّ شيء تطلب ذلك ؟

سيفالس
إنّ هؤلاء الرّجال الكرام معشر لي، وهم يحبّون الفلسفة أيّما حبّ. وكان قد نمى إليهم أنّ أنطيفون كان كثير التّردّد على فيتودور صديق زينون، وأنّه قد حفظ كلّ الحفظ محاورة جرت قديما بين سقراط وزينون وبارميندس، لِمَا كان قد كرّرها عليه غير مرّة.

أديمنت
صدقت.

سيفالس
فنحن نروم أن نسمع هذه المحاورة.

أديمنت
طلبت هيّنا، وذلك لأنّ أنطيفون حين كان في شرخ الشّباب، فقد استفرغ كلّ همّته من أجل أن يستودعها حافظته. وإن هو اليوم قد صار منشغلا خاصّ الانشغال كجدّه سميّه، بركوب الخيل. وإذ أنتم لترومون رؤيته، فلنصمد إليه. إنّه كان قد غادر هذا المكان الآن ليزور بيته في ميليت الغير بعيد منه.

ولم يلبث أن أجاب حتّى انطلقنا إلى بيت أنطيفون فوجدناه يطلب من حدّاد أن يصنع له شكيمة. ولمّا أتمّ أمره معه ذكر له إخوته أصل زيارتنا نحن له. فلمّا عرفني لكونه كان قد رآني في قدومي الأوّل هناك، أرسل تحيّة إليّ. ثمّ إنّا قد أقسمنا عليه أن يملي على أسماعنا ذلك الحوار الّذي كان قد سمعه. فتردّد أوّلا، قائلا: إنّ هذا لصعب جدّا، ثمّ ما لبث أن قبل به.

فيتودور، وسقراط، وزينون، وبارمينديس، وأرسطو

فبدأ إذًا أنطيفون بالقول بأنّ فيتودور كان قد روى له بأنّه لَذات يوم كان قد قدم إلى الألعاب البانتنيّة الكبرى، زينون وبارميندس. أمّا بارمنيدس فقد كان طاعنا في السنّ، اشتعل رأسه شيبا، لكنّه كان ذا هيبة ووقار، وقد ناهز الخامسة والستّين. أمّا زينون فقد ناهز الأربعين، وكان فارع القامة، وذا سمت حسن. ويُروى فيه أنّه قد كان من خلّص بارميندس. قال أنطيفون بأنّ كلا الرّجلين كانا قد نزلا عند فيتودور في ناحية سيرميك الواقعة خارج السّور. أمّا سقراط فقد حضر المجلس أيضا ومعه نفر من النّاس قد جاؤوا ليسمعوا ما كتبه زينون، وما كتبه كان أوّل مرّة إنّما يأتي به إلى هنالك. وسقراط هذا كان آنئذ في ريعان شبابه. وحينما كان زينون إنّما يقرأ هو نفسه، كان بارميندس في الخارج. وقد ذكر فيتودور أنّه إنّما حين أوشك زينون أن يتمّ قراءته، قد دخل هو نفسه إلى المجلس، و بارميندس وأرسطو، أي أرسطو الّذي كان قد صار بعدها بزمن أحد الثلاثين. فهؤلاء لم يكونوا قد سمعوا إلاّ النّزر القليل ممّا قُرِأَ من الكتاب. لكنّ فيتودور كان قد سمعه هو نفسه يقرأه زينون.

II - أمّا سقراط فبعد أن أتمّ سماع ما قرأ زينون، فما لبث أن ناشده بأن يعاود أن يقرأ الجملة الأولى من الفصل الأوّل. ففعل زينون. قال سقراط " أي زينون، ليت شعري أيّ شيء تريد بقولك هذا: إنّ الموجودات لو كانت كثيرة للزم بالاضطرار أن تكون متشابهة ولا متشابهة معا، وهذا محال. وذلك لأنّه لا يمكن للاّمتشابه أن يكون متشابها، ولا للمتشابه أن يكون لا متشابها. أفذا ما كنت تعنيه ؟

قال زينون نعم.

سقراط
ولمّا كان محالا أن يكون اللاّمتشابه متشابها، والمتشابه لا متشابها، فإنّه يلزم بالاضطرار أيضا بأنّه ممتنع وجود الكثير البتّة، وذلك لأنّه لو وُجِدَ الكثير للزمت عنه تلك المحالات لامحالة. أفليس غرضك من كلّ تلك البراهين إنّما أن تبطل الرّأي الشّائع بأنّ الكثير يوجد بأنّه لا يوجد ؟ أفليس كلّ واحد واحد من حججك تلك إنّما هي دليل عليه، وأنّك كلّما سقت حجّة فيه زاد يقينك بألاّ وجود للكثير؟ أكان ذاك رأيك، أم ربّما أكون أنا من أساء الفهم ؟

قال زينون، كلاّ إنّك ما أسأت الفهم، بل إنّك لقد فهمت حقّ الفهم المعنى الكلّي لمصنّفي المذكور.

قال سقراط، إنّي الآن قد تبيّنت يا بارمنيدس لأيّ شيء إنّما كان زينون شديد الملازمة لك، ليس فقط بصحبته لك، بل وأيضا فيما كان يكتبه. وذلك لأنّه ليس يقول في الحقيقة إلاّ نفس ما تقوله أنت. وهو وإن صاغ كلامه صوغا مغايرا فلأجل إيهامنا بأنّه لَيقول قولا مغايرا لقولك. فأنت كنت قد أقررت في أشعارك بأنّ الكلّ هو واحد، ولقد سقت لأجل بيان ذلك حججا أيّما عظيمة. أمّا هو، فقد أثبت بأنّ الكثير لا يوجد، وقد ساق لبيان ذلك أيضا حججا أيّما كثيرة وقويّة. فإذن حينما يقول أحدكما بأنّ الكلّ واحد، وآخركما بأنّ الكثير لا يوجد، وكأنّما الاثنان إنّما تقولان قولا مختلفا غاية الاختلاف، مع أنّ مقصد القولين لظاهر شيئا من الظّهور بأنّه لَواحد، فإنّ ما تقولان الاثنان، لعمري، ممّا ليس من شأن عقولنا أن تفقهه.

قال زينون، صدقت ياسقراط. لكنّك لم تدرك حقّ الإدراك المعنى الصّحيح لمصنّفنا، مع ما لك من قدرة، ككلاب لاقونيا، في أن تستقصي الآراء الّتي نقولها وتخرجها. فانظر أوّلا في هذا الأمر الّذي كان قد ذهب عنك، وذلك أنّ كتابي ما كان قد زعم قط بأنّه قد جاء بالأمر البدع، وما كنت قد ألّفته قط، كما كنت قد توهّمت، لأجل أن أظهر لأعين الخلق بأنّي أنا قد صنعت كتابا عظيما. فما قد قلت ليس باللاّزم الضّروريّ. بل الحقّ، أنّني ما كنت قد صنعت هذا الكتاب إلاّ لأجل الانتصار لرأي بارميندس، ولأجل نقض رأي أولائك الّذين مازلوا يسخرون منه، وذلك لأنّه، بزعمهم، لو كان الكلّ واحدا، للزمت شناعات كثيرة، ولأبطل هذا الرّأي نفسه بنفسه. فإذن هذا الكتاب إنّما يردّ على أولائك الّذين أثبتوا وجود الكثير، ويردّ على اعتراضاتهم، ويسفّهها. وهو أيضا يروم لأن يظهر لهم بأنّهم إذا وضعوا أنّ الكثير موجود، فإنّنا سنرى أنّه تلزم، متى ما نظرنا في الأمر حقّ النّظر، شناعات لأشدّ سخفا من تلك الّتي قد تلزم عن الرّأي المثبت للوحدة. فأنا إنّما كنت قد كتبت هذا الكتاب أيّام شبابي لأجل المعاندة ذلك العناد. ولكنّه كان قد اختلس منّي حينما كنت قد أتممت صنعته، فلم أستطع أن أتدبّر في إن كان يجوز نشره على النّاس أم لا. ذلك ما كان قد ذهب عنك يا سقراط حتّى ظننت أنّ من كتب ذلك الكتاب إنّما هو رجل راشد يبتغي ذِكْرًا، فغاب عنك أنّ من كتبه إنّما هو فتى استبدّ به معنى الشّجار والمعاندة. إلاّ أنّك، وكما كنت قد أسلفت لك، فأنت لم تسئ كلّ الإساءة في وصف مصنّفي ذاك وتخصيصه.

-III قال سقراط، فليكن الأمر كما وصفت، وإنّي لا أنكر بأنّه لكما قلت. فاخبرني إذًا: أما ترى بأنّه إنّما توجد صورة في ذاتها للمشابهة، وأخرى للاّمشابهة مقابلة للأولى ؟ أما ترى بأنّي أنا وأنت، وكلّ الأشياء الموسومة بالكثير إنّما تشارك في تينك الصّورتين، وبأنّ الأشياء المشاركة في المشابهة تكون متشابهة من حيث هي مشاركة في المشابهة ومادامت مشاركة فيها، والأشياء المشاركة في اللاّمشابهة تكون لا متشابهة، فأمّا الأشياء المشاركة فيهما الإثنين فتكون لا متشابهة ومتشابهة معا ؟ ليت شعري فأين العجب في أن تكون هذه الأشياء كلّها مشاركة في تينك الصّورتين المتقابلتين، ولكونها مشاركة في الأمرين معًا، فإنّها قد تكون متشابهة ولا متشابهة ؟ إنّما الشّنع في رأيي هو أن نزعم بأنّ المشابهة نفسها قد تنقلب إلى لا مشابهة، أو اللاّمشابهة نفسها قد تنقلب إلى المشابهة: أمّا إن صرّحنا بأنّ الأشياء إنّما حين تشارك في ذينك المعنيين فإنّها تتّصف بهما، فلا أرى شنعا في ذلك البتّة يازينون، بل إنّه لَبمنزلة من يثبت بأنّ الكلّ واحد لمشاركته في الوحدة، وهو نفسه لكثير لمشاركته في الكثرة. وأنا لا يمكني إلاّ الانكار إن رِيمَ الإثبات بأنّ الواحد هو معًا كثير، وأنّ الكثير هو واحد، وكذا في سائر الأمر. وأنا لا يمكنني إلاّ الانكار إن رِيمَ الإثبات بأنّ نفس الأجناس ونفس الصّور إنّما يعتورها ذلك الوصفان المتقابلان. أمّا لو قيل فيّ أنا بأنّي لواحد وكثير معا، فما الشّنع في هذا؟ إذ قد نسوق هذا متى رِيمَ التّدليل على أنّي أنا لَكثير، بأن نقول إنّ جانبي الأيمن ليخالف جانبي الأيسر، ومحيّاي ليخالف ظهري، والجزء الأعلى في بدني ليخالف الجزء الأسفل. فأنا إذن أشارك الكثرة. أمّا لو رِيمَ التّدليل على أنّي لَواحد فقد نقول إنّني في هذه الرّجال السّبعة الحُضَّارِ، أنا واحد؛ فإذن أنا لَأشارك في الوحدة. كذلك يشبه أن يكون كلا الحكمين صادقين. لذا فإنّا لا نأتي البتّة أمرا خلفا، إذا حكمنا بأنّ أشياء كالحجارة، وقطع خشبيّة، أو غيرها هي واحدة وكثيرة معا، لأنّا لانكون حينئذ قد أقررنا بأنّ الواحد هو الكثير والكثير هو الواحد، بل إنّ هذه الأشياء هي واحدة وكثيرة، إذ لا خلاف في ذلك البتّة. أمّا الشّنع الحقّ عندي، يازينون، فهو لو جرّدنا الصّور في ذاتها عن الأشياء المذكورة آنفا، كأن نجرّد المشابهة واللاّمشابهة، والكثرة والوحدة، والسّكون والحركة، وسائر الأشياء الأخرى الشّبيهة، ثمّ نزعم بأنّ هذه الصّور قد تختلط ويفارق بعضها البعض. فأنت، كنت قد فحصت عن كلّ ذلك فحل الفحص، لكنّ غبطتي الأكبر إنّما في أن أصيب من يستطيع أن يظهر لي كيف أن نفس تلك الشّناعات إنّما تلزم بأكثر من نحو في الصّور نفسها، وأن يُنْظَرَ في الموجودات المعقولة، كما كنت أنت قد نظرت في الموجودات المشاهدة بالحسّ"

-IV و بينا سقراط كان يقول هذا الكلام، كان فيتودور يتوجّس من أن يرى بارميندس أو زينون يستشيطان غضبا لكلّ عبارة من عبارته. لكنّهما، والحقّ أقول، لقد كانا يسمعان له بأذن أيّما واعية، وكانا يتلاحظان دائما ويبتسمان، كالمفتونين بسقراط. وذلك ما كان الرّأي الذّي قد صدع به بارمنيدس بعد أن أتمّ سقراط كلامه، فقال " ما أحقّك بالإكبار، يا سقراط، لفرط عشقك للمجادلة ! فأنبئني: أأنت من وضع هذه التّفرقة حين فصلت الصّور الّتي هي ليست إلاّ صورا، من الأشياء المشاركة فيها ؟ أو لا ترى بأنّه لَتوجد مشابهة في ذاتها مفارقة للمشابهة الموجودة فينا، وكذا الأمر في الواحد والكثير وفي كلّ ما قد سمعت ذكره من زينون ؟

قال سقراط، إنّي أرى.

قال بارمنيدس، أو لا ترى نفس ذلك في أمور أخرى ؟ فمثلا أنّه هناك صورة في ذاتها وبذاتها للعدل، وأخرى للجمال، وأخرى للحسن، و غيرها لسائر الأشياء الأخرى الشّبيهة بها ؟

قال سقراط نعم

بارمنيدس
وأنّه هناك أيضا صورة للإنسان مفارقة لنا ولآحاد النّاس، أي صورة في ذاتها للإنسان، وصورة للنّار والماء ؟

فأجاب سقراط، إنّي، يا بارمنيدس، لَشدّ ما كنت محتارا في أمر هذه الأشياء الّتي ذكرت، لأنّي لم أهتد فيها إلى إن كان ينبغي أن أحكم فيها كما قد حكمنا في الأمور الأولى، أم أن نحكم فيها غير ذلك.

قال بارميندس، فعساك أن تكون أنت أيضا محتارا في أمر الأشياء السّخيفة كالشّعر، والوحل، والوسخ، وسائر الأشياء كلّها المرذولة والخسيسة؟ وعساك أن تكون قد تردّدت أيضا في أن تسلّم في حقّ آحادها بأنّه لها صور مفارقة، ومباينة هي أيضا، للأشياء الّتي تلمسها أيدينا ؟

أجاب سقراط، كلاّ. فأنا لا أرتاب في وجود الأشياء الّتي نراها. لكنّي قد أرتاب عظيم الرّيبة في أن يُذْهَبَ إلى أنّه لكلّ واحدة منها إنّما يوجد صورة. وأنا قد كانت تنتابني أحيانا حيرة فأتساءل لم لاتكون الأشياء كلّها لذات صورة سواء بسواء ؟ ثمّ إنّي لسرعان ما أصرف نظري عن مثل هذه الخواطر خشية أن أهوي في هوّة السّخف وأغرق فيها. فأعود إلى الأشياء الّتي قلنا إنّ لها صورا، فأخلص كلّ وقتي في النّظر فيها.

قال بارميندس، ذلك لأنّك ياسقراط لم تزل فتى يافعا، وأنّ الفلسفة لم تستحوذ عليك كما لَسوف تستحوذ عليك قطعا إن أنت صرت لا تزدري أيّ شيء من تلك الأشياء. أمّا الآن فلحداثة سنّك فمازلت تراقب كلام الخلق.

V - وأيّا ما كان الأمر، فلتجبني عن سؤالي ذا: أولست ترى، كما قد أسلفت، بأنّه ليوجد صور، الأشياء المشاركة فيها مواطئة لها في الإسم ؟ فمثلا الأشياء المشاركة في المشابهة تكون متشابهة، والأشياء المشاركة في اللاّمشابهة تكون لا متشابهة، والأشياء المشاركة في الكبر تكون كبيرة، والمشاركة في الحسن تكون حسنة، والمشاركة في العدل تكون عادلة ؟

قال سقراط، قطعا.

ولكن كلّ مشارك مشارك، أيشارك في الصّورة بحذافيرها أم في جزء منها ؟ أم أترى أنّه يوجد ضرب آخر في المشاركة غير ذينك الضّربين ؟

قال سقراط، لايكون ذلك البتّة.

بارمنيدس
إذن أفترى أنّ الصّورة إنّما توجد بأسرها في واحد واحد من الموضوعات الكثيرة، ولا تخرج عن كونها واحدة، أم لا يكون ذلك ؟

قال سقراط، وأيّ محال في ذا، ليت شعري، يا بارمنيدس؟

بارمنيدس
حينئذ، فالصّورة الواحدة و الهي هي، ليجوز أن تكون مرّة واحدة في أشياء كثيرة منفصلة، فتكون إذن هي نفسها منفصلة عن نفسها ؟

فاستدرك سقراط، كلاّ. بل إنّها لتكون بمنزلة النّهار الواحد والهوهو، ومع ذلك فهو منتشر في أماكن كثيرة من غير أن يكون نفسه منفصلا عن ذاته. كذلك كلّ صورة صورة، فلا محال في أن تكون موجودة في الأشياء المشاركة فيها كلّها من غير أن تبطل وحدتها وهوهويّتها.

قال بارمنيدس: إنّ هذه طريقة يا سقراط لجدّ عجيبة في فهم كيف للشّيء الواحد أن يكون موجودا في مواضع مختلفة مرّة واحدة: إنّها مثلها مثل أن تنشر رداء واحدا فوق ناس كثير، ثمّ تقول إنّ هذا الرّداء الواحد هو بأسره فوق كثير. أو ما ترى بأنّ مفاد كلامك ليس ببعيد عن هذا المثال ؟

قال سقراط، عسى ذلك.

بارمنيدس
حينئذ، أحقّ بأنّ الرّداء بأسره هو فوق كلّ النّاس الكثير واحدا واحدا، أم أنّ جزء منه فوق واحد، وآخر فوق آخر، وهلمّ جرّا ؟

سقراط
بل جزء منه.

قال بارمنيدس، وعليه فإنّ الصّور نفسها ستكون متجزّئة، والمواضيع المشاركة فيها لا تكون مشاركة إلاّ في جزء منها، ولن يوجد في هذه المواضيع الصّورة بأسرها، بل جزء منها فقط.

قال سقراط، يشبه أن يكون الأمر كما وصفت.

بارمنيدس
أفترضى إذن يا سقراط بأن تقول بأنّ الصّورة الواحدة، هي متجزّأة حقّ التجزّأ وهي أيضا واحدة ؟

قال سقراط لا أرضى.

قال بارمنيدس، فانظر إذن في ذا، أليس خلفا أن نضع بأنّه قد يتجزّأ الكبر في ذاته، وأنّ كلّ واحد واحد من الأشياء الكثيرة الكبيرة إنّما يكون كبيرا بمشاركته في جزء من الكبر أصغر من الكبر نفسه ؟

سقراط
إنّه خلف حقّا.

بارمنيدس
ولتضع أيضا أن موضوعا لم ينل إلاّ قطعة من التّساوي، أفمن الممكن أن يكون مساويا لشيء من الأشياء و هو لم ينل إلاّ هذا الجزء الأصغر من التّساوي في ذاته.

سقراط
إنّه لا يمكن.

بارمنيدس
فلتضع أنّ أحدنا قد نال جزء من الصّغر. فالصّغر في ذاته سيكون أكبر من هذا الجزء، لأنّه جزء ذاته، وبذا يكون الصّغر نفسه أكبر، أمّا الشّيء الّذي نضيف إليه ما كنّا قد أخذنا منه سيكون أصغر لا أكبر ممّا كان قبل الزّيادة.

قال سقراط، إنّه خلف.

قال بارمنيدس، فكيف إذن ترى يا سقراط، أنّ الأشياء إنّما تشارك في الصّورة، إذا كان لايمكن أن تشارك فيها لا في أجزائها، ولا في كلّها ؟

قال سقراط، المدَدَ، إنّ هذا لأمر، لعمري، من غير الهيّن البتّة الفصل فيه.
بارمنيدس
فما تقول في ذا ؟

سقراط
أيّ شيء ذا؟

بارمنيدس
ظنّي أنّما ما جعلك تقضي بأنّه كلّ صورة صورة فهي واحدة هو هذا. إنّنا حين ننظر إلى أشياء كثيرة ظاهرة الكبر كلّها معا، فلا نرتاب في أنّه ليوجد فيها جميعا صفة واحدة هي هي، فنستنتج بأنّ الكبر هو واحد.

قال سقراط صدقت.

بارمنيدس
فلو أنت لاحظت بالذّهن أيضا الكبر نفسه والأشياء الكبيرة دفعة واحدة، أفما كنت لَسوف يظهر لك كذلك كبر آخر يجعل الكبر والأشياء الكبيرة كلّها معًا ظاهرة الكبر لا محالة ؟

سقراط
الأمر ليشبه أن يكون كذلك.

بارمنيدس
فسيكون هناك إذن صورة كِبَرٍ أخرى، تبزع من وراء الكبر في ذاته والأشياء المشاركة فيه، وصورة أخرى أيضا تبزغ من وراء الصّورة الأخيرة والصّورة الأولى والأشياء المشاركة فيه، لِتجعلها كلّها كبيرة، فيلزم أنّ كلّ صورة صورة فسوف لن تكون واحدة بل لا متناهية في العدد.

VI - فاستدرك سقراط، بل قد تكون هذه الصّور كلّها، يا بارمنيدس إنّما هي معقولات، وأنّه ليس لها إلاّ وجود ذهنيّ. وبذلك تكون كلّ صورة هي واحدة، ولا تلزم الشّنعات المذكورة آنفا.

بارمنيدس
فإذن سيكون كلّ معقول معقول واحدا، لكنّه لا يكون معقول شيء من الأشياء.

سقراط
إنّ هذا لا يمكن البتّة.

بارمنيدس
فهو معقول شيء من الأشياء.

سقراط
إنّه.

بارمنيدس
وهذا الشّيء يكون موجودا أو لاموجودا ؟

سقراط
بل يكون موجودا.

بارمنيدس
وأنت لا تنازع في أنّ هذا المعقول إنّما هو معقول شيء واحد يتعقّله العقل بأنّه موجود في أشياء كثيرة، وبأنّه معقول واحد.

سقراط
لا أنازع.

بارمنيدس
ليت شعري، وأيّ شيء إلاّ الصّورة إنّما يُتَعَقَّلُ بأنّه واحد وبأنّه يوجد في أشياء كثيرة ؟

سقراط
إنّه الصّورة اضطرارا.

قال بارمنيدس، إذن، فلو كانت سائر الأشياء إنّما تشارك اضطرارا في الصّور كما زعمت، أفلا يكون لزاما بأن نسلّم إمّا بأنّ كلّ شيء هو معقول، و كلّ شيء يتعقّل، وإمّا بأنّ كلّ شيء هو معقول، لكنّه لا يتعقّل.

قال سقراط، ولا هذا أيضا مّما يجوز. ولكن لتنظر، يا بارمنيدس، ما الحقّ عندي: إنّ هذه الصّور إنّما توجد في الأعيان وجود المثل؛ وسائر الأشياء إنّما تشبهها، وهي نسخ لها. أمّا مشاركة الأشياء في الصّور فلا تعدو أن تكون إلاّ مشابهة الأولى للثّانية.

قال بارمنيدس، حينئذ إذا شابه شيء الصّورة، فلابدّ أن تشابه هذه الصّورة نسختها، وذلك لأنّ هذه النّسخة لتشابها، إذ لا وجه آخر في كون المشابه مشابها لمشابهه.

سقراط
إنّه لا وجه آخر.

بارمنيدس
ولكن لابدّ للمشابه اضطرارا أن يشارك في الصّورة نفسها الهي الهي الّتي يشارك فيها مشابهه.

سقراط
إنّه لابدّ.

بارمنيدس
ولكن ما به الأشياء المتشابهة هي متشابهة، فهي لمشاركتها فيه، فهذا الشّيء إنّما هو الصّورة.

سقراط
إنّه الصّورة قطعا.

بارمنيدس
فلا يمكن إذن لا أن يشابه شيء الصّورة، ولا الصّورة شيئا آخر. وإلاّ فستبرز من وراء الصّورة أبدا صورة أخرى، وإن شابهت هذه شيئا ما، فستبرز صورة أخرى أيضا، ولن ينقطع أبدا ظهور الصّورة ما شابهت الصّورة كلّ مشارك لها.

سقراط
صدقت حقّ الصّدق.

بارمنيدس
فسائر الأشياء إذن لا تشارك البتّة الصّور بالمشابهة، لذلك فقد لزم أن نطلب ضربا آخر من ضروب المشاركة.


سقراط
يشبه أن يكون الأمر كما قلت.


قال بارمنديس فقد تبيّنت إذن يا سقراط، أيّ صعوبات جمّة نتخبّط فيها كلّما رمنا أن نضع أنّ هناك حقائقا موجودة في ذاتها توسم بالصّور هي موجودة وجودا مفارقا.

سقراط
إنّي تبيّنت ذلك حقّا.

بارمنديس
ومع هذا فلتعلم جيّد العلم أنّا قد نقول بأنّك لم تفقه بعد أيّ صعوبات إنّما تلزم إن رمنا أن نثبت وجود صور مفارقة وواحدة لكلّ أصناف الموجودات.

قال سقراط، فهلاّ ذكرتها لي.

بارمنديس
إنّها صعوبات لكثيرة، أمّا أعظمها فهذا. إذ قد نقطع بأنّ الصّور لا يمكن أن تُعْرَفَ أيضا إن كانت حقيقتها لا بدّ أن تكون كما قد وصفنا، ولن يكون في المقدور أن ننبّه من ضلاله رجلا قد يرى هذا الرّأي إلاّ إذا كان المعاند له ذا حنكة كبيرة، وجيّد الفطرة، وأهلا لأن يتتبّع برهانا غالب التّعقيد وبعيد المأخذ. وإلاّ فلن يكون من المستطاع البتّة أن نقنع من ينكر بأنّ الصّور قد تُعْرَفُ بأنّها لتُعْرَفُ.

قال سقراط، ولأيّ شيء كان هذا يا بارمنيدس؟

بارمنديس
لأنّي أرى يا سقراط بأنّه أنت نفسك وكلّ من آمن بأنّه لكلّ شيء شيء شخصيّ ماهية موجودة في ذاتها، فقد اعترف أوّلا بأنّه لا ماهية من هذه الماهيات بموجودة في النّفس.

قال سقرط لاجرم أنّه لكذلك، إذ كيف كانت ستوجد في ذاتها لو كانت موجودة في النّفس؟

قال بارمنيدس، لا فضّ فوك. لذا فكلّ الماهيات ماهيات الصّور الّتي هي ماهي لكونها ذات نسبة بعضها ببعض، فهي موجودة لكونها منتسبة بعضها لبعض، وليس لكونها منتسبة لنسخها الأرضيّة أو كيفما شئت فسمّها، وذلك أنّ هذه الأشياء إنّما تسمّى باسمها الخاصّ لمشاركتها فيها. وأيضا فالأشياء الأرضيّة المشاركة في الصّور في الإسم إنّما توجد لانتساب بعضها لبعض، وليس لانتسابها للصّور، وأنّ مناط وجودها إنّما نفس الأمور الأرضيّة.

قال سقراط، ألا زدني شرحا.

قال بارمنيدس، لنضع مثلا أنّ أحدنا كان سيّدا للآخر أو عبدا له. فبيّن أنّه لا يكون عبدا للسيّد في ذاته، أي لماهية السيّد، وإن كان سيّدا فلا يكون سيّدا للعبد في ذاته، أي لماهية العبد. والعبد أو السيّد إنّما هو إنسان، فهو إذًا عبد أو سيّد لإنسان. أمّا السّيادة في ذاتها، فبالإضافة للعبوديّة في ذاتها إنّما تكون سيادة في ذاتها، وأيضا العبوديّة في ذاتها فبالإضافة للسّيادة في ذاتها إنّما تكون عبوديّة في ذاتها. أمّا موجودات العالم الأسفل فلا أثر لها في تلك الموجودات العالية، وتلك الموجودات العالية فلا أثر لها في هذه الموجودات. فأكرّر، وذلك لأنّ الموجودات العالية لا تعلّق لها إلاّ بالموجودات العالية والموجودات السّافلة لا تعلّق لها إلاّ بالموجودات السّافلة. هل فهمت قولي ؟

أجاب سقراط إنّي فهمته حقّ الفهم.

-VII قال بارمنيدس، فالعلم إذن أي العلم في ذاته إنّما يكون علما بكلّ موجود موجود في ذاته ؟

سقراط
نعم.

بارمنيدس
أمّا العلم المخالط لنا فسيكون علما بالحقيقة المخالطة لنا، وكذا فإنّ كلّ علم علم مخالط لنا فسيكون علما بكلّ شيء شيء مخالط لنا.

سقراط
قطعا.

بارمنيدس
ولكن أنت تعلم بأنّ الصّور نفسها ليست لنا ولا يمكن أن تكون مخالطة لنا.

سقراط
أعلم.

بارمنيدس
وأنت لا تنازع في أنّه إنّما العلم في ذاته من يعلم الأجناس الموجودة في ذاتها.

سقراط
إنّي لا أنازع.

بارمنيدس
ولكن هذه الصّورة هي ليست لنا.

سقراط
إنّها ليست لنا.

بارمنيدس
إذن فنحن لا نعلم أيّ صورة، لأنّه لا مشاركة لنا البتّة في العلم في ذاته.

سقراط
لكأنّ الأمر كما قلت.

بارمنيدس
فلا يمكننا إذن أن نعلم لا بالحسن في ذاته، ولا بالخير، ولا بشيء من الأشياء قلنا فيها أنّها صور موجودة في ذاتها.

سقراط
لكأنّ الأمر كما قلت.

بارمنيدس
فانظر لما هو أعظم من ذاك.

سقراط
أيّ شيء ؟

بارمنيدس
إنّك لا تنازع، فيما أرى، أنّه ليوجد علم في ذاته، وهذا العلم هو أصدق جدّا من العلم الّذي لنا، وأنّه يوجد أيضا حسن في ذاته وهلمّ جرّا.

سقراط
لا أنازع.

بارمنيدس
وإن كان موجود آخر شارك في العلم في ذاته، فلن تنازعني في أنّ ذلك هو الله، وأنّه لا شيء غيره له العلم الأتمّ.

سقراط
قطعا.

بارمنيدس
والآن لمّا كان الله له العلم في ذاته، أمقدور عنده أن يعلم الموجودات السّافلة ؟

سقراط
وما المحال ؟


أجاب بارمنيدس، وذلك لأنّه كنّا قد قرّرنا آنفا، يا سقراط، بأنّ الصّور العالية لا تأثير لها البتّة في الموجودات السّافلة، ولا الأشياء السّافلة لها تأثير في الصّور العالية، بل لا تأثير لها إلاّ في بعضها البعض.

سقراط
إي نعم لقد قرّرنا ذاك.

بارمنيدس
فإذن، لمّا كان الله له القاهريّة الأكمل، والعلم الأكمل، فلا قاهريّته قد تقهرنا أبدا، ولا علمه قد يعلمنا نحن أو شيئا آخر من الأشياء السّافلة. وكما أنّا لانتأمّر على الله بقوّتنا، ولا نعلم فيه شيئا بعلمنا، كذلك، وسند المنع هو هو، فالله لا سلطان له علينا ولا علم له بأمور البشر، وهو الله.

سقراط
قال سقراط، إنّ هذا لَشَيْءٌ عُجَابٌ أن نرفع عن الله القدرة على العلم.


قال بارمنيدس، ومع هذا فتلك أحكام، وهناك أخرى غيرها لابدّ أن تلزم عن الصّور إذا وضعنا أنّ هذه لتوجد حقّا، وإذا أقررنا بأنّ كلّ صورة صورة فموجود مطلق. إنّ هذه الأحكام لمحيّرة، فقد نشكّ في وجود الصّور، وإن سلّمنا بوجودها، لا مندوحة لنا من أن نقرّ بأن ليس للإنسان أن يعلمها. إنّ هذا الرّأي لكأنّه حقّ و لمن العسير دحضه، كما قد أسلفنا. فليس إلاّ لِرَجُلٍ قويّ الفطرة جدّا أن يدرك أنّه لكلّ شيء جنس وموجود في ذاته، وليس إلاّ لِرَجُلٍ أقوى فطرة من الأوّل أن يتبّين هذه الحقائق وأن يعلّمها النّاس بعد أن يكون قد تفحّصها تامّ التفحّص.

سقراط
إنّ الأمر لكما وصفت يا بارمنيدس، لأنّ ذلك هو رأيي أيضا حذو النّعل بالنّعل.

ثمّ أردف بارمنيدس بالحديث، لكنّه لو نحن بعد أن نتمعّن فيما قد سلف كلّه وفي ما قد يُزَادُ فيه بالقول، أقررنا بلا وجود الصّور، ولم نرض أن نضع لكلّ موجود صورة، فسوف تُسَدُّ علينا سبل الفكر، لأنّا قد منعنا وجود صورة لموجود موجود هي هي أبدا، فنرفع بذلك لا محالة أيّ قدرة على التّحاور. هذا هو لعمري، فيما أرى، المحذور الّذي قد تنبّهت إليه أوّلا.

قال سقراط صدقت.

بارمنيدس
VIII - فما مآل الفلسفة إذن، وأين عساك أن تُيَمِّمَ بعد الجهل بهذه الأشياء ؟

سقراط
لا رأي لي البتّة، أو قد يكون الآن فقط.

قال بارمنيدس، وذلك لأنّك ياسقراط قد أبكرت جدّا في التّفلسف من قبل أن ترتاض في حدّك الحسن، والعدل، والخير، و آحاد الصّور الأخرى. إنّي قد تبيّنت هذا منك ذات يوم وأنت تحاور في هذا المكان نفسه أخانا أرسطو. لقد خبّرتك بأنّ فرط الشّوق للمحاورة الفلسفيّة لأمر إلاهي وحسن. لكنّك وأنت فتى يافع، لابدّ أن ترتاض أكثر وأن تتمرّن فيما الدّهماء تراه لاطائل تحته وإن هو إلاّ هذيان. وإلاّ فلن تظفر بالحقيقة أبدا.

سأل سقراط، وما هذا الارتياض يا بارمنيدس؟

قال بارمنيدس، لقد كان زينون قد أراك لمعا منه فيما قرأ. والحقّ أقول لقد راقت لي إشارة منك حين صرّحت له بأنّك لَتكره بأن يُسْلَكَ بالفحص في الأشياء المشاهدة بالحسّ ويُسْتَفرغ الجهد فيها، بل الأمثل أن يُصْرَفَ إلى الأشياء الّتي تُدْرَكُ بالعقل خاصّة، أي الأشياء الّتي يمكن أن نصفها بالصّور.

قال سقراط، إذ أنّي قد ظننت بأنّ لَهذه الطّريقة اليسيرة للتّدليل على أنّ الموجودات قد تكون متشابهة ولا متشابهة معا، وأن تعتورها سائر المتقابلات.

قال بارمنيدس، و إنّك لَمِنِ الرّاشدين. لكن قد بقي أمر آخر. فإنّه لا يكفي أن نضع أنّ موضوعا موجودا، ثمّ ننظر في لوازم الوضع. بل ينبغي أيضا أن نضع أنّ ذلك الموضوع غير موجود إن رمت أن تبلغ أقصى الغاية في الارتياض.

قال سقراط، ما مرادك؟

قال بارمنيدس، لنأخذ مثلا الدّعوى الّتي وضعها زينون أي أنّ الكثير موجود. فلابدّ أن نتفحّص فيما قد يلزم عن هذا الوضع إمّا للكثرة بالإضافة إلى نفسها وبالإضافة إلى الواحد، أو للواحد بالإضافة إلى نفسه وبالإضافة إلى الكثرة. أمّا لو وُضِعَ امتناع وجود الكثير، فلابدّ كذلك من أن نتفحّص فيما قد يلزم عن هذا الوضع إمّا للواحد بالإضافة إلى نفسه وبالإضافة للكثير، أو للكثير بالإضافة إلى الكثير وبالإضافة إلى الواحد. وكذا الأمر إن أُثْبِتَ التّشابه أو لم يثبت، فواجب أيضا أن يُنْظَرَ فيما قد يلزم في الوضعين الإثنين عن الأشياء الموضوعة هي هي، وعن غيرها، و بالإضافة إلى نفسها وبالإضافة إلى غيرها. وكذا الأمر في اللاّتشابه وفي الحركة والسّكون، وفي النّشأة والفناء، وفي الوجود نفسه واللاّوجود، وبالجملة ففي كلّ الأشياء الّتي يجوز لك أن تعدّها موجودة أو لاموجودة، أو أن تعدّها بنحو آخر من الأنحاء، فلِزَامٌ عليك بأن تحقّق في الأمور الّتي تلزم إمّا بالإضافة للموضوع نفسه أو بالإضافة إلى شيء واحد من الأشياء الّتي تشاء مقياستها به، أو بالإضافة إلى كثرة من الأشياء أو بالإضافة إلى كلّها جميعا. ثمّ ينبغي أن تفعل الأمر نفسه في الأشياء الأخرى: أي أن تتفحّصها بالإضافة إلى نفسها، وبالإضافة إلى أيّ موضوع قد تَعُدَّنَّهُ إمّا موجودا أو غير موجود. ذلك، لعمري، ماينبغي لك فعله، إن كنت تروم ياسقراط أن تصقل ملكتك وتصير قادرا على أن تتبيّن الحقيقة حقّ التّبيّن.

قال سقراط، إنّ هذا لَبحث عظيم تكلّفنيه يا بارمنيدس، وأنا لم أفهمك كلّ الفهم. بل ما بالك لا تكون أنت نفسك من يحرّر لوازم كلّ فرض فرض، عسى أن أزداد تبيّنا لقولك.

بارمنيدس
ياسقراط، إنّك لتحمّل رجلا طاعنا في السنّ عملا ثقيلا.

سقراط
إذن، هلاّ كان زينون نفسه من يقوم بهذا الأمر؟

وقد روى فوتيدور بأنّ زينون كان قد قال ضاحكا: بل لتتوسّل إلى بارمنيدس نفسه يا سقراط؛ فما قد تكلّم فيه ما بالهيّن البتّة، وأنت ما أدركت عظم ما طلبت فعله. إنّنا لو كنّا أكثر عددا ما جاز لنا أن نسأله هذا الطّلب، وذلك لأنّه ليس لائقا أن تُبْسَطَ هذه الأمور على ناس كثير، ولا سيّما وبارمنديس قد بلغ من الكبر عتيّا. إنّ العامّة لايمكن لها أن تعلم بأنّه لا سبيل لإصابة الحقيقة، وشحذ الذّهن إلاّ بمثل ذاك السّبر الكلّي، والتنقّل الكثير بين المعاني. لذا فأنا، يا بارمنيدس، لأناشدك كما ناشدك سقراط بأن تأخذ أنت في الكلام، فأسمعك مرّة أخرى بعد انقطاع طويل عن الإفادة منك.

-IX قال أنطيفون أنّ فوتيدور قد ذكر له بأنّه لمّا أتمّ زينون كلامه، تعالت أصوات الجميع صوته هو نفسه وصوت أرسطو والآخرين تناشد بارمنيدس بأن يحرّر ما سبق منه، وألاّ يحرمهم من هذه الفائدة العظيمة.

حينئذ، قال بارمنيدس، لامندوحة لي إلاّ أن أرضيكم، بل أنا الآن لأشبه حصان إيبيكوس، وهو حصان سباق كان قد أسنّ، لكنّه كان يُرْبط إلى العربة، ويُدْفَع به إلى المجال، فكان يخشى أبدا، لخبرته، العاقبة. فأبكوس قال إنّه مثله مثل هذا الحصان، فبعد أن قد أسنّ، قد قهره الحبّ وصيّره واقعا في أغلاله. وأنا لكذلك، لو أتذكّر الماضي، تأخذني رهبة وأسأل نفسي ليت شعري، أَنَّى لي أن أشقّ سباحةً هذا اليمّ العظيم والعويص يمّ الخطاب!؟ لكنّه لا بدّ من إرضائكم، ولا سيّما ولا غريب بيننا. أمّا الآن فالأُخْبَرْ من أين البدء، وأيّ فرض ينبغي أن يوضع أوّلا ؟ إنّي لأرى، لِِِأنّكم قد أحببت أن تركبوا هذا المركب الصّعب، أن أبدأ أنا نفسي، وأن أبدأ من فرضي أنا نفسه، أي بأنّ الواحد موجود، ثمّ أضع بأنّ الواحد غير موجود، فنتبيّن أيّ الأمور قد تلزم عن ذلك.

قال زينون، ذلك ما كنّا نبغي حقّا.

قال بارمنيدس، وإذًا فمن ذا الّذي سوف يحاورني ؟ ليكن الأصغر، وذلك لأنّ الأصغر ألين عريكة، ولا يتكلّف في الردّ، وإنّي لَيَهْنِينِي أن أسمعه يجاوب.

قال أرسطو، إنّك لا شكّ تقصدني أنا بالقول يا بارمنيدس حين ذكرت أصغرنا، فها أنا ذا فاسأل ما بدا لك:

الفرض الأوّل: إذا كان الواحد واحدا*.

بارمنيدس
إذن، فإذا كان الواحد موجودا لا يمكن أن يكون كثيرا.

أرسطو
لايمكن.

بارمنيدس
إنّه إذن لا أجزاء له ولايمكن أن يكون كلاّ.

أرسطو
ولأيّ شيء ؟

بارمنيدس
أما تعلم بأنّ الجزء جزء لكلّ ؟

أرسطو
أعلم.
بارمنيدس
وبأنّ الكلّ هو ما لا ينقصه أيّ جزء من أجزاءه.

أرسطو
أعلم حقّا.
بارمنيدس
فالواحد سيكون متقوّما بالأجزاء، لو كان كلاّ أو ذا أجزاء.
أرسطو
اضطرارا.
بارمنيدس
حينئذ فالواحد سيكون كثيرا لا واحدا.

أرسطو
صدقت.
بارمنيدس
لكنّه هو واحد بالضّرورة لا كثير.
أرسطو
إنّه واحد بالضّرورة.
بارمنيدس
X - فالواحد لِيكون واحدا لا يكون كلاّ، ولا أجزء له.
أرسطو
لا يكون.
بارمنيدس
ولمّا كان الواحد غير ذي أجزاء إطلاقا، فلا مبدأ ولا نهاية ولا وسط له؛ لأنّ هذه المعاني ستكون أجزاء له.
أرسطو
صدقت.
بارمنيدس
لكنّ المبدأ والنّهاية في الشّيء هما نهايتاه.
أرسطو
قطعا.
بارمنيدس
فالواحد إذن لا محدود، لأنّه لامبدأ ولا نهاية له.
أرسطو
إنّه لا محدود.
بارمنيدس
فلا شكل له أيضا، لأنّه لا يمكن أن يكون دائريّا ولا مستقيما.
أرسطو
ولِمَ ؟
بارمنيدس
أنت تعلم بأنّ الدّائريّ ما أطرافه متساوية البعد عن المركز.
أرسطو
أعلم.
بارمنديس
وأنّ المستقيم ما وسطه متناء عن نهايتيه.
أرسطو
أعلم.
بارمنيدس
إذن فالواحد لو كان ذا شكل مستقيم أو دائريّ، لكانت له أجزاء وسيكون كثيرا.
أرسطو
حقّا.
بارمنيدس
ولأنّه قد صحّ أنّ الواحد لا أجزاء له، فالواحد ليس بمستقيم ولا دائريّ.
أرسطو
صدقت.
بارمنيدس
لكنّ الواحد إن كان كذلك، فلا يمكن أن يكون في مكان من الأمكنة؛ لأنّه لا يمكن أن يكون في غيره ولا في ذاته.
أرسطو
كيف هذا ؟
بارمنيدس
لأنّه إن كان في غيره، فسيكون لا محالة محاطا به، وسيماسّه في نقاط كثيرة. لكنّ ما يكون واحدا غير ذي أجزاء وليس البتّة بالدّائريّ، لايمكن أن يُمَسَّ في مواضع كثير في محيطه.
أرسطو
لا يمكن.
بارمنيدس
أمّا لو كان في ذاته، فلا يحيط به إلاّ هو نفسه، لأنّه هو في نفسه. إذ من المحال أن يكون شيء في شيء ولا يكون محاطا.
أرسطو
إنّه محال.
بارمنيدس
إذن فالّذي يحيط هو غير المحاط به؛ لأنّه لا يمكن لشيء واحد أن يكون بأسره فاعلا ومنفعلا في زمن واحد وفعل واحد. والواحد حينئذ سيكون اثنين لا واحدا.
أرسطو
صدقت.
بارمنيدس
وإذ صحّ بأنّ الواحد لا يوجد في ذاته ولا في غيره، فهو لا يوجد في مكان من الأمكنة.
أرسطو
لا يوجد في مكان من الأمكنة.
بارمنيدس
XI - وبعد أن قد صحّ كلّ هذا، فانظر إن كان للواحد أن يسكن أويتحرّك.
أرسطو
ولِمَ لا يكون له ذلك ؟
بارمنيدس
إنّه لو تحرّك، لانتقل أو تغيّر، فهو لا يوجد إلاّ ذانك الضّربان من الحركة.
أرسطو
حقّا.
بارمنيدس
فالواحد إن تغيّر في طبيعته لا يبقى واحدا.
أرسطو
إنّه لا يبقى واحدا.
بارمنيدس
إذًا فلا حركة بالاستحالة في الواحد.
أرسطو
قطعا.
بارمنيدس
وهل يجوز أن تكون له حركة بالانتقال ؟
أرسطو
قد يجوز.
بارمنيدس
إنّه إن تحرّك بالانتقال فلا يخلو: إمّا بأنّ يتحرّك في مكان واحد حركة دائريّة، أو بأن ينتقل من مكان إلى غيره.
أرسطو
اضطرارا.
بارمنيدس
فإن تحرّك دائريّا، فسيلزم بالاضطرار أن يعتمد على مركز، وأن تكون له أجزاء، أي الأجزاء الّتي تدور حول المركز. ولكن أَنَّى لما ليس له لا مركز ولا أجزاء أن يتحرّك دائريّا حول مركز.
أرسطو
أنّى له لعمري.
بارمنيدس
بل عسى أن يكون الواحد يتحرّك بأن ينتقل من مكان لآخر.
أرسطو
عسى ذلك.
بارمنيدس
لكنّه كنّا قد بينّا بأنّ الواحد لا يمكن أن يكون في مكان من الأمكنة.
أرسطو
نعم قد بيّنّا هذا.
بارمنيدس
وأكثر محالا منه أن يوافيه.
أرسطو
ولأيّ شيء ؟
بارمنيدس
لأنّه إذا وافى شيء شيئا، فإنّه، قبل أن يصير فيه، وحين يكون بصدد موافاته، فبالضّرورة لا يكون فيه، وإذا صار فيه، فلا يمكن أن يكون قد بقي بأسره خارجا عنه.
أرسطو
قطعا.
بارمنيدس
وذلك لا يكون إلاّ لِذِي أجزاء، بحيث أنّ جزء من أجزائه يكون في الدّاخل، والآخر في الخارج. أمّا ما لاجزء له البتّة فلا يمكن بوجه أن يوجد دفعة واحدة بأسره في شيء آخر ولا في خارجه.
أرسطو
صدقت.
بارمنيدس
أمّا ما لا أجزاء له وليس بكلّ، فالمحال فيه أكبر بأن يوافي مكانا ما، لأنّه لا يمكن أن يوافيه لا جزء جزء، ولا بتمامه.
أرسطو
قطعا.
بارمنيدس
فالواحد لا يغادر المكان، لا بأن يوافي شيئا، أو بأن يدور في مكان واحد، أو بأن يستحيل هو.
أرسطو
لكأنّ الأمر كما قلت.
بارمنيدس
فلا حركة للواحد بأيّ نوع من أنواعها.
أرسطو
بأيّ نوع من أنواعها.
بارمنيدس
ولقد قلنا أنّ الواحد لا يمكن أن يكون في شيء من الأشياء.
أرسطو
لقد قلناه.
بارمنيدس
فلا يكون إذن في مكان واحد البتّة.
أرسطو
ولِمَ ؟
بارمنيدس
لأنّه إن كان في مكان واحد، فسيكون فيه.
أرسطو
صدقت.
بارمنيدس
لكن قد بينّا آنفا أنّ الواحد لا يكون في نفسه، ولا في شيء غيره.
أرسطو
إنّا بيّنّا هذا حقّا.
بارمنيدس
فالواحد إذًا من المحال أن يكون في مكان واحد.
أرسطو
لكأنّ الأمر كما قلت.
بارمنيدس
لكنّ ما لا يكون البتّة في مكان واحد لا يمكن إطلاقا أن يسكن أو يثبت.
أرسطو
لا يمكن إطلاقا.
بارمنيدس
فيشبه إذن أن يكون الواحد ليس بالسّاكن ولا المتحرّك.
أرسطو
إنّه يشبه.
بارمنيدس
ولا يمكن للواحد أيضا أن يكون هو هو غيره ولا هو هو نفسه، ولا أن يكون غير نفسه ولا غَيرَ غَيرٍ من الأغيار.
أرسطو
ألا زدني شرحا.
بارمنيدس
إذ لو كان غير نفسه سيكون غير الواحد ولا يكون واحدا.
أرسطو
حقّا.
بارمنيدس
وإن كان هوهو غيره، سيكون هذا الغير، ولا يكون نفسه، فلا يكون حينئذ حقيقته هو، أي واحدا، بل غير الواحد.
أرسطو
صدقت.
بارمنيدس
فالواحد من المحال أن يكون هوهو الغير، أو غير نفسه.
أرسطو
من المحال حقّا.
بارمنيدس
والواحد لأنّه واحد لا يمكن أيضا أن يكون غير الغير؛ لأنّه لا يجوز للواحد أن يكون غير شيء من الأشياء، بل الغير وحده ممّا يجوز له ذلك ليس غير.
أرسطو
صدقت.
بارمنيدس
إذ الواحد ليس من حيثيّة كونه واحدا قد يكون غيرا.
أرسطو
نعم.
بارمنيدس
وعليه، فلمّا صحّ أن ليس من تلك الحيثيّة قد يكون الواحد غيرا، لم يجز أن يكون الواحد بذاته غيرا، ولمّا صحّ أنّه لا يكون بذاته غيرا، فلا يكون إذًا نفسه غيرا البتّة. وإذ قد صحّ أنّ الواحد نفسه لا يكون غيرا بوجه من الوجوه، فلا يكون الواحد غير أيّ أمر من الأمور.
أرسطو
صدقت.
بارمنيدس
والواحد أيضا لا يمكن أن يكون هوهو نفسه.
أرسطو
ولِمَ ليت شعري ؟
بارمنيدس
وذلك لأنّ طبيعة الواحد هي غير طبيعة الهوهو إطلاقا.
أرسطو
فأين الفرق ؟
بارمنيدس
وذلك لأنّ شيئا ما وإن صار هوهو شيئا آخر، فلا يصير واحدا.
أرسطو
وما اللاّزم منه.
بارمنيدس
إنّ ما قد يصير هو هو أشياء كثيرة، فبالضّرور يصير كثيرا، ولا يصير واحدا.
أرسطو
إنّه لكذلك.
بارمنيدس
حينئذ، فلو الواحد والهو هو لم يتخالفا البتّة في حيثيّة من الحيثيّات، لكان أبدا إذا شيء صار هو هو، صار واحدا، وإذا صار واحدا، صار هوهو.
أرسطو
بلا خلاف.
بارمنيدس
فالواحد إذًا لو كان هوهو نفسه، لم يكن واحدا بمعيّة نفسه، فيكون واحدا وهو ليس بواحد؛ هذا خلف. فبان إذًا أنّ الواحد لا يكون لا مغايرا لغيره ولا هوهو نفسه.
أرسطو
إنّه لا يكون.
بارمنيدس
فظهر بذلك أنّ الواحد لا يكون غير غيره ولا غير ذاته، ولا هوهو غيره ولا هوهو ذاته.
أرسطو
قد ظهر حقّا.
بارمنيدس
والواحد لا يكون مشابها لذاته ولا لغيره ولا لا مشابها لذاته ولا لغيره.
أرسطو
لأيّ شيء ؟
بارمنيدس
لأنّ المشابه هو ما يوافق مشابهه في صفة هي هي.
أرسطو
إي نعم.
بارمنيدس
ولكن قد بان فيما سلف أنّ طبيعة الهوهو مخالفة لطبيعة الواحد.
أرسطو
فد بينّا ذلك حقّا.
بارمنيدس
فلو الواحد اتّصف بمعنى زائد عن وحدته، سيكون أكثر من واحد، هذا خلف.
أرسطو
إنّه خلف.
بارمنيدس
فمحال إذن أن يكون للواحد صفة واحدة يُشارك فيها غيره أو ذاته.
أرسطو
يقينا.
بارمنيدس
فالواحد إذن لا يمكن أن يكون مشابها لا لذاته ولا لغيره.
أرسطو
لكأنّ الأمر كما قلت.
بارمنيدس
ولا يمكن للواحد أيضا أن يكون مخالفا؛ فلو خالف سيكون أكثر من واحد.
أرسطو
إنّه سيكون أكثر من واحد.
بارمنيدس
وأنت تعلم أنّ الشّيء إذا كان مخالفا لنفسه أو لغيره، فهو لامشابه لنفسه أو لغيره، إذ الموافق ذو الصّفة الواحدة إنّما هو المشابه.
أرسطو
صدقت.
بارمنيدس
ولمّا كان الواحد لا يوجد مخالفا بوجه من الوجوه، فالواحد لا يكون البتّة لا مشابها لنفسه ولا لغيره.
أرسطو
إنّه لا يكون البتّة.
بارمنيدس
وتلخيص الدّلالة أنّ الواحد لا يكون مشابها لنفسه ولا لغيره، ولا لا مشابها لنفسه ولا لغيره.
بارمنيدس
لكأنّ الحقّ كما قلت.
بارمنيدس
وبعد أن تقرّر هذا، فإنّ الواحد لا يكون مساويا لذاته ولا لغيره، ولا لامساويا لذاته ولا لغيره.
أرسطو
ولِمَ ؟
بارمنيدس
لأنّه إذا ساوى، فسيكون عدد مكيلاته هو عدد مكيلات مساويه.
أرسطو
صدقت.
بارمنيدس
وإن كان أكبر أو أصغر من الأشياء المشارك لها في المكيال، فسيكون أكثر عدد مكيال منها أو أصغر.
أرسطو
إي نعم.
بارمنيدس
أمّا الأشياء الّتي لا يشاركها في المكيال، فسيكون هناك مكيالات أصغر من مكيالات، ومكيالات أكبر من مكيالات.
أرسطو
قطعا.
بارمنيدس
ولكن هو من المحال لِشيء مرفوع عنه بتّة وصف الهوهو أن يشارك شيئا من الأشياء في عدد مكيالات واحد.
أرسطو
إنّه لا يكون.
بارمنيدس
وإذا كان الواحد ليس يشارك الغير ولا ذاته في عدد مكيالات واحدة، فهو لا يكون لا مساويا لذاته ولا لغيره.
أرسطو
لا مرية.
بارمنيدس
وأيضا إن كان الواحد أكثر عدد مكيال أو أصغره، فبقدر ما يكون له عدد مكيال تكون له أجزاء، فيلزم كذلك أن يبطل كون الواحد واحدا وأن يصبح في عدّته كعدّة مكيالاته.
أرسطو
حقّا.
بارمنيدس
ولو لم يكن له إلاّ مكيال واحد، فإنّه يكون مساويا لمكياله، ولكن كان قد بان آنفا أنّ من المحال أن يكون الواحد مساويا لشيء من الأشياء.
أرسطو
قد بان ذلك حقّا.
بارمنيدس
فالواحد إذًا لكونه لا يشارك البتّة في مكيال واحد ولا كثرة من المكيالات، ولا في قليل منها، ولكونه لا يشارك البتّة في الهوهو، فلا يكون إطلاقا لا مساويا لنفسه ولا لغيره، ولا يكون إطلاقا أكبر من نفسه أو أصغر ولا أكبر من غيره أو أصغر.
أرسطو
إطلاقا.
بارمنيدس
- XIIولِنَرَ الآن إن كان الواحد يمكن أن يكون أسنّ أو أحدث سنّا أو على سنّ واحد.
أرسطو
أو قد لا يكون ؟
بارمنيدس
إنّ الواحد لو كان على سنّ واحد مع ذاته، أو غيره، لشارك المساواة والمشابهة من حيثيّة الزّمنيّة. لكنّنا قد بينّا بأنّ الواحد لا يشارك في المشابهة ولا المساواة.
أرسطو
إنّا قد بينّا.
بارمنيدس
وقد بينّا أيضا بأنّه لا يشارك في اللاّمشابهة ولا اللاّمساوة.
أرسطو
إي نعم.
بارمنيدس
وعلى هذا، فأنّى للواحد ليت شعري، أن يكون أسنّ من شيء من الأشياء أو أصغر أو على سنّ واحد ؟
أرسطو
إنّ هذا لا يجوز البتّة.
بارمنيدس
فالواحد إذن لا يكون لا أحدث سنّا من نفسه ومن غيره ولا أسنّ، ولا على سنّ واحد مع نفسه أو غيره.
أرسطو
لا يكون قطعا.
بارمنيدس
وإذ قد صحّ أنّ طبيعة الواحد هي هذه، فالواحد إذن لا يكون إطلاقا في الزّمن، لأنّ الشّيء إذا كان في الزّمن فبالضّرورة أن ينقلب أبدا أسنّ من ذاته.
أرسطو
إنّه بالضّرورة.
بارمنيدس
ثمّ إنّ الأسنّ إنّما يكون أبدا أسن ممّا هو أحدث سنّا.
أرسطو
بلا شكّ.
بارمنيدس
فإذن ما يصير أسنّ من نفسه يصير من تلك الحيثيّة نفسها أحدث سنّا منها حتّى يتحصّل فيه ما يجعله الأسنّ.
أرسطو
ألا زدني شرحا.
بارمنيدس
لتنظر، إذا خالف شيء شيئا فليس له أن ينقلب مخالفا لما هو مخالف له بافعل، بل إنّه مخالف بالفعل لما هو مخالف له؛ ويكون كان قد خالف ما كان مخالفا له؛ ولا بدّ أن يخالف لما سيخالفه. أمّا ما ينقلب مخالفا، فلا يمكن أن يكون كان قد خالفه، ولا سيخالفه، ولا هو مخالفه، إنّه إنّما ينقلب مخالفا ليس غير.
أرسطو
قطعا.
بارمنيدس
وأنت تعلم بأنّه أن يكون أسنّ هو مخالفة بالإضافة إلى أن يكون أحدث سنّا، لا غير.
أرسطو
أعلم.
بارمنيدس
لذا بالاضطرار ما ينقلب أسنّ من ذاته، ينقلب في نفس الوقت أحدث سنّا من ذاته.
أرسطو
يشبه أن يكون الأمر كذلك.
بارمنيدس
ولكن هو لا يمكن أن ينقلب كذلك لا في أطول مدة من ذاته ولا أقصر مدّة: بل إنّه ينقلب في نفس الوقت الّذي فيه هو نفسه ينقلب، أو كان انقلب أو سينقلب.
أرسطو
إنّها للوازم ضروريّة.
بارمنيدس
فيشبه إذًا أنّه لامحالة كلّ ما يوجد في الزّمن ويشارك فيه، فهو أبدا على سنّ واحد مع ذاته، وينقلب في وقت واحد أسنّ منها وأحدث سنّا منها.
أرسطو
عسى ذلك.
بارمنيدس
ولكن نحن قد بينّا بأنّ هذه الأوصاف ممتنعة في الواحد.
أرسطو
قد بينّا.
بارمنيدس
فالواحد إذن لا يشارك في الزّمن ولا يوجد فيه.
أرسطو
إنّه يظهر ممّا بينّت أنّ الأمر لكذلك.
بارمنيدس
ثمّ إنّ عبارت كهذه، أي كان، وقد كان، وكان قد كان، إنّما تدلّ على المشاركة في الزّمن الماضي.
أرسطو
إنّها لتدلّ.
بارمنيدس
وعبارت كهذه: يكون، وسيكون، وسيكون قد كان، إنّما تدلّ على المشاركة في الزّمن المستقبل.
أرسطو
إنّها لَتدلّ.
بارمنيدس
وهذه العبارات أيضا، أي هو الآن، ويكون الآن، إنّما تدلّ على المشاركة في الزّمن الحاضر.
أرسطو
إنّها لتدلّ.
بارمنيدس
وإذ كان قد تقرّر بأنّ الواحد لا يشارك بوجه من الوجوه في الزّمن، فالواحد لم يكن، ولم يكن قطّ في الماضي. ولايكون الآن بتاتا، ولا يكون إطلاقا في الحاضر؛ ولا يكون، ولا يكون أبدا في المستقبل.
أرسطو
إنّه لعين الصّدق.
بارمنيدس
ولكن لا مشاركة في الوجود إلاّ بواحدة من هذه الوجوه.
أرسطو
نعم إنّه لو شارك شيء في الوجود، فلا بدّ أن يشارك في وجه منها.
بارمنيدس
إذن فالواحد لا يشارك في الوجود بوجه من الوجوه.
أرسطو
لكأنّ الأمر كما قلت.
بارمنيدس
فالواحد لا يوجد البتّة.
أرسطو
لكأنّه كذلك.
بارمنيدس
فالواحد إذًا لو كان مستوفيا من الوجود حتّى يكون واحدا لكان قد شارك في الوجود. بل على العكس، فممّا قد أسلفنا بيانه، قد ظهر بأنّ الواحد ليس بواحد وليس بموجود.
أرسطو
يشبه أن يكون الواحد غير موجود.
بارمنيدس
وما لا يكون موجودا، لا يمكن البتّة إذ لا يوجد، أن يوجد أمر فيه أو له.
أرسطو
لا يمكن.
بارمنيدس
فلا يمكن إذًا أن ندلّ على الواحد باسم، ولا أن نحدّه، ولا أن نعرفه، ولا أن نحسّه، ولا أن نحكم فيه.
أرسطو
إنّه لا يمكن قطعا.
بارمنيدس
فالواحد إذًا لا يُسَمَّى ولا يُعَبَّرُ عنه، ولا يُحْكَمُ فيه، ولا يُعْرف، ولا يُحَسُّ البتّة.
أرسطو
لكأنّ الأمر كما قلت.
بارمنيدس
ولكن أيجوز أن يكون هذا حال الواحد حقّا ؟
أرسطو
إنّي أرى أنّه لا يجوز.

الفرض الثّاني: إذا كان الواحد موجودا.

بارمنيديس
XIII - فلنعد الآن من رأس، ولنأخذ الفرض في أوّله، ولننظر إذا كان فحص آخر شأنه أن يتبعه لوازم أخرى.
أرسطو
هذا ما أبغي حقّا.
بارمنيدس
لقد قلنا إذن أنّ الواحد إن كان موجودا، فليس لنا أن ننازع في أيّ لازم من اللّوازم قد يتبع من وضع وجوده.
أرسطو
إي نعم.
بارمنيدس
فإنّي مستأنف، فأعرني أذنا واعية. إنّ الواحد إن كان موجودا، فلا بدّ أن يشارك في الوجود.
أرسطو
غير شكّ، فمن المحال أن يكون موجودا ولا يشارك في الوجود.
بارمنيدس
فوجود الواحد إذن موجود، وهو ليس هوهو الواحد. لأنّه لو كان كذلك لماكان هذا الوجود وجود الواحد، وما شارك الواحد البتّة في هذا الوجود، ولاستوى معنى قولنا الواحد موجود، والواحد هو واحد. لكنّ الفرض الآن ليس إذا كان الواحد واحدا، فأيّ شيء قد يلزم، بل إذا كان الواحد موجودا.
أرسطو
نعم إنّه لكذلك بالتّمام.
بارمنيدس
إذن فمعنى هو موجود غير معنى هو واحد ؟
أرسطو
قطعا.
بارمنيدس
وعليه فإنّ قولنا الواحد موجود إنّما في قوّة قولنا إنّ الواحد يشارك في الوجود.
أرسطو
إطلاقا.
بارمنيدس
لنعد إلى هذا السّؤال: إذا كان الواحد موجودا فأيّ شيء قد يلزم ؟ ولتحقّق إن كان هذا الفرض لا يقتضي بأنّ الواحد الموجود، إنّما بالاضطرار ذو أجزاء.
أرسطو
وكيف هذا ؟
بارمنيدس
لتنظر، إنّه لمّا كان هو يوجد، يقال للواحد الموجود، وهو واحد، يقال لوجود الواحد، ولمّا كان الوجود والواحد لَحقيقتين مختلفتين، لكنّهما الاثنان يوجدان للمعنى المفروض، أي للواحد الموجود، أفلا يلزم اضطرارا بأنّ الواحد الموجود إنّما هو كُلٌّ، والواحد والموجود هما جزءاه ؟
أرسطو
إنّه ليلزم اضطرارا.
بارمنيدس
وكلٌّ من ذينك الجزئين، إنّما بالضّرورة هو جزء لكلّ، ولا يكون جزء بلا قيد.
أرسطو
بل جزء كلٍّ بالضّرورة.
بارمنيدس
إذن فالواحد الموجود هو كلّ وله أجزاء.
أرسطو
قطعا.
بارمنيدس
فليت شعري، هذان الجزءان في الواحد، أيفارق أحدهما الآخر، أي الواحد يفارق جزء الوجود، والوجود جزء الواحد ؟
أرسطو
كلاّ إنه لا يفارق أحدهما الآخر.
بارمنيدس
حينئذ كلّ واحد من الجزئين يكون فيه كذلك الواحد والوجود، وأصغر الأجزاء هو مركّب أيضا من الجزئين، ويطّرد الأمر كذا إلى مالا نهاية بأنّ كلّ جزء ينطوي أبدا على جزئين: فالواحد يتضمّن أبدا الوجود، والوجود يتضمّن أبد الواحد، لذلك كان بالاضطرار كلّ واحد من هذه الأجزاء أبدا اثنين لا واحدا.
أرسطو
إنّه لعين الحقّ.
بارمنيدس
إذن فالواحد الموجود إنّما هو كثرة لا متناهية.
أرسطو
لكأنّ الأمر كذلك.
بارمنيدس
لتنظر إلى الأمر من هذه الحيثيّة.
أرسطو
أيّ حيثيّة ؟
بارمنيدس
لقد قلنا بأنّ الواحد يشارك في الوجود، و لذا كان موجودا.
أرسطو
لقد قلنا.
بارمنيدس
وهو لأجل ذلك على التّخصيص، قد ظهر لنا الواحد الموجود على أنّه كثير.
أرسطو
قد ظهر بحقّ.
بارمنيدس
ولكنّ الواحد نفسه المشارك للوجود، فلو لاحظناه في الذّهن وحده ولذاته، وفصلناه من الوجود المشارك فيه، أكنّا سنراه واحدا ليس غير، أم كثيرا ؟
أرسطو
بل سنراه واحدا فيما أرى.
بارمنيدس
فالواحد إذًا بما هوهو بالضّرورة ليس هو وجوده، فالواحد ليس هو الوجود، وإنّما يشارك في الوجود بما هو واحد.
أرسطو
بالضّرورة.
بارمنيدس
فإن صحّ أنّ الوجود هو غير الواحد، فالواحد لا يكون البتّة بوحدته إنّما يغاير الوجود، ولا الوجود بوجوده إنّما يغاير الواحد: بل بالغير والمخالف إنّما يتغايران.
أرسطو
بالضّرورة.
بارمنيدس
فالغير إذن ليس هوهو الواحد ولا الوجود.
أرسطو
وأنّى له أن يكون هوهو أحدهما ؟
بارمنيدس
وإنّا إذا ما اعتبرنا هذه الأشياء، الوجود والغير، أوالوجود والواحد أو الواحد والغير، أفلسنا إنّما نعتبر في كلّ مرّة شيئن اثنين قد نسمّيهما بحقّ الزّوج ؟
أرسطو
وكيف هذا ؟
بارمنيدس
إنّه لنا أن نقول الوجود.
أرسطو
إنّه لنا.
بارمنيدس
وإنّه لنا أيضا أن نقول الواحد.
أرسطو
إنّه لنا أيضا.
بارمنيدس
فقد قلناهما الاثنين.
أرسطو
إي نعم.
بارمنيدس
فأنا لمّا أقول الوجود والواحد، أفليس قد ثبت زوج ؟
أرسطو
إنّه قد ثبت قطعا.
بارمنيدس
وإنّه لكذلك يثبت زوج إطلاقا حين أقول الوجود والغير، والغير والواحد.
أرسطو
إنّه يثبت.
بارمنيدس
وهل قد يجوز لأمرين قِيل فيهما حقّ القول بأنّهما زوج ألاّ يكونا اثنين في العدد ؟
أرسطو
إنّه لا يجوز.
بارمنيدس
وهو لا يمكن إن كان شيئان اثنان ألاّ يكون كلّ منهما واحدا واحدا.
أرسطو
إنّه لا يمكن البتّة.
بارمنيدس
إذن فلمّا كان آحاد الفئات تلك قد انطوى عل شيئين اثنين مجتمعين، فكلّ واحد منهما إنّما هو واحد.
أرسطو
قطعا.
بارمنيدس
وإذ كان كلّ واحد منهما إنّما هو واحد، فلو زدنا أيّ واحد منها إلى أيّ زوج، أفلا يتحصّل المجموع ثلاثة ؟
أرسطو
إنّه يتحصّل.
بارمنيدس
ولكن أنت تعلم بأنّ ثلاثة هو فرد، والإثنين زوج.
أرسطو
إنّي أعلم بلا شكّ.
بارمنيدس
وحيثما ثبت الاثنان فقد ثبت مرّتان اثنان بالضّرورة، وحيثما ثبت الثّلاثة فقد ثبت ثلاث مرّات بالضّرورة، لأنّ الاثنين إنّما هو مؤلّف من واحد مكرّر مرّتين، وثلاثة مؤلّفة من واحد مكرّر ثلاث مرّات.
أرسطو
قطعا.
بارمنيدس
وإذا كان هناك اثنان ومرّتان، فهناك بالاضطرار أيضا اثنان مرّتين، وإذا كان هناك ثلاثة وثلاث مرّات، فهناك أيضا ثلاثة ثلاث مرّات.
أرسطو
بلا نزاع.
بارمنيدس
وإذا كان هناك ثلاثة مرّتين، واثنان ثلاث مرّات، فهناك بالاضطرار ثلاثة مكرّرة مرّتين، واثنان مكرّر ثلاث مرّات.
أرسطو
بلا نزاع.
بارمنيدس
فهناك إذن أعداد زوجيّة مضاعفة من أعداد زوجيّة، وأعداد فرديّة مضاعفة من أعداد فرديّة، وأعداد زوجيّة مضاعفة من أعداد فرديّة، وأعداد فرديّة مضاعفة من أعداد زوجيّة.
أرسطو
إنّه هناك.
بارمنيدس
فإذا تقرّر ذلك، أفيمكن أن يكون هناك عدد لايوجد البتّة ؟
أرسطو
إنّه لا يمكن.
بارمنيدس
وعلى هذا، فإن كان الواحد موجودا، فالعدد أيضا موجود اضطرارا.
أرسطو
اضطرارا.
بارمنيدس
لكن إذا كان العدد موجودا، فسيكون كثرة في الموجودات ولا تناه في عددها؛ الّلهم إلاّ إذا كنت أنت لا ترى بأنّه هناك عدد لامحدود يشارك في الوجود.
أرسطو
بلى إنّي لأراه.
بارمنيدس
لكنّه إذا شارك كلّ عدد عدد في الوجود، فلابدّ أن يشارك كلّ جزء منه في الوجود أيضا.
أرسطو
قطعا.
بارمنيدس
XIV - فالوجود إذًا قد قُسِّمَ بين كلّ الموجودات الكثيرة الموجودة، ولا موجود واحد من أصغر صغيره إلى أكبر كبيره هو فقير من الوجود. بل إنّه لعين الخلف أن نكون قد سألنا مثل هذا السّؤال. إذ كيف لواحد واحد من الموجدات أن يكون فقيرا من الوجود ؟
أرسطو
إنّ ذلك لا يكون البتّة.
بارمنيدس
فالوجود إذن قد قُسِّمَ أجزاء شتّى، إمّا ذاهبة ما أمكن في الصّغر أو ذاهبة ما أمكن في الكبر. بل الوجود لأكثر الأشياء قد قُسِّمَ إطلاقا، وإنّ هناك لعددا لا متناهيا من الوجود.
أرسطو
صدقت.
بارمنيدس
فلا شيء أكثر أجزاء من الوجود.
أرسطو
لا شيء يقينا.
بارمنيدس
أفيمكن لجزء من هذه الأجزاء أن تكون جزء في الوجود ولا تكون جزء واحدا ؟
أرسطو
إنّ هذا لايكون.
بارمنيدس
إنّما الجزء موجود، لذا فباضطرار، فيما أرى، أنّ الجزء ما دام يوجد، فهو جزء واحد، ومن المحال ألاّ يكونه.
أرسطو
من المحال.
بارمنيدس
فالواحد إذن مُلْتَبِسٌ بكلّ أجزاء الوجود، وليس فقيرا منه لا الجزء الأكبر، ولا الأصغر، ولا غيرهما البتّة.
أرسطو
صدقت.
بارمنيدس
لكنّ الواحد هو واحد، أفيوجد بأسره في أشياء كثيرة دفعة واحدة ؟
أرسطو
إنّي بعد التروّي، فإنّي أجزم بأنّ ذلك لمَستحيل.
بارمنيدس
فإذًا الواحد لا يوجد فيها بأسره، فهو إذًا متجزّأ؛ لأنّه لا يمكن أن يكون موجودا دفعة في أجزاء الوجود كلّها إلاّ إذا تجزّأ.
أرسطو
صدقت.
بارمنيدس
وأيضا المُتَجَزَّأُ، عدد الموجودات التّي تلحق فيه يكون لامحالة بعدد ما فيه من أجزاء.
أرسطو
لا محالة.
بارمنيدس
إنّنا إذن قد أخطأنا آنفا لمّا قلنا بأنّ الوجود منتشر في أجزاء كثيرة؛ لأنّه هو ليس بمنتشر في أجزاء أكثر عدّة من عدّة الأجزاء المنتشر فيها الواحد، بل، في عدد هو هو، فيما أرى، وذلك لأنّه لا الوجود قد يفارق الواحد، ولا الواحد قد يفارق الوجود. بل إنّهما لشيئان متساوقان على التّمام.
أرسطو
هذا لبيّن غاية البيان.
بارمنيدس
وعليه فالواحد نفسه لكونه قد قسّمه الوجود، فهو كثير ولا متناه في العدد.
أرسطو
قطعا.
بارمنيدس
إذن فليس الوجود الواحد فحسب الكثير، بل إنّ الواحد نفسه الّذي قد قسّمه الوجود، هو أيضا لكثير اضطرار.
أرسطو
بلا شكّ.
بارمنيدس
XV - والأجزاء هي أجزء لكلٍّ، فالواحد بما هو كلّ محدود، لأنّ الأجزاء إنّما تكون محتواة في الكلّ.
أرسطو
إنّها لكذلك حقّا.
بارمنيدس
ولكن الحاوي هو حدّ.
أرسطو
بلا شكّ.
بارمنيدس
لذا فالواحد الموجود قد بان كأنّه واحد وكثير، كلّ وأجزاء، ومتناه ولا متناه في العدد.
أرسطو
قد بان حقّا.
بارمنيدس
ولإنّه محدود فله أطراف أيضا.
أرسطو
اضطرارا.
بارمنيدس
ولأنّه كُلٌُّ، فلا محالة هو له كذلك مبتدأ ووسط ونهاية، لأنّ الكلّ لا يوجد إلاّ وتلحقه هذه المعاني، وإن بطل معنى واحد فيه، بطل الكلّ.
أرسطو
نعم بطل الكلّ.
بارمنيدس
فقد ظهر أنّ للواحد مبتدأ ووسطا ونهاية.
أرسطو
قد ظهر.
بارمنيدس
وأنت تعلم أنّ الوسط في الشّيء ما يكون متساوي البعد عن طرفيه. ولا يكون وسطا إلاّ إذا كان كذلك.
أرسطو
إنّي أعلم.
بارمنيدس
فالواحد إذن يشبه أنّه ليشارك في الشّكل أكان مستقيما أو دائريّا أو مختلطا.
أرسطو
إنّه ليشارك.
بارمنيدس
وهكذا فالواحد نفسه سيكون في ذاته وفي غيره.
أرسطو
وكيف هذا ؟
بارمنيدس
إنّك تعلم بأنّ كلّ جزء جزء من أجزائه إنّما توجد في الكلّ ولا جزء منها خارج الكلّ.
أرسطو
إنّي أعلم.
بارمنيدس
فالأجزاء كلّها إنّما يضمّها الكلّ.
أرسطو
إنّه يضمّها.
بارمنيدس
ولكن الواحد ليس هو إلاّ أجزاءه كلّها المكوّنة له، لا أكثر منها ولا أقلّ.
أرسطو
قطعا.
بارمنيدس
والكلّ هو نفسه الواحد أيضا.
أرسطو
بلا شكّ.
بارمنيدس
إذن فلمّا كانت الأجزاء كلّها موجودة في الكلّ، ولمّا كانت الأجزاء كلّها هي الواحد وهي الكلّ، ولمّا كانت كلّها محتواة في الكلّ، فالواحد يحتوي الواحد، إذن فالواحد نفسه هو موجود في نفسه.
أرسطو
قطعا إنّه موجود.
بارمنيدس
ثمّ إنّ الكلّ لا يوجد في أجزائه، لا في أجزئه كلّها، أو بعضها؛ لأنّه إن وجد في أجزائه كلّها، فلا محالة سيوجد في جزء واحد، لأنّه لو غاب عن جزء واحد لبطل أن يكون الكلّ في أجزائه كلّها. لذا فالكلّ لا يمكن أن يكون في سائر أجزائه كلّها إلاّ إذا كان نفس هذا الجزء الواحد الموجود فيه، موجودا في سائرها أيضا.
أرسطو
إنّه لا محالة لا بدّ أن يوجد في سائر الأجزاء كلّها.
بارمنيدس
والكلّ أيضا لا يكون في جزء من أجزائه، لأنّه لو كان في جزء منها، فالأكبر سيوجد في الأصغر، وهذا ممنوع.
أرسطو
إنّه لممنوع حقّا.
بارمنيدس
وعليه، فإن تقرّر بأنّ الكلّ لا يوجد في كثير من أجزائه، ولا في واحد، ولا في كلّها، فلا محالة هو إمّا موجود في شيء ما آخر، وإمّا لا يوجد في مكان من الأمكنة.
أرسطو
لامحالة.
بارمنيدس
وإن لم يوجد في مكان من الأمكنة، فسيكون عدما؛ والواحد، ولأنّه لا يوجد في نفسه، وهو كلٌّ، فإنّه لا محالة موجود في شيء آخر.
أرسطو
لا محالة.
بارمنيدس
فالواحد إذًا، فبما هو كلُّ، هو موجود في غيره؛ ولكنّه، فبما هو مجموع الأجزاء كلّها، هو موجود في ذاته، وبذا بان الواحد ضرورة أنّه كائن في ذاته وفي غيره.
أرسطو
قد بان حقّا.
بارمنيدس
وإذا ثبت أنّ طبيعة الواحد هي هذه، فلا بدّ أن يكون الواحد متحرّكا و ساكنا.
أرسطو
وكيف ذلك ؟
بارمنيدس
إنّه إذا كان في ذاته فهو ساكن بالضّرورة. لأنّه لمّا كان ثابتا في شيء واحد لا يغادره، فهو قد بقي في مكان واحد أي في نفسه.
أرسطو
إي نعم.
بارمنيدس
ولكن ما يكون أبدا في مكان واحد باضطرار هو أبدا ساكن.
أرسطو
بلا شكّ.
بارمنيدس
لعمرك، ولكن ما يكون أبدا في شيء آخر، فهو، بعكس الأوّل، لا يكون أبدا في الهوهو، وإذ لا يكون في الهوهو، فلا يكون ساكنا، وإذا لم يكن ساكنا فإنّه متحرّك.
أرسطو
إنّه حقّ.
بارمنيدس
فنستخلص إذًا بأنّ الواحد لأنّه أبدا في نفسه و في شيء آخر، فلا محالة أبدا متحرّك وساكن.
أرسطو
قطعا.
بارمنيدس
وإن صحّ في الواحد ما قد سبق، فالواحد لا بدّ أن يكون هوهو نفسه، وغير نفسه، وأيضا، هوهو غيره وغير غيره.
أرسطو
وكيف هذا ؟
بارمنيدس
إنّه حين نقايس شيئا إلى شيء، فهذا الشّيء إمّا أن يكون هو هو بالإضافة إلى الآخر، أو غيره، أو لا هوهو إيّاه ولا غيره، وإمّا جزء فيه، وإمّا كلٌّ، هذا الآخر جزء فيه.
أرسطو
بلا شكّ.
بارمنيدس
ولكن أالواحد جزء في نفسه ؟
أرسطو
ليس البتّة.
بارمنيدس
وهو أيضا لا يمكن أن يكون كلاّ بالإضافة إلى نفسه مأخوذة على أنّها جزء، لأنّه عندئذ سيكون جزء في نفسه.
أرسطو
إنّه لا يمكن.
بارمنيدس
إذن فهل يمكن للواحد أن يكون غيرا للواحد ؟
أرسطو
إنّه لا يمكن.
بارمنيدس
فالواحد ليس بغير لنفسه.
أرسطو
إنّه ليس غيرا بلا مرية.
بارمنيدس
ولمّا قد تقرّر بأنّ الواحد بالإضافة إلى نفسه، ليس بالغير، ولا بالكلّ، ولا بالجزء، فهو إذًا هوهو نفسه اضطرارا.
بارمنيدس
إنّه لكذلك اضطرارا.
بارمنيدس
ولكن انظر لهذا، ما يكون خارج نفسه، ونفسه تبقى في ذاتها، إنّما لا محالة هو غير نفسه لأنّه هو خارج نفسه.
أرسطو
لكأنّ الأمر كذلك.
بارمنيدس
وقد سلف أن ظهر لنا في الواحد أنّه نفسه هو في نفسه وفي غيره معًا.
أرسطو
لقد ظهر.
بارمنيدس
وعليه، فالواحد، فيما بدا، فهو غير لنفسه.
أرسطو
لكأنّ الأمر كما قلت.
بارمنيدس
وإذا كان شيء غيرا لشيء، فهذا الشّيء لَيكون غيرا لذلك الشّيء المغاير له.
أرسطو
اضطرارا.
بارمنيدس
-XVI إذن فكلّ ما ليس بواحد فهو غير للواحد، والواحد غير لكلّ ما ليس بواحد.
أرسطو
بلا شكّ.
بارمنيدس
فالواحد هو مغاير للأغيار.
أرسطو
إنّه.
بارمنيدس
ألا فانظر إذن: إنّ الهوهو لذاته، والغير لذاته إنّما هما معنيان متضادّان.
أرسطو
قطعا.
بارمنيدس
لذا، فالهوهو لا يمكن البتّة أن يرضى بالثّواء في الغير، ولا الغير لا يمكن أن يرضى بالثّواء في الهوهو.
أرسطو
لا أحد منهما قد يرضى.
بارمنيدس
وإذا امتنع البتّة أن يوجد الغير في الهوهو، فقد امتنع البتّة أن يكون موجود واحد قد يخالطه الغير لوقت من الأوقات. لأنّه لو وُجِد الغير في شيء لوقت ما، فالغير سيوجد في الهوهو ذلك الوقت.
أرسطو
صدقت.
بارمنيدس
وإذا كان الغير لا يوجد إطلاقا في الهوهو، فلا يوجد إطلاقا في موجود من الموجودات.
أرسطو
صدقت.
بارمنيدس
فالغير إذًا لا يوجد لا في الواحد ولا فيما ليس بواحد.
أرسطو
إنّه لا يوجد فيهما اضطرارا.
بارمنيدس
فالواحد إذن لا يمكن أن يكون غيرا بالغير، لِمَا ليس بالواحد، أو لِمَا ليس غيرا للواحد.
أرسطو
لا يكون حقّا.
بارمنيدس
و لا أيضا بذاته هو غير لهما، ولا بذواتهما هما غير للواحد، لأنّهما والواحد لا يشاركون في الغيريّة.
أرسطو
بلا شكّ.
بارمنيدس
حينئذ إن هم لم يتخالفوا لا بذواتهم ولا بالمخالفة، فلابدّ أن ترتفع المخالفة بينهم بتاتا.
أرسطو
إي نعم إنّها ترتفع.
بارمنيدس
ولكن ما ليس بواحد لا يشارك في الواحد، لأنّه لو شارك لم يكن لا واحدا، بل يكون واحدا بوجه ما.
أرسطو
صدقت.
بارمنيدس
فما ليس بواحد لا يكون أيضا عددا، لأنّه لو كان عددا، ما كان ليكون لا واحدا.
أرسطو
حقّا.
بارمنيدس
ألا فانظر: اللاّ وحدات، أيمكن أن تكون أجزاء للواحد، أم هل يمكنها أن تشارك إذًا في الواحد.
أرسطو
إنّها ستشارك.
بارمنيدس
لذا فإنّه إذا كان الواحد واحدا بإطلاق، والآخرون لا وحدات، فالواحد لايمكن أن يكون جزء من اللاّوحدات، ولا كلاّ، أجزاءه تلك اللاّوحدات؛ وأيضا، اللاّوحدات لا تكون البتّة أجزاء في الواحد، ولا أَكْلاَلاً، يكون جزءها الواحد.
أرسطو
هذا لا يكون بحقّ.
بارمنيدس
ولكن نحن قد أسلفنا بأنّ الأشياء الّتي لا تكون أجزء بالإضافة لبعضها البعض، ولا أكلالا، ولا أغيارا، إنّما هي، هي هي بالإضافة لبعضها البعض.
أرسطو
لقد قلنا حقّا.
بارمنيدس
إنّه سوف يلزم بأن نجزم إذن بأنّ الواحد، لكونه حاله مع اللاّوحدات ذاك الحال عينه، هو أيضا هوهو هذه اللاّوحدات.
أرسطو
لا مندوحة من ذلك.
بارمنيدس
فالواحد إذًا، فيما ظهر، هو معًا غير الأغيار وغير نفسه، وهوأيضا هوهو الأغيار وهوهو نفسه.
أرسطو
ذلك، لعمري، ما يشبه أن يكون قد لزم ممّا سبق لنا من بيان.
بارمنيدس
ولنر الآن إن كان الواحد أيضا معًا مشابها ولا مشابها لنفسه، ومشابها ولا مشابها لغيره.
أرسطو
لنر.
بارمنيدس
ففي الجملة إن الواحد كان قد بان بأنّه مغاير للأغيار، فالأغيار هي مغايرة له أيضا.
أرسطو
إنّها مغايرة له.
بارمنيدس
وهو لَيكون مغايرا للأغيار بنفس مغايرة الأغيار له، لا أكثر ولاأقلّ.
أرسطو
سواء بسواء.
بارمنيدس
فالواحد إن كان مغايرته للأغيار سواء بسواء ، إذن فهو يغايرها لَعلى نحو مشابه.
أرسطو
إي نعم.
بارمنيدس
حينئذ فما يجعل الواحد مغايرا للأغيار، والأغيار مغايرة له، هو عينه ما يجعل الواحد هوهو الأغيار، والأغيار هي هي الواحد.
أرسطو
وكيف هذا ؟
بارمنيدس
ألا فانظر: إنّا لنطلق لكلّ شيء اسما.
أرسطو
حقّا.
بارمنيدس
وأنت يمكنك أن تنطق باسم واحد مرّات عديدة لا مرّة واحدة.
أرسطو
إنّه يمكنني.
بارمنيدس
وهل أنت حين تنطق به مرّة واحدة فلِتدلّ على شيء يتعلّق به هذا الاسم، أمّا حين تنطق به مرّات كثيرة فأنت لا تدلّ به عليه ؟ أم أنّك أَنطقت به مرّة واحدة أو مرّات كثيرة، فلِتدلّ به لا محالة على موضوع واحد ؟
أرسطو
بل لأدلّ به على موضوع واحد لا محالة.
بارمنيدس
إذن، فالغير هو اسم أيضا يُطلق على شيء ما.
أرسطو
بلا شكّ.
بارمنيدس
وأنت أَنطقت به مرّة واحدة أو مرّات كثيرة، فلِتدلّ به على الشّيء الّذي هو مُسَمَّاه، ولا على غيره إطلاقا ؟
أرسطو
اضطرارا.
بارمنيدس
فإذَا قلنا بأنّ سائر الأشياء هي غير الواحد، والواحد غير سائر الأشياء، فإنّا قد نطقنا مرّتين بلفظة غير، وفي المرّتين لم نُوقِعْ هذا الاسم على طبيعة مغايرة، بل دللنا به دائما على الشّيء مُسَمَّى الاسم.
أرسطو
يقينا.
بارمنيدس
وعليه، فلمّا كان الواحد غيرا لسائر الأشياء، وسائر الأشياء غيرا للواحد، فكلاهما ذو صفة واحدة مناطها نفس هذه المغايرة المخصوصة. وأنت تعلم أنّ ما يشترك بنحو ما في صفة، فهو مشابه.
أرسطو
أعلم.
بارمنيدس
فقد بان إذن بأنّ الواحد لكونه مغايرا لسائر الأشياء، فبهذه الصّفة عينها، فبحذافيره لمشابه لسائر الأشياء كلّها وبتمامها، لأنّه هو بتمامه مغاير لها بتمامها.
أرسطو
ما جانبت الصّواب.
بارمنيدس
XVII - ثمّ إنّ المشابه هو ضدّ للاّمشابه.
أرسطو
إنّه ضدّ له.
بارمنيدس
والمغاير هو ضدّ للهوهو.
أرسطو
إنّه ضدّ له أيضا.
بارمنيدس
ولكن نحن قد قرّرنا آنفا بأنّ الواحد هو هو سائر الأشياء.
أرسطو
إنّا قد قرّرنا.
بارمنيدس
ولكن أن يكون هوهو سائر الأشياء إنّما هو ضدّ لأن يكون غيرا لسائر الأشياء.
أرسطو
بلا شكّ.
بارمنيدس
والواحد إنّما من حيثيّة المغايرة كان قد بان لنا مشابها.
أرسطو
نعم.
بارمنيدس
إذن فالواحد من حيث هو هو، هو لا مشابه، لأنّه قد اتّصف بحال ضدّ للحال الّتي كانت قد جعلته مشابها، أي حال المغايرة.
أرسطو
صدقت.
بارمنيدس
فالهوهو إمّا أن يجعل الواحد لا مشابها، أو إنّ الهوهو ليس بضدّ للمغايرة.
أرسطو
يشبه أنّ الأمر لكذلك.
بارمنيدس
فنستخلص إذن بأنّ الواحد هو مشابه ولا مشابه للأغيار، إنّه مشابه من حيث هو مغاير، ولا مشابه من حيث هو، هوهو.
أرسطو
إنّ هذه النّتيجة لظاهر أنّها لازمة لزوما صحيحا.
بارمنيدس
ألا فانظر في هذه النّتيجة الأخرى.
أرسطو
أيّها ؟
بارمنيدس
إنّ الواحد إذا اتّصف بصفة واحدة فمن حيث يكون متّصفا بها لا يكون موصوفا بالمغايرلها؛ ومن حيث لا يكون متّصفا بصفة مغايرة لها، لايكون لامتشابها؛ ومن حيث لا يكون لامتشابها، يكون متشابها. وأيضا، إنّ الواحد من حيث يكون متّصفا بصفة مغايرة يكون مغايرا، وإذا كان مغايرا كان لا متشابها.
أرسطو
لقد صدقت.
بارمنيدس
حينئذ، فالواحد لمّا كان هوهو الأغيار، وغير الأغيار، فلهذه العلّتين مجتمعتين أو منفردتين، كان الواحد معًا مشابها للأغيار ولا مشابها لها.
أرسطو
قطعا.
بارمنيدس
ولمّا كان قد بان لنا أنّ الواحد أيضا لَهو، هوهو نفسه وغيرها معًا، فلهذه العلّتين مجتمعتين أو منفردتين، كان الواحد مشابها ولا مشابها لنفسه.
أرسطو
قطعا.
بارمنيدس
ألا رَوِّي في هذا السّؤال الآخر: أَالواحد ملاصق لذاته وللأغيار أم ليس بملاصقهما؟
أرسطو
إنّي لَأرويّ.
بارمنيدس
لقد قرّرنا بأنّ الواحد موجود في نفسه كوجوده في كلٍِّ.
أرسطو
وقد حُقَّ ذلك.
بارمنيدس
والواحد أيضا هو في الأغيار.
أرسطو
إي نعم إنّه في الأغيار.
بارمنيدس
إذًا فالواحد من حيث وجوده في الأغيار يلامس الأغيار؛ لكنّه من حيث هو في ذاته فسيكون ممنوعا من أن يلامسها. بل إنّه يلامس ذاته لأنّه يكون في ذاته.
أرسطو
غير شكّ.
بارمنيدس
لذا فالواحد لَيلامس ذاته ويلامس الأغيار.
أرسطو
إنّه لكذلك.
بارمنيدس
أمّا أنت فلتنظر. إنّ شيئا إذا لامس شيئا، فلا محالة يكون قريبا غاية القرب منه ومحاذيا له.
أرسطو
لا محالة.
بارمنيدس
والواحد أيضا إذا لامس ذاته، فلا بدّ أن يكون محاذيا لذاته.
أرسطو
لا محالة.
بارمنيدس
ولكن الواحد حتّى يحاذي ذاته، فلابدّ أن يكون اثنين لا واحدا،وأن يشغل حيزين اثنين. أمّا والواحد واحد فهذا ممنوع إطلاقا.
أرسطو
بلا شكّ.
بارمنيدس
فمن المحال إذن أن يكون الواحد اثنين وأن يلامس ذاته.
أرسطو
إنّه محال.
بارمنيدس
وهو أيضا لا يلامس الأغيار.
أرسطو
ولِمَ ؟
بارمنيدس
لأنّ اللاّمس لا بدّ أن يكون منفصلا عن الملموس، وأن يكون محاذيا له، ولا يكون بينهما أيّ شيء من الأشياء.
أرسطو
بالضّرورة.
بارمنيدس
فالتّلاصق يقتضي إذًا شيئين اثنين في الأدنى.
أرسطو
إنّه يقتضي.
بارمنيدس
وإن زِيدَ على الاثنين شيء ثالث موالي، فسيكون ثلاثة حدود، ولكن ملاصقتان اثنتان.
أرسطو
إي نعم.
بارمنيدس
وهكذا فكلّما زِيدَ حدّ، يحصل تلاصق آخر، ويكون عدد التّلاصقات ينقص عن عدد الحدود بوحدة أبدا. وذلك لأنّ مجموع الأشياء الّتي لنا أن نزيدها دأَبًا تفوق في عددها أبدا، عدد التّلاصقات كما فاق الحدّان الأوّلان عدد ملاصقتهما. فأنت إذا أخذت حدّين اثنين ثمّ طفقت تزيد الحدود، فحين تزيد موضوعا، تزيد تلاصقا للتّلاصقات.
أرسطو
هذا صحيح.
بارمنيدس
فأيًّا ما كان عدد الأشياء، فعدد التّلاصقات يكون أبدا أنقص من عدد الأشياء بوحدة.
أرسطو
إنّ هذا لَصحيح.
بارمنيدس
وإن لم يكن إلاّ شيء واحد ولا تكون اثنيّة، فلن يكون هناك تلاصق إطلاقا.
أرسطو
غير شكّ.
بارمنيدس
والأغيار لأنّها أغيار هي ليست الواحد، ولا تشارك فيه البتّة.
أرسطو
لا تشارك فيه البتّة.
بارمنيدس
إذًا فلمّا كان الواحد لا يوجد في الأغيار فالأغيار صفر من العدد.
أرسطو
إنّه لا يكون.
بارمنيدس
فالأغيار ليست لا واحدة ولا اثنين، ولا يمكن أن ندلّ عليها باسم عدد من الأعداد.
أرسطو
لا يمكن.
بارمنيدس
فالواحد وحده هو الواحد، ولا يوجد اثنيّة.
أرسطو
إنّه لا يوجد غير شكّ.
بارمنيدس
إذن، فهو لا يوجد ملاصقة، لأنّه لا يوجد اثنيّة.
أرسطو
إنّه لايوجد.
بارمنيدس
وعليه، فلا الواحد يلمس الأغيار، ولا الأغيار تلمس الواحد، لأنّه لا يوجد ملاصقة.
أرسطو
إنّه لا يوجد قطعا.
بارمنيدس
ولهذه الأسباب كلّها كان الواحد يلمس ولا يلمس نفسه، و يلمس ولا يلمس الأغيار.
أرسطو
لكأنّ الأمر كما بيّنت.
بارمنيدس
XVIII - ولننظر الآن إن كان الواحد معًا مساويا ولا مساويا لنفسه، ومساويا ولا مساويا للأغيار ؟
أرسطو
وكيف هذا ؟
بارمنيدس
لو كان الواحد أكبر من الأغيار، أو الأغيار أكبر منه، أو كان أصغر من الأغيار أو الأغيار أصغر منه، فَبَيِّنٌ أنّ ذلك لا يكون إطلاقا من حيثيّة أنّ الواحد هو واحد، و لا من حيثيّة أنّ الأغيار مغايرة للواحدة، أي أنّ الواحد ليس بحقيقته يكون أكبر أو أصغر من الأغيار، ولا الأغيار بحقيقتها إنّما تكون أكبر أو أصغر من الواحد. فأمّا إن ساوى أحدهما الآخر، فبيّن أنّ ذلك إنّما لأنّه إلى ماهيتهما الاثنين، يوجود معنى آخر، أي معنى المساواة؛ وأمّا إن كان معنى الكبر لأحدهما، ومعنى الصّغر للآخر، فذو المعنى الأوّل سيكون هو الأكبر، وذو المعنى الثّاني سيكون هو الأصغر.
أرسطو
ذلك لا محالة.
بارمنيدس
وإنّه لا يمكن أن ننازع في وجود هذين المعنيين، أي معنى الكبر، ومعنى الصّغر؛ لأنّه لو لم يوجدا، لما تضادّا، ولما كانا لِيصحّا في الموجودات.
أرسطو
إنّه لا يمكن.
بارمنيدس
إذن فإن كان صغر في الواحد، فلا يَخْلُوَنَّ إمّا أن يكون فيه كلّه أو في جزء منه.
أرسطو
إنّه لا يخلو لا محالة.
بارمنيدس
فإن كان فيه كلّه، فبيّن أنّ الصّغر إمّا سيسري في الواحد بأسره مُسَاوِقًا إيّاه، أو أنّه سوف يحويه.
أرسطو
إنّه بيّن.
بارمنيدس
فإن كان مساوقا إيّاه، فالصّغر سيساوي الواحد، وإن حواه فسيكون أكبر منه.
أرسطو
بلا شكّ.
بارمنيدس
ولكن أَمِنِ الممكن للصّغر أن يكون مساويا لشيء، أو أكبر منه، أي أن يصحّ فيه معنا المساواة والكبر، ولا يصحّ فيه معناه هو المخصوص ؟
أرسطو
إنّه لا يمكن بتاتا.
بارمنيدس
فالصّغر إذًا لا يوجد في الواحد بحذافيره، بل عسى أن يكون قصاراه إنّما أن يوجد في جزء منه.
أرسطو
عسى ذلك.
بارمنيدس
لكنّه لا يمكن أن يكون في هذا الجزء بأسره أيضا، لأنّه إن كانه، فسيلزم ما قد لزم في الكلّ: أي أنّه في أيّ جزء من الأجزاء فسيكون الصّغر إمّا مساويا له أو أكبر منه.
أرسطو
اضطرارا.
بارمنيدس
فامتنع إذن أن يكون الصّغر في موجود من الموجودات، وذلك لأنّه قد بان امتناع وجوده في الجزء، أو في الكلّ، وقد ظهر أنّه لا يمكن أن يوجد شيء صغير البتّة اللّهم إلاّ الصّغر نفسه.
أرسطو
إنّه قد بان.
بارمنيدس
ولا الكبر أيضا يمكن أن يوجد في شيء. لأنّه سيوجد شيء أكبر، غير الكبر نفسه، أي الموضوع الموجود فيه الكبر، وسيكون هذا الشّيء أكبر مع أنّه لا يوجد شيء أصغر قد يَفْضُلُهُ ويُقَاسُ إليه حتّى يصحّ فيه وصف أنّه أكبر. ولكن هذا محال، لأنّه لايوجد صغير في مكان من الأمكنة.
أرسطو
صدقت.
بارمنيدس
لكنّ الكبر في ذاته لا يمكن أن يكون أكبر إلاّ من صغر في ذاته، والصّغر في ذاته لا يمكن أن يكون أصغر إلاّ من كبر في ذاته.
أرسطو
لا يكون إلاّ كذلك لا محالة.
بارمنيدس
وعلى هذا، فالأغيار لعمري، لا أكبر من الواحد ولا أصغر منه، لأنّها عارية من الكبر والصّغر، وهذان المعنيان إنّما بالقياس إلى بعضهما هما يتفاضلان، وليس بالقياس إلى الواحد. والواحد أيضا لا يمكن أن يكون أكبر من الأغيار ولا أصغر منها، لأنّه هو عَارٍ أيضا من الكبر والصّغر.
أرسطو
لكأنّ الأمر كما قلت.
بارمنيدس
فإن كان قد صحّ بأنّ الواحد لا يكون أكبر من الأغيار ولا أصغر، أفلا يلزم بأنّ الواحد لا يفضل إطلاقا الأغيار، والأغيار لا تفضل إطلاقا الواحد ؟
أرسطو
إنّه يلزم اضطرارا.
بارمنيدس
وما لا يَفْضُلُ ولا يُفْضَلُ، إنّما هو المساوي.
أرسطو
إنّه المساوي.
بارمنيدس
وكذلك أمر الواحد بالإضافة إلى ذاته. فلأنّه عار من الكبر والصغر، فلا يفضل ذاته ولا تفضله ذاته، فهو إذن مساو لها.
أرسطو
إطلاقا.
بارمنيدس
فقد بان إذن بأنّ الواحد لَهْوَ مساو لذاته ومساو للأغيار.
أرسطو
قد بان حقّا.
بارمنيدس
وأيضا، إذا كان الواحد في ذاته، فيكون الواحد لا محالة خارج ذاته محيطا بها، فيلزم أن يكون الواحد أكبر من ذاته اضطرارا من حيثيّة أنّه محيط بها، أمّا من حيثيّة أنّه محاط، فإنّه يكون أصغر من ذاته اضطرارا. إذن فالواحد هو معًا أكبر وأصغر من ذاته.
أرسطو
إي نعم.
بارمنيدس
ألا فانظر إلى هذه الضّرورة الأخرى: إنّما هو لا يوجد شيء غير الواحد والأغيار.
أرسطو
هذا ظاهر جدّا.
بارمنيدس
وأنت تعلم أنّ ما يوجد، فيوجد في مكان من الأمكنة لا محالة.
أرسطو
لا محالة.
بارمنيدس
لكنّه إذا وُجِدَ شيء في شيء، فالموجود يكون لا محالة أصغر، والموجود فيه أكبر، وإلاّ لما أمكن أن يوجد الأوّل في الثّاني إطلاقا.
أرسطو
إنّه لكذلك حتما.
بارمنيدس
فلمّا كان قد بان بأنّه لا يوجد شيء بتاتا غير الواحد والأغيار، وكلّ منهما لا بدّ أن يوجد في مكان من الأمكنة، أفليس يلزم اضطرارا بأن يوجد أحدهما في الآخر، أي أن يوجد الواحد في الأغيار، والأغيار في الواحد، وإلاّ فلن يوجدا البتّة.
أرسطو
إنّه ليلزم قطعا.
بارمنيدس
حينئذ، فلأنّ الواحد يكون موجودا في الأغيار، فالأغيار تحتوي الواحد، إذن فالأغيار ستكون أكبر من الواحد، والواحد سيكون أصغر من الأغيار. ولأنّ الأغيار أيضا تكون موجودة في الواحد، فالواحد يحتوي الأغيار، فالواحد يكون أكبر من الأغيار، والأغيار تكون أصغر من الواحد.
أرسطو
لكأنّ الأمر كما قلت.
بارمنيدس
فنستخلص إذن أنّ الواحد هو مساو لذاته وللأغيار، وهو أيضا أكبر من ذاته ومن الأغيار، وأصغر من ذاته ومن الأغيار.
أرسطو
إنّه لظاهر.
بارمنيدس
والواحد إذا كان أكبر، أو أصغر، أو مساو، فإنّه يكون له عدد مكيالات مساو لعدد مكيالات ذاته، أو مساو لعدد مكيالات الأغيار، أو عدد مكيالات أكبر، أو أقلّ. وإن ثبت للواحد مكيالات فقد ثبت له أيضا أجزاء لا محالة.
أرسطو
بلا شكّ.
بارمنيدس
وهو لكونه ذا مكيالات مساوية في العدد لمكيالات ذاته كان مساويا لذاته في العدد، ولكونه ذا مكيالات أكثر في العدد أو أصغر من ذاته كان أكثر عددا من ذاته أو أقلّ؛ وهو لكونه ذا مكيالات مساوية في العدد لمكيالات الأغيار كان مساويا لها في العدد، ولكونه ذا مكيالات أكثر أو أقلّ في العدد من الأغيار كان أكثر منها عددا أو أقلّ.
أرسطو
وكيف هذا ؟
بارمنيدس
لأنّ الواحد، فيما أعلم، سيكون ذا ميكالات أكثر في العدد ممّا يفضله كبرا، والمكيال إنّما هو الجزء؛ وأيضا ما يكون أكبر منه، فسيكون الواحد أصغر عددا ممّا يفضله هو؛ أمّا ما يساويه، فسيكون ذا مكيالات هي هي في عددها لعدد مكيالات المساوي له.
أرسطو
صدقت.
بارمنيدس
ولمّا كان الواحد أكبر من ذاته، وأصغر من ذاته، ومساويا لذاته، فسيكون ذا مكيالات أكثر عددا من مكيالات ذاته، وأقلّ عددا، ومساويا لها في العدد، أي أنّه سيكون أكثر أجزاء من ذاته أو أقلّ أو يساويها في الأجزاء.
أرسطو
بلا شكّ.
بارمنيدس
وإذا كان هو مساويا لذاته في الأجزاء كان مساويا لها في العدد، وإذا كان أكثر منها أجزاء، فهو أكبر منها في العدد، وإذا كان أقلّ منها أجزاء، فهو أصغر منها في العدد.
أرسطو
إنّ هذا لظاهر.
بارمنيدس
أفما ترى أنّ هذا أيضا إنّما قد يصحّ في حال الواحد بالقياس إلى الأغيار؟ لأنّه قد ظهر بأنّ الواحد هو أكبر من الأغيار، فلا محالة هو أكبر منها في العدد؛ ولأنّه قد ظهر أيضا بأنّه أصغر منها، ومساو لها، فلا محالة هو أصغر منها في العدد، ومساو لها في العدد.
أرسطو
اضطرارا.
بارمنيدس
فيلزم إذًا بأنّ الواحد هو مساو لنفسه في العدد وأكبر منها وأصغر، وبأنّه مساو للأغيار في العدد وأكبر منها وأصغر معًا.
أرسطو
إنّه يلزم.
بارمنيدس
XIX - ولننظر الآن إن كان الواحد يشارك أيضا في الزّمن، وإن كان هو معاً أحدث سنّا وأسنّ من نفسه ومن الأغيار معًا، وإن كان لِينقلب أحدث سنّا وأسنّ من نفسه ومن الأغيار، أو هو، وإن شارك في الزّمن، فليس بأسنّ، ولا أحدث سنّا من نفسه ومن الأغيار.
أرسطو
وكيف هذا ؟
بارمنيدس
إنّ الواحد إذا كان موجودا فهو متّصف بالوجود.
أرسطو
إي نعم.
بارمنيدس
ولكن أن يكون، إنّما أن يشارك في الوجود في الحاضر، وقد كان، إنّما يدلّ على المشاركة في الوجود في الماضي، وسيكون إنّما يدلّ على المشاركة في الوجود في المستقبل.
أرسطو
إنّه لكذلك.
بارمنيدس
فالواحد المشارك في الوجود مشارك في الزّمن.
أرسطو
بلا شكّ.
بارمنيدس
إذن فهو يشارك في الزّمن الّذي هو يَتَصَرَّمُ.
أرسطو
إنّه يشارك.
بارمنيدس
فالواحد إذن وهو يمضي في الزّمن إنّما ينقلب أبدا أسنّ من نفسه.
أرسطو
اضطرارا.
بارمنيدس
ولكنّك أنت تذكر ما أثبتّا بأنّ أيّ شيء ينقلب أسنّ، فلا محالة هناك أمر آخر ينقلب أحدث سنّا، يكون ذلك الأسنّ أسنّ منه.
أرسطو
أَذْكُرُ حقّا.
بارمنيدس
إذن فالواحد حين ينقلب أسنّ من ذاته، فهو ينقلب أسنّ من ذاته المنقلبة هي نفسها أحدث سنّا.
أرسطو
قطعا.
بارمنيدس
وبهذا فالواحد لَينقلب معًا، أسنّ وأحدث سنّا من ذاته.
أرسطو
إنّه لَينقلب.
بارمنيدس
ولكن الآن الّذي فيه ينقلب الواحد أسنّا إنّما هو حين يُفْضِي إلى الزّمن الحاضر الفاصل بين كان وسيكون. لأنّه حتّى ينتقل من الأمس إلى غد، لا يمكن أن يطفر باليوم.
أرسطو
إنّه لا يستطيع حقّا.
بارمنيدس
ولكنّ الواحد حين يباشر الحاضر، إنّما ينقطع عن صيرورته كونه أسنّ، بل هو يكون قد تحقّق أسنّ. لأنّه لو واصل حينئذ مضيّه، فلن يصحّ في حاضر أبدا. إذ أنّ طبيعة ما يمضي إنّما تقضي أن يماسّه شيئان معًا، أي الحاضر والمستقبل، وذلك بأن يفارق الماضي، ويلاقي المستقبل في حركة بينهما الاثنين، أي الماضي والحاضر.
أرسطو
لقد قلت صدقا.
بارمنيدس
وإذ قد تقرّر بأنّ كلّ ما يصير فلا يمكنه البتّه التّوراي عن الحاضر، فهو حين يكون فيه، فإنّه ينقطع عن الصّيرورة أبدا، بل يكون بالفعل حينئذ ما كان بصدد أن يصير إليه.
أرسطو
اضطرارا.
بارمنيدس
كذلك الواحد، وهو يصير أسنّ، فإذا لاقى الحاضر، فإنّه يمسك عن صيرورته، ويكون بالفعل حينئذ أسنّ.
أرسطو
بلا شكّ.
بارمنيدس
وهناك فهو لَيكون أسنّ بالإضافة لما كان يصير لأن يكون أسنّ منه، وهو إنّما كان يصير ليكون أسنّ من ذاته.
أرسطو
إي نعم.
بارمنيدس
وأنت تعلم أنّ الأسنّ إنّما أسنّ بالإضافة لشيء يكون أحدث سنّا.
أرسطو
إنّي أعرف.
بارمنيدس
فالواحد وهو يصير أسنّ، فيلاقي الحاضر، فهو يكون إذن أحدث سنّا من ذاته.
أرسطو
اضطرارا.
بارمنيدس
ولكن الحاضر إنّما يصاحب أبدا الواحد في كامل وجوده، لأنّ الواحد ما دام كان موجودا، فهو أبدا موجود وجودا حاضريّا.
أرسطو
قطعا.
بارمنيدس
فقد بان إذن بأنّ الواحد هو أسنّ وأحدث سنّا من ذاته، وهو يصير أبدا أسنّ وأحدث سنّا من ذاته.
أرسطو
لكأنّ الأمر كما قلت.
بارمنيدس
ولكن الواحد هل هو مساو لذاته في الزّمن أم أطول منها زمانا، وهل يصير مساويا لذاته في الزّمن أم أطول منها ؟
أرسطو
إنّه مساو.
بارمنيدس
فهو إذا كان مساويا في الزّمن لذاته أو يصير مساويا لها، فإّنه يكون على سنّ ذاته.
أرسطو
بلا شكّ.
بارمنيدس
وما يكون على سنّ شيء، لا يكون لا أسنّ منه ولا أحدث سنّا.
أرسطو
لا يكون حقّا.
بارمنيدس
إذًا فالواحد، إذا صار مساويا في الزّمن لذاته أو كانه، فلا يكون حينئذ أحدث سنّا ولا أسنّ من ذاته، ولا يصير أحدث سنّا ولا أسنّ من ذاته.
أرسطو
وهو رأيي.
بارمنيدس
وما بالك في الأغيار ؟
أرسطو
ما بالها ؟
بارمنيدس
بل هناك أمر يجوز لك أن تقول أبدا: إنّ الأشياء الغير الواحد، إن كانت بما هي مغايرة للواحد كثيرة في العدد ولم تكن غيرا واحدا، فإنّها تكون أكثر عددا من الواحد. أمّا إن كانت أمرا واحدا مغايرا، فستكون واحدا فحسب؛ ولكنّ الأشياء الغير لأنّها كثيرة، فهي أكثر عددا من الواحد، ولذلك كانت كمّا.
أرسطو
إنّها كمّ حقّا.
بارمنيدس
وإذ صحّ بأنّها كمّ، فهي تشارك في عدد أكبر من الواحد.
أرسطو
بلا شكّ.
بارمنيدس
ألا فانظر، أيّهما ، إنّما نقول فيه أنّه يولد أوّلا، وكان قد وُلد أوّلا، الأشياء الأعظم، أم الأشياء الأصغر.
أرسطو
بل الأشياء الأصغر.
بارمنيدس
إذًا فالأصغر يولد أوّلا، وهذا إنّما هو الواحد.
أرسطو
إنّه الواحد.
بارمنيدس
فالواحد إذًا في الأعداد كلّها الّذي يولد أوّلا. ولكن سائر الأشياء هي ذات عدد لأنّها ليست بشيء واحد غير، بل أشياء كثيرة غير.
أرسطو
إنّها ذات عدد حقّا.
بارمنيدس
والواحد المولود أوّلا، لا مِرْيَةَ في أنّه قد وُلِد أوّلا، وسائر الأشياء قد وُلدت بعده، وما يولد آخرا إنّما يكون أحدث سنّا ممّا وُلد أوّلا. فبان إذن بأنّ سائر الأشياء هي أحدث سنّا من الواحد، والواحد هو أسنّ منها.
أرسطو
لقد صدقت.
بارمنيدس
XX - فلتنظر الآن: إنّه لمن المحال أن تكون ولادة الواحد ولادة على المجرى المضادّ لطبيعته.
أرسطو
إنّه من الحال.
بارمنيدس
و نحن كنّا قد رأينا بأنّ لِلْواحد أجزاء، ولأنّه ذو أجزء، فله مبتدأ، ونهاية، ووسط.
أرسطو
لقد رأينا.
بارمنيدس
ولكن في الأمور كلّها، أكان في الواحد نفسه، أو في آحاد الأشياء الأغيار، إنّما أبدا المبتدأ ما يولد أوّلا، ثمّ البقيّة إلى النّهاية.
أرسطو
بلا شكّ.
بارمنيدس
وقد نقول بأنّ هذه البقيّة كلّها، إنّما أجزاء الكلّ والواحد، وأنّ الواحد قد صار واحدا وكلاّ حين النّهاية.
أرسطو
إنّا نقول هذا.
بارمنيدس
ولكن النّهاية، فيما أرى، إنّما تنشأ الآخرة، والواحد لا يظهر ظهورا طبيعيّا في الوجود إلاّ إذا تحصّلت النّهاية، وعليه، فإن كان الواحد في ذاته لا يمكن أن يوجد وجودا على المجرى المضادّ لطبيعته، لأنّه لا يولد إلاّ في النّهاية، فحكم الطّبيعة إنّما قاضٍ بأن تكون ولادته إنّما هي الآخر مطلقا.
أرسطو
قطعا.
بارمنيدس
فبان إذًا بأنّ الواحد هو أحدث سنّا من الأغيار، وأنّ الأغيار أسنّ من الواحد.
أرسطو
ولكأنّ هذا كما قلت أيضا.
بارمنيدس
ألا فانظر، إنّ المبتدأ في الواحد، أو أيّ جزء من أجزائه، أو أيّ جزء شيء ما، بشرط كونه جزء واحدا لا أجزاء كثيرة، لامحالة هو واحد، لأنّه هو جزء واحد.
أرسطو
لا محالة.
بارمنيدس
حينئذ، فالواحد بالضّرورة سيولد مع ولادة الشّيء الأوّل، ثمّ سيولد مع ولادة الشّيء الثّاني، وهلمّ جرّا، ولا يمكن ألاّ يوجد في تكوّن أيّ واحد من سائر الأشياء، ما استمرّ يُزَادُ في سلسلة ما، حتّى يتمّ له الكون كُلاًّ تامّا بعد أن يكون قد قطع الحدود كلّها إلى غاية النّهاية، ولا يكون قد غاب في ولادته عن حدّ من الحدود البتّة، لا الحدّ الأوسط، ولا الأخير، ولا الأوّل، ولا عن أيّ حدّ من الحدود.
أرسطو
إنّ هذا صحيح.
بارمنيدس
فنستخلص إذن بأنّ الواحد هو على سنّ كلّ الأشياء الأخرى، بحيث أنّه، اللّهم إلاّ إذا وضعنا أنّه قد وُلِدَ على المجرى المضادّ لطبيعته، لم يولد لا قبل سائر الأشياء ولا بعدها، وإنّما في نفس وقت ولادتها. فيلزم أيضا من هذا البرهان بأنّ الواحد لا يمكن أن يكون أسنّ من الأغيار، ولا أحدث سنّا منها، و الأغيار لا يمكن أن تكون أحدث سنّا ولا أسنّ من الواحد. أمّا في البرهان الآنف، فكان قد ظهر بأنّ الواحد هو معًا أسنّ من الأغيار وأحدث سنّا منها، والأغيار أسنّ منه وأحدث سنّا.
أرسطو
لقد قلت الصّدق.

بارمنيدس
هذا ما بان في أمر الواحد الموجود، والصّائر. ولننظر الآن في الوضع القائل بأنّ الواحد ليصير معًا، أحدث سنّا من الأغيار وأسنّ منها، والأغيار تصير أحدث سنّا منه وأسنّ، وأنّه لا يصير أحدث سنّا ولا أسنّ من الأغيار، ولا الأغيار منه. فهل حال الصّيرورة كحال الوجود ؟
أرسطو
لا كبير علم لي في هذا.
بارمنيدس
أمّا أنا فأدنى ما يجوز لي أن أقول أنّ الموجود الأسنّ من غيره، فليس من المكن أن يصبح أسنّ منه بفرق في العمر أكبر من الفرق الّذي كان بينهما أوّل ما وُلِدَ، والموجود الأحدث سنّا من غيره لا يمكن أيضا أن يصبح أحدث سنّا من غيره بفرق في العمر أكبر من الفرق الّذي كان بينهما أوّل ما وُلِدَ. لأنّه إذا زِيد إلى مقدارين لا متساويين مقدار واحد، إمّا مقدار زمنيّ أو غيره، فأبدا أحد المقدارين يفضل الآخر بنفس المقدار الّذي كان يفضله به قبل الزّيادة.
أرسطو
قطعا.
بارمنيدس
وعلى ذلك، فالموجود لا يمكن البتّة أن يصير أسنّ ولا أحدث سنّا من موجود من الموجودات، لأنّ الفرق بينهما في العمر إنّما يبقى أبدا فرقا واحدا: إنّما أحدما هو أسنّ من الآخر، والآخر أحدث سنّا: لكنّهما لا يصيران أحدهما أسنّ والآخر أحدث سنّا.
أرسطو
هذا صحيح.
بارمنيدس
فالواحد الموجود لا يصير أبدا لا أسنّ من الأغيار الموجودة ولا أحدث سنّا.
أرسطو
إنّه لا يصير أبدا.
بارمنيدس
ولتنظر الآن إن كان الواحد من هذه الحيثيّة الأخرى قد يصير أسنّ وأحدث سنّا، والأغيار تصير أسنّ وأحدث سنّا من الواحد.
أرسطو
وأيّ حيثيّة ؟
بارمنيدس
من هذه الحيثيّة الّتي بدا لنا فيها الواحد أسنّ من الأغيار، والأغيار أسنّ من الواحد.
أرسطو
إيهٍ.
بارمنيدس
لمّا الواحد يكون أسنّ من الأغيار، فذلك، لاشكّ، لأنّ الواحد قد وُجِد من زمن أطول من زمن الأغيار.
أرسطو
نعم.
بارمنيدس
فلتروّ، إنّه لو زدنا إلى زمن أطول، وزمن أقصر، زمنا واحدا، فالزّمن الأطول سيفضل الأقصر بعدد كسريّ واحد أم بعدد كسريّ أصغر.
أرسطو
بل بعدد كسريّ أصغر.
بارمنيدس
إذن فالفرق في العمر بين الواحد والأغيار لايبقى بأخرة كما كان في الأوّل؛ بل كلّما زِيد مقدار زمنيّ واحد إليهما الاثنين، فإنّ الفرق بينهما في العمر يطرّد في الصّغر أبدا.
أرسطو
إنّه يطّرد في الصّغر.
بارمنيدس
وإذَا الفرق في العمر بين موجود وغيره، يذهب في التّنقّص، فإنّ هذا الموجود سيصير أحدث سنّا من ذي قبل بالقياس إلى ما كان يكبره فيه.
أرسطو
بلا شكّ.
بارمنيدس
ولكن إنْ هذا الموجود قد صار أحدث سنّا، فالأغيار إنّما ستصير إذًا أسنّ من ذي قبل بالقياس إليه.
أرسطو
بلا شكّ.
بارمنيدس
فإذن ما يكون أحدث سنّا بالولادة، يصير أسنّ بالإضافة لِما كان قد وُلد قبله وكان أسنّ منه. ولكن هو لا يكون البتّة أسنّ، وإنّما يصير أبدا أسنّ منه، لأنّ الثّاني لا ينفكّ أبدا عن أن يتجدّد فيه الشّباب بالإضافة للأوّل، والأوّل عن أن يتجدّد فيه الكبر بالإضافة للثّاني. وبالعكس، فالأسن إنّما ينقلب أيضا أحدث سنّا من الأحدث سنّا. وذلك لأنّه بسلوكهما كلّ منهما اتّجاها متعاكسا، فهذا يصير ضدّا لهذا، أي الأحدث سنّا يصير أسنّ من الأسنّ، والأسنّ يصير أحدث سنّا من الأحدث سنّا، ولا يمكن لهما إتمام هذه الصّيرورة، لأنّه لو أتمّاها لكفّا عن الصّيرورة، ولصارا موجودين بالفعل بصفتهما فحسب. ولكن الأمر في نفسه أنّهما لَيصيران أبدا هذا أسنّ من الأخر، والآخر أسنّ منه، وهذا أحدث سنّا من الآخر والآخر أحدث سنّا منه. فالواحد يصير أحدث سنّا من الأغيار لأنه قد بان أنّه أسنّ وقد وُلد أوّلا، والأغيار تصير أسنّ من الواحد لأنّها قد وُلِدَت آخرا. والبرهان نفسه إنّما يصحّ أيضا في أمر الأغيار بالإضافة إلى الواحد، لأنّه قد بُيِّنَ أنّها لأسنّ منه، وكانت قد تقدّمته في الولادة.
أرسطو
لعمري، إنّ الأمر لكما قلت.
بارمنيدس
فنستخلص بأنّ الواحد لا يصير أسنّ من الأغيار ولا أحدث سنّا منها، ولا الأغيار تصير أسنّ من الواحد ولا أحدث سنّا منه، وهذا من حيثيّة أنّهما لاواحد منهما قد يصير أسنّ أو أحدث سنّا من الآخر، لكونهما إنّما يفترقان بمقدار واحد من الزّمن. أمّا من حيث أنّ العدد الكسريّ الّذي يفارق به الأقدم الأحدث، والأحدث الأقدم، إنّما يتنقّص أبدا إلى ما لانهاية، فبالضّرورة أنّ الأغيار لَتصير أسنّ وأحدث سنّا من الواحد، والواحد يصير أسنّ وأحدث سنّا من الأغيار معًا.
أرسطو
هذا هو تمام الحقّ.
بارمنيدس
ولهذه الأسباب كلّها، فالواحد هو أسنّ من نفسه وأحدث سنّا منها، وهو أسنّ من الأغيار وأحدث سنّا منها، ويصير أسنّ من ذاته ومن الأغيار، ويصير أحدث سنّا من ذاته ومن الأغيار، وهو ليس بأسنّ ولا أحدث سنّا من ذاته ولا من الأغيار، ولا يصير أسنّ ولا أحدث سنّا من ذاته ولا من الأغيار.
أرسطو
إنّه عين الصّدق.
بارمنيدس
والواحد إذ يشارك في الزّمن وممكن فيه أن ينقلب أسنّ، وأحدث سنّا، فهو لا محالة إنّما يشارك في الماضي والحاضر والمستقبل.
أرسطو
لا محالة.
بارمنيدس
فالواحد إذًا قد كان، وهو كائن الآن، وسيكون.
أرسطو
بلا مِرْية.
بارمنيدس
فالواحد يمكن أن يتّصف، أو كان قد اتّصف، أو سوف يتّصف بأمر ما.
أرسطو
يمكن.
بارمنيدس
فإذن يمكن أن يكون علم، وظنّ، وحسّ بالواحد، لأنّنا الآن أيضا لنحن نفحص فيه.
أرسطو
لقد صدقت.
بارمنيدس
فالواحد إذن له أيضا اسم، وحدّ؛ فقد نسميّه، وقد نعبّر عنه، وكلّ هذه الخواصّ الّتي توجد لسائر الأشياء إنّما قد توجد كذلك للواحد.
أرسطو
ذلك هو الحقّ المبين.


الفرض الثّالث: إذا كان الواحد موجودا وغير موجود ؟
بارمنيدس
XXI - لقد بقي أمر ثالث للفحص. فإذا كان الواحد كما قد بينّاه، أي واحدا وكثيرا، ولا واحدا ولا كثيرا ومشاركا في الزّمن، فإنّه لامحالة سيشارك في الوجود من حيث أنّه واحد، ولن يشارك في الوجود من حيث أنّه ليس بواحد.
أرسطو
لا محالة.
بارمنيدس
وهو من المحال عليه حين مشاركته في الوجود ألاّ يكون مشاركا، وحين لا مشاركته في الوجود أن يكون مشاركا.
أرسطو
من المحال.
بارمنيدس
إذن فزمن المشاركة هو غير زمن اللاّمشاركة، لأنّ هذين المعنيين لا يمكن أن يحصلا في شيء واحد إلاّ كذلك.
أرسطو
صدقت.
بارمنيدس
وأيضا، فإنّ زمن المشاركة في الوجود هو غير زمن المفارقة عنه. إذ كيف يمكن أن يُنَال شيء واحد ثمّ لا يُنَال، إن لم يكن بأن يُأْخَذَ تارة، ويُتْرَكَ أخرى ؟
أرسطو
إنّه لا يكون إلاّ كذلك.
بارمنيدس
وأن يَأْخذ بالمشاركة في الوجود إنّما تُسمّى نشأة ؟
أرسطو
إنّها تسمّى نشأة.
بارمنيدس
وأن يفارق الوجود إنّما تسمّى فناء.
أرسطو
تسمّى فناء.
بارمنيدس
فالواحد إذًا حين يأخذ بالمشاركة في الوجود ينشأ، وحين يفارق الوجود يفنى.
أرسطو
اضطرارا.
بارمنيدس
ولمّا كان الواحد واحدا وكثيرا، ويولد ويفنى، فلا جرم أنّه حين يصير واحدا فهو يفنى من حيث هو كثير، وهو حين يصير كثيرا، فإنّه يفنى من حيث هو واحد.
أرسطو
لا جرم.
بارمنيدس
ولكنّه حين يصير واحدا وكثيرا، فبالضّرورة هو ينقسم ويلتئم.
أرسطو
بالضّرورة إطلاقا.
بارمنيدس
وحين يصير لا متشابها ومتشابها، فهو ينقلب إلى حقيقة واحدة أو يتفرّق.
أرسطو
إي نعم.
بارمنيدس
وحين يصير أكبر، و أصغر، و مساويا، فهو يتزيّد، و يتنقّص، و يتساوى.
أرسطو
حقّا.
بارمنيدس
وهو إذا تحرّك فيكون ساكنا، وإذا سكن فيكون متحرّكا، فإنّه لا محالة لا يكون في زمن البتّة.
أرسطو
وكيف هذا ؟
بارمنيدس
أن يكون أوّلا ساكنا ثمّ يتحرّك، وأن يكون متحرّكا أوّلا ثمّ يسكن، فالواحد لا يمكنه أن يتحلّى بهاتين الصّفتين إلاّ إذا تغيّر.
أرسطو
بلى إلاّ إذا تغيّر.
بارمنيدس
وهو لا يوجد زمن يمكن فيه لِشيء واحد أن يكون ساكنا ومتحرّكا معًا.
أرسطو
لا يوجد البتّة.
بارمنيدس
وهذا الشّيء لا يمكن أن يتغيّر بلا تغيّر.
أرسطو
إنّه لا يمكن.
بارمنيدس
فمتى إذًا هو سيتغيّر ؟ إذ الشّيء لا يتغيرّ لا حين يكون ساكنا، ولا حين يكون متحرّكا، ولا حين يكون في الزّمن.
أرسطو
قطعا.
بارمنيدس
وهذا الأمر الّذي نكون فيه حين نتغيّر لَشيء عجيب.
أرسطو
وأيّ شيء ؟
بارمنيدس
إنّه الآن؛ فيشبه أن يكون الآن مبدأ التغيّر في الاتّجاهين الاثنين. إذ أنّ التغيّر لا يبدأ من السّكون السّاكن بعد، ولا من الحركة المتحرّكة بعد؛ بل هناك كائن عجيب هو الآن يوجد بين الحركة والسّكون، ولا يكون في زمن إطلاقا، ومن هذا الآن إنّما يبدأ التغيّر، إمّا التغيّر من الحركة إلى السّكون، أو من السّكون إلى الحركة.
أرسطو
لكأنّ الأمر كما قلت.
بارمنيدس
إذن فالواحد لو صحّ بأنّه ساكن ومتحرّك، فلابدّ أن يتغيّر لكي يتّصف بواحد من الأمرين. ولا سبيل له ذلك إلاّ بالتغيّر. لكن إذا تغيّر الواحد فسيتغيّر في الآن، وهو حين تغيّره، لا يمكن أن يكون في زمن البتّة، ولا يكون لا في حركة ولا في سكون.
أرسطو
صدقت.
بارمنيدس
وأنماط التغيّر الأخرى يصحّ فيها ما صحّ هنالك. أي حين ينتقل الواحد من الوجود إلى الفناء، أو من العدم إلى النّشأة، فهو لا محالة إنّما يتعدّى بحال متوسّطة بين نوع من الحركة، ونوع من السّكون، فيكون الواحد حينذاك لا لا موجودا، ولا لا يصير، ولا يفنى.
أرسطو
لكأنّ الأمر كما قلت.
بارمنيدس
ولِلعلّة نفسها، فالواحد حين ينتقل من الواحد إلى الكثير، ومن الكثير إلى الواحد، فهو يكون لا كثيرا ولا واحدا، ولا ينقسم ولا يجتمع. وأيضا حين ينتقل من المشابهة إلى اللاّمشابهة، ومن اللاّمشابهة إلى المشابهة، فهو يكون لا مشابها، ولا لا مشابها، ولا يصير لا مشابها ولا لا مشابها. و حين ينتقل من الصّغر إلى الكبر أو إلى المساواة، أو بالعكس، فهو لا يكون صغيرا، ولا كبيرا، ولا مساويا، ولا يتزيّد ولا يتنقّص، ولا يتساوى.
أرسطو
لكأنّ الأمر كما قلت.
بارمنيدس
ذلك ما يكون حال الواحد كلّها إن كان موجودا.
أرسطو
إنّه لا مرية في كلّ ذلك.

الفرض الرّابع: إذا كان الواحد موجودا، فأيّ شيء يلزم لسائر الأشياء ؟
بارمنيدس
XXII - ولننظر الآن إن وُجد الواحد فما يلزم في الأغيار.
أرسطو
لننظر.
بارمنيدس
لنضع إذًا الواحد ولِنر ما عسى أن يلزم في الأشياء الغير الواحد.
أرسطو
لنضع.
بارمنيدس
لمّا كانت الأغيار أغيارا للواحد، فهي ليست بالواحد، وإلاّ لما كانت أغيارا للواحد.
أرسطو
صدقت.
بارمنيدس
ومع ذلك فالأغيار لا تكون فقيرة كلّ الفقر من الواحد، بل لَتشارك فيه بنحو ما.
أرسطو
وكيف هذا ؟
بارمنيدس
لأنّي أرى بأنّ الأغيار ما كانت أغيارا للواحد إلاّ لأنّها ذات أجزاء، لأنّها لو لم تكن ذات أجزاء لكانت الواحد إطلاقا.
أرسطو
حقّا.
بارمنيدس
ولكن إذَا كانت أجزاء فهناك كلّ، هذا الكلّ هو هذه الأجزاء جميعا.
أرسطو
اضطرارا.
بارمنيدس
والكلّ إنّما بالضّرورة هو وحدة، وهي وحدة مؤلّفة من أشياء كثيرة، وأجزءها هي أجزاء؛ وذلك لأنّ كلّ جزء جزء لا يكون جزء لأشياء كثيرة بل لكلٍّ.
أرسطو
وكيف هذا ؟
بارمنيدس
إنّه إذا كان شيء جزء لأشياء كثيرة، هو فرد فيها، فلا محالة ذلك الشّيء سيكون جزء في ذاته، وهذا لخلف، وسيكون جزء لسائر الأشياء، لأنّه جزء لها كلّها. لأنّه لو وُجد جزء لم يكن ذلك الشّيء فيه لَوُجِدَ في سائر الأشياء ولم يوجد في ذلك الجزء، وحينئذ لا يكون الشّيء جزء لجزء جزء تلك الأشياء الكثيرة، وإذا صحّ أنّه ليس بجزء كلّ أجزائها، فلا يكون الشّيء جزء لكثرة من الكثرات. وإذا صحّ أنّ الشّيء ليس بجزء كثرة من الكثرات، فلا وجود للشيّء في واحد منها لا بنحو الجزء أوغيره.
أرسطو
إنّه لضروريّ.
بارمنيدس
فالجزء لا يكون إذن لا جزء كثرة من الأشياء، ولا كلّها، وإنّما جزء لمعنى ما واحد، أي لنوع من الوحدة نطلق عليه اسم الكلّ، وهي وحدة كاملة تكون ناشئة عن المجموع: هذا ما يكون الجزء جزء له.
أرسطو
صدقت كلّ الصّدق.
بارمنيدس
فلو سائر الأشياء كان لها أجزاء، فهي تشارك أيضا في الكلّ والواحد.
أرسطو
بلا ريب.
بارمنيدس
فالأشياء المغايرة للواحد هي إذن بالضّرورة كلّ واحد وتامّ ذو أجزاء.
أرسطو
بالضّرورة.
بارمنيدس
ولنا أن نقول الشّيء نفسه في حقّ كلّ جزء جزء، لأنّه هو أيضا يشارك بالضّرورة في الواحد. إذ لمّا كان كلّ واحد من الأجزاء هو جزء، فعبارة كلّ واحد إنّما تدلّ واضح الدّلالة على شيء هو واحد يمتاز عن البقيّة كلّها ويوجد لذاته، لأنّ كلّ واحد لهو يوجد.
أرسطو
صدقت.
بارمنيدس
وإذا كان كلّ جزء لَيشارك الواحد، فبيّن أنّه هو غير الواحد؛ وإلاّ لما كان لِيشارك الواحد، بل كان يكون هو الواحد نفسه. وأنت تعلم أنّه من المحال على غير الواحد أن يكون هو عين الواحد.
أرسطو
من المحال.
بارمنيدس
ولكن الكلّ والجزء إنّما يشاركان في الواحد لا محالة. فالأوّل هو كلٌّ واحد أجزاءه أجزاء، وكلّ جزء جزء هو جزء واحد في كلٍّ هو جزء فيه.
أرسطو
هذا صحيح.
بارمنيدس
فالأشياء المشاركة في الواحد ما كانت لِتشارك في الواحد لو لم تكن مغايرة له.
أرسطو
بلا شكّ.
بارمنيدس
والأشياء المغايرة للواحد هي كثيرة العدد. إذ لو كانت الأشياء المغايرة للواحد لا واحدا ولا أكثر من واحد لكانت عدما محضا.
أرسطو
لكانت عدما محضا حقّا.
بارمنيدس
وإذ قد بان الآن بأنّ الأشياء المشاركة في الجزء، وفي الكلّ الواحد هي أكثر عددا من الواحد، فإنّه يلزم لزوما ضروريّا بأن تكون هذه الأشياء المشاركة في الواحد ذات عدد لا متناهيا.
أرسطو
وكيف هذا ؟
بارمنيدس
لتنظر للأمر من هذه الحيثيّة. إنّه بيّن أنّ هذه الأشياء حين تأخذ في المشاركة في الواحد، لاتكون بعد واحدا ولا مشاركة فيه.
أرسطو
إنّه بيّن.
بارمنيدس
إنّها حينئذ تكون كثيرة، لأنّ الواحد لا يكون فيها بعد.
أرسطو
إنّها تكون كثيرة قطعا.
بارمنيدس
ألا فانظر، إنّا لو رمنا أن نجرّد بالذّهن أصغر قطعة يمكن أن نتوهّمها، فهذه القطعة إذا لم تكن تشارك بعد في الواحد، فلا محالة هي ستكون كثرة ولا تكون البتّة الوحدة.
أرسطو
لا محالة.
بارمنيدس
إذن، فإذا داومنا النّظر هذا النّظر في ذلك الضّرب من الوجود المغاير للصّورة، فإنّ ما سوف نراه متتابعا، إنّما هو اللاّمتناهي العدد.
أرسطو
بلا مِرية.
بارمنيدس
وأيضا، حينما كلّ جزء جزء، الواحد بعد الآخر، يصير جزء، فحينئذ الأجزاء ستكون محدودة بالإضافة إلى سائر الأجزاء وبالإضافة إلى الكلّ وبالإضافة للأجزاء.
أرسطو
قطعا.
بارمنيدس
فقد بان إذًا أنّ الأشياء غير الواحد، حينما تتّصل بالواحد فإنّها يعرض فيها شيء مغاير يهبها الحدود بالإضافة لبعضها البعض، أمّا في طبيعتها هي فهي لا متناهية في نفسها.
أرسطو
إنّه بيّن.
بارمنيدس
وهكذا فالأشياء المغايرة للواحد، فمن حيث هي أجزاء ومن حيث هي أكلال، فهي لا محدودة و تشارك في الحدّ.
أرسطو
حقّا.
بارمنيدس
وتكون أيضا مشابهة ولا مشابهة لذاتها ولبعضها البعض.
أرسطو
وكيف ذلك ؟
بارمنيدس
إنّه من حيث هي كلّها ذات طبيعة واحدة لامتناهية، فهي إذًا ذات صفة مشتركة.
أرسطو
إي نعم.
بارمنيدس
ومن حيث هي تشارك كلّها في الحدّ، فهي أيضا ذات صفة مشتركة.
أرسطو
اضطرارا.
بارمنيدس
ومن حيث هي معًا محدودة ولا محدودة، فهو يعتورها أوصاف متاضدّة.
أرسطو
إنّه يعتورها.
بارمنيدس
لكنّ الأشياء المتاضدّة إنّما تكون على أقصى غاية ممكنة من اللاّتشابه.
أرسطو
بلا شكّ.
بارمنيدس
فإذن فسائر الأشياء لِمكان الصّفة الأولى والثّانية هي مشابهة لنفسها ولبعضها البعض؛ وللصّفتين معًا، فهي على غاية التّضادّ واللاّمشابهة.
أرسطو
كأنّ الأمر كما قلت.
بارمنيدس
فقد بان إذًا بأنّ سائر الأشياء هي معًا مشابهة ولا مشابهة لنفسها، ولبعضها البعض.
أرسطو
إنّه قد بان.
بارمنيدس
وتلخيص الدّلالة أنّ سائر الأشياء المغايرة للواحد هي هي هي نفسها، وهي مخالفة بعضها البعض، وأنّها متحرّكة وساكنة، وإذ قد بينّا كلّ هذا، فمن اليسير أن نبيّن أنّها أيضا لَموضوع لكلّ الصّفات الأخرى المتضادّة.
أرسطو
لقد صدقت.

الفرض الخامس: إذا كان الواحد موجودا فأيّ الأشياء العدميّة اللاّزمة.
بارمنيدس
XXIII - وبعد أن بينّا هذه المسائل، فلندعها، ولنعاود أخذ الفرض بأنّ الواحد موجود، ولنفحص إن كان يلزم للأشياء الأغيار لوازم هي مغايرة للّتي رأيناها آنفا أو لا يلزم.
أرسطو
لنفحص.
بارمنيدس
فلنعاود إذن أخذ الفرض بأنّ الواحد موجود ولننظر ما يلزم للأشياء المغايرة للواحد.
أرسطو
لننظر.
بارمنيدس
أفلا ترى بأنّ الواحد إنّما يوجد منحازا عن سائر الأشياء، وسائر الأشياء إنّما توجد منحازة عن الواحد ؟
أرسطو
ولِمَ ؟
بارمنيدس
وذلك لأنّه لا يوجد البتّة أمر ثالث هو غير الواحد وغير الأغيار؛ فإذا قلنا الواحد والأغيار، فلقد قلنا لعمري كلّ شيء.
أرسطو
لقد قلنا كلّ شيء بحقّ.
بارمنيدس
فلا شيء يوجد غيرهما حتّى يمكن للواحد والأغيار أن يوجدا معا فيه.
أرسطو
إنّه لا يوجد.
بارمنيدس
فالواحد والأغيار لا يوجدان في مكان واحد.
أرسطو
لكأنّ الأمر كذلك.
بارمنيدس
فهما منفصلان إذًا.
أرسطو
إنّهما منفصلان.
بارمنيدس
ولقد حكمنا بأنّ ما يكون واحدا حقّ الواحديّة فلا أجزاء له.
أرسطو
إنّه لايكون له حقّا.
بارمنيدس
فينتج أن الواحد لا يمكن أن يكون في الأغيار لا بأسره، ولا بأجزائه، إن كان بحقّ هو منفصل عنها ولا أجزاء له.
أرسطو
إنّه لايكون حقّا.
بارمنيدس
فالأغيار لا يمكنها إذًا بوجهٍ المشاركة في الواحد، لأنّها لا يمكن أن تشارك لا في جزء منه ولا في كلّه.
أرسطو
لكأنّ الأمر كذلك.
بارمنيدس
فالأغيار عارية إطلاقا من الواحد، ولا يوجد فيها الواحد بوجهٍ.
أرسطو
إنّه لا يوجد بوجه.
بارمنيدس
فالأغيار إذًا ليست أيضا بالكثيرة. لأنّها لو كانت كثيرة، لكان كلّ واحد منها واحدا من حيثيّة أنّه جزء لكلّ، والحقّ أنّ الأشياء المغايرة للواحد، هي ليست لا واحدة، ولا كثيرة، ولا أكلالا، ولا أجزاء لأنّها لا مشاركة لها في الواحد بوجه من الوجوه.
أرسطو
لقد صدقت.
بارمنيدس
والأشياء المغايرة للواحد هي ليست نفسها، لا اثنين ولا ثلاثة، ولا تضمّ لا اثنين ولا ثلاثة، لأنّها هي عارية تماما من الواحد.
أرسطو
هذا صحيح.
بارمنيدس
إذن فالأغيار نفسها هي لا مشابهة ولا لا مشابهة للواحد، وليس فيها مشابهة ولا لا مشابهة؛ وذلك لأنّه لو كانت هي نفسها مشابهة ولا مشابهة، أو وُجد فيها المشابهة واللاّمشابهة، لساغ لنا أن نقول بأنّ الأشياء المغايرة للواحد موجود فيها صورتان متضادّتان اثنتان.
أرسطو
بلا شكّ.
بارمنيدس
ولكن قد سبق أن رأينا بأنّه من المحال لما لا يشارك في شيء أن يشارك في أمرين اثنين.
أرسطو
إنّه من الحال.
بارمنيدس
فالأغيار إذن ليست مشابهة ولا لا مشابهة، ولا هي معًا مشابهة ولا مشابهة. لأنّه لو كانت مشابهة أو لا مشابهة، لشاركت في واحدة من الصّورتين، ولو كانت موصوفة بالصّفتين معًا، لشاركت في صفتين متضادّتين؛ ولكن قد بان لنا استحالة ذلك.
أرسطو
إنّه قد بان.
بارمنيدس
والأغيار أيضا لا هي هي هي، ولا هي مغايرة، ولا تتحرّك ولا تسكن؛ ولا تنشأ ولا تفنى؛ ولا هي أكبر ولا أصغر ولا مساوية، ولا صفة فيها من تلك الصّفات؛ وذلك لأنّ الأغيار لو كانت قد تقبل واحدة من تلك الصّفات، لشاركت الواحد، والاثنين، والثّلاثة، ولشاركت الفرديّة، والزّوجيّة، وهذه صفات كان قد ظهر استحالة مشاركة الأغيار فيها، لأنّ الأغيار إنّما هي فقيرة كلّ الفقر من الواحد.
أرسطو
إنّه لعين الحقّ.
بارمنيدس
وهكذا فإذا كان الواحد موجودا فهو كُلٌّ، ولا يكون واحدا لا بالإضافة إلى ذاته ولا بالإضافة إلى سائر الأشياء.
أرسطو
إنّه لعين الصّدق.

الفرض السّادس: إذا كان الواحد غير موجود.
بارمنيدس
ذلك ما قد قرّرنا. فلننظر الآن إذا كان الواحد غير موجود فأيّ لوازم قد تلزم ؟
أرسطو
إنّه لا بدّ أن ننظر.
بارمنيدس
إذن فأيّ شيء هذا الفرض: إذا كان الواحد غير موجود، وهل يختلف في شيء عن هذا الفرض: إن كان اللاّواحد غير موجود ؟
أرسطو
نعم إنّه ليختلف.
بارمنيدس
هل هذان الفرضان هما مختلفان فحسب، أم إنّ قولنا إذا كان الواحد غير موجود، وإذا كان اللاّواحد غير موجود لهما قولان متاضدّان إطلاقا.
أرسطو
إنّهما متاضدّان إطلاقا.
بارمنيدس
وحين نقول: إذا كان الواحد غير موجود، أو إذا كان الصّغير غير موجود، أو أيّ أمر آخر، فهو بَيِّنٌ أنّما في كلّ مرّة إنّما نقول في الشيّء الغير موجود بنحو الشّيء المخالف.
أرسطو
إنّه بيّن.
بارمنيدس
و الآن حين نقول: إذا كان الواحد غير موجود، فهو بيّن أنّما نقول في الأمر الغير موجود بنحو الأمر المغاير لسائر الأمور، وأنّا نعلم ما يُراد بهذا القول.
أرسطو
إنّا نعلم.
بارمنيدس
إنّا حين نسمّي الواحد فنضيف إليه إمّا الوجود أو اللاّوجود، فإنّا لَنفهم أوّلا بأنّه لَشيء يمكن أن يُعرف، وبأنّه مغاير لسائر الأشياء. لأنّا حين نقول شيء ما لايوجد، فلا جرم أنّا لَنفهم حقيقته ونفهم بأنّه لمَغاير لسائر الأشياء.
أرسطو
اضطرارا.
بارمنيدس
فلنعد من رَأْسٍ، ولِنر ما قد يلزم إذا كان الواحد لا يوجد. فينبغي أوّلا أن نقرّ له بهذه الصّفة، ألا وهي أنّه لمَوضوع علم. وإلاّ ما كنّا لِنفهم شيئا من قولنا إذا كان الواحد غير موجود ؟
أرسطو
ما كنّا لِنفهم شيئا حقّا.
بارمنيدس
وأنّ سائر الأشياء هي مغايرة له، وإلاّ لمَا كان لِِيمكن أن نقول بأنّ الواحد نفسه هو مغاير لسائر الأشياء.
أرسطو
بلا شكّ.
بارمنيدس
XXIV - فلابدّ إذن من أن نخلع على الواحد معنى المغايرة، بعدما أن قد ثبت له معنى كونه معلوما؛ وذلك أنّه حين يُقال إنّ الواحد مغاير لسائر الأشياء، فإنّما لِيُدلّ به على أنّه هو المغاير، لا الأغيار.
أرسطو
لكأنّ الأمر كما قلت.
بارمنيدس
وأيضا، فالواحد الغير موجود إنّما يشارك في ذلك، في شيء ما، وفي هذا، وفي هؤلاء، وفي سائر المقولات من هذا الضّرب؛ وذلك لأنّ ما كنّا لِنستطيع أن نتكلّم في الواحد، ولا في سائر الأشياء المغايرة للواحد، وما كان لِيكون موصوفا البتّة بإلى ذلك، ومن ذلك، وما كنّا لِنستطيع أن نقول فيه أنّه شيء ما، لو لم يشارك في شيء ما، أو في سائر المقولات المذكورة.
أرسطو
ما كنّا لنستطيع حقّا.
بارمنيدس
فالواحد إذًا إن لم يكن موجودا فلا يمكن أن يكون موجودا، ولكن لا شيء البتّة يمنع من أن يشارك في معان كثيرة، بل إنّه ولأنّه هو واحد هو غير موجود، وليس شيئا غيره، من الاضطرار أن يشارك في تلك المعان. أمّا لو لم يكن الواحد هو الغير الموجود، بل تعلّق الأمر بشيء مغاير، فلا يمكن أن ننبس بنت شفة. أمّا لو كان إنّما هذا الواحد، وليس غيره ما نضعه غير موجود، فلابدّ أن يشارك في الهذيّة، وفي معان أخرى كثيرة.
أرسطو
إنّه لكذلك قطعا.
بارمنيدس
فالواحد إذن هو أيضا لا مشابه لسائر الأشياء؛ وذلك لأنّ سائر الأشياء فلأنّها غير الواحد، فهي من طبيعة أخرى.
أرسطو
إنّها من طبيعة أخرى.
بارمنيدس
فإن كانت من طبيعة أخرى، فهي مختلفة.
أرسطو
إنّها مختلفة بلا شكّ.
بارمنيدس
وأن يكون مختلفا إنّما هو أن يكون لا مشابها.
أرسطو
إنّه لَكذلك حقّا.
بارمنيدس
وإن وُجِدت أشياء لامشابهة للواحد، فلا جرم بأنّ هذه الأشياء اللاّمشابهة إنّما لا مشابهة لشيء هو لا مشابه.
أرسطو
قطعا.
بارمنيدس
فإذن هناك في الواحد أيضا لا مشابهة، بها كانت سائر الأشياء لا مشابهة بالإضافة إليه.
أرسطو
لكأنّ الأمر كما قلت.
بارمنيدس
وإن كان للواحد لا مشابهة بالإضافة لسائر الأشياء، فبالاضطرار هو ذو مشابهة بالإضافة إلى ذاته.
أرسطو
وكيف ؟
بارمنيدس
لأنّه لو كانت هناك لا مشابهة للواحد بالإضافة لذاته، فلن يكون الواحد، ولن يتعلّق فرضنا بالواحد، بل بأمر آخر غير الواحد.
أرسطو
بلا شكّ.
بارمنيدس
وهذا لا يكون.
أرسطو
إنّه لا يكون.
بارمنيدس
فإذن الواحد هو مشابه لذاته اضطرارا.
أرسطو
اضطرارا.
بارمنيدس
والواحد لا يكون أيضا مساويا لسائر الأشياء؛ لأنّه لو كان مساويا لها، لكان بذاك هوهو، ومشابها لها لِمكان نفس المساواة، وذانك أمران محالان إن كان الواحد غير موجود.
أرسطو
إنّه محال.
بارمنيدس
ولمّا كان الواحد غير مساو لسائر الأشياء، فلا جرم أنّ سائر الأشياء هي غير مساوية له أيضا.
أرسطو
لا جرم.
بارمنيدس
وما لا يكون مساويا إنّما يكون لا مساويا.
أرسطو
إنّه يكون لا مساويا.
بارمنيدس
وما يكون لا مساويا إنّما يكون لا مساويا للامساو.
أرسطو
بلا مِرْية.
بارمنيدس
فالواحد إذًا لَيشارك في اللاّمساواة الّتي بها إنّما كان لا مساويا لسائر الأشياء اللاّمساوية له.
أرسطو
إنّه يشارك.
بارمنيدس
ولكن في اللاّمساوة إنّما يوجد الكبر والصّغر.
أرسطو
إنّه يوجد.
بارمنيدس
إذن فهناك أيضا صغر وكبر في هذا الواحد.
أرسطو
يشبه أن يكون كذلك.
بارمنيدس
ولكن الصّغر والكبر إنّما هما متنائيان.
أرسطو
قطعا.
بارمنيدس
فلابدّ إذًا أن يوجد أبدا حدّ أوسط بينهما الاثنين.
أرسطو
إنّه يوجد.
بارمنيدس
وليس هذا الحدّ الأوسط إلاّ المساواة.
أرسطو
إنّها المساواة ليس غير.
بارمنيدس
إذن فحيثما يوجد الكبر والصّغر يوجد أيضا المساواة بينهما.
أرسطو
بلا شكّ.
بارمنيدس
إذن فالواحد الغير موجود، هو يشارك في المساواة، وفي الكبر، وفي الصّغر.
أرسطو
لكأنّ الأمر كما قلت.
بارمنيدس
بل إنّ الواحد لمُضطرّ أيضا لأن يشارك في الوجود بنحو ما.
أرسطو
وكيف هذا ليت شعري ؟
بارمنيدس
إنّ قولنا في الواحد ينبغي أن يكون مطابقا لِما في نفسه. وإلاّ لم نقل قولا صادقا حين نقول بأنّ الواحد غير موجود. ولكن نحن حين نقول صِدقا فإنّا لامحالة إنّما نقول فيما هو موجود.
أرسطو
قطعا.
بارمنيدس
إذن فمتى قلنا صدقا، فإنّا نقول بالضّرورة في أمر موجود.
أرسطو
بالضّرورة.
بارمنيدس
فالواحد إذن هو غير موجود لأنّه لو لم يكن غير موجود، لسرى في لا وجوده الوجود فينقلب موجودا.
أرسطو
بلا شكّ.
بارمنيدس
وعلى هذا فالواحد مادام لا موجودا فلابدّ أن يَلْتَبِسَ به اللاّوجود، أي وجود اللاّوجود، مثلما أنّ ما يوجد لابدّ أن يلتبس به لا وجود اللاّوجود لِيوجد حقّ الوجود، سواء بسواء. فالشّرط الّذي لا بدّ منه حتّى يوجد الموجود تمام الوجود، وحتّى لا يوجد اللاّموجود، إنّما هو أن يشارك الموجود في وجود الوجود الموجود، وفي لا وجود وجود اللاّموجود، وأن يشارك ما لا يوجد في لاوجود الوجود، وفي وجود اللاّوجود حتّى يكون اللاّ موجود هو لاموجودا بحقّ.
أرسطو
إنّ هذا لَحَقّ.
بارمنيدس
فلمّا كان الموجود يشارك في اللاّوجود، واللاّموجود يشارك في الوجود، كذلك الواحد، فمن حيث هو غير موجود، إنّما يشارك اضطرارا في الوجود حتّى لا يوجد.
أرسطو
اضطرارا.
بارمنيدس
وقد بان أنّ الواحد إن هو غير موجود فله الوجود.
أرسطو
قد بان حقّا.
بارمنيدس
وهو لأنّه غير موجود فله اللاّوجود أيضا.
أرسطو
قطعا.
بارمنيدس
فانظر الآن، إنّ أمرا ما إذا كان بحال ما، إن لم ينتقل إلى حال أخرى، فلا يمكنه البتّة ألاّ يكون بتلك الحال الأولى.
أرسطو
إنّه لا يمكن.
بارمنيدس
لذلك فإنّه أبدا إذا شيء ما كان في حال ما ثمّ لم يبقاه، فهو قد تغيّر.
أرسطو
بلا شكّ.
بارمنيدس
ولكنّ التغيّر إنّما هو حركة.
أرسطو
إنّه حركة.
بارمنيدس
ونحن آنفا أَمَا كنّا قد تبينّا بأنّ الواحد هو موجود ولا موجود.
أرسطو
إنّا قد تبنّا.
بارمنيدس
فالواحد قد ظهر إذًا أنّه بحال وأنّه ليس بها.
أرسطو
قد ظهر حقّا.
بارمنيدس
فإذن الواحد اللاّموجود، هو ذو حركة، لأنّه قد ظهر يتغيّر بالتنقّل من الوجود إلى اللاّوجود.
أرسطو
هذا ممكن.
بارمنيدس
ولمّا كان الواحد لا يوجد في مكان من الأمكنة البتّة، لأنّه غير موجود، فلا يوجد في موجود من الموجودات، فالواحد لا يمكنه أن يتغيّر بأن يتنقّل من مكان لآخر.
أرسطو
إنّه لا يمكنه.
بارمنيدس
فالواحد الغير موجود لا حركة له بالتنقّل.
أرسطو
إنّه لاحركة له.
بارمنيدس
ولا يمكنه أيضا أن يدور في مكان واحد، لأنّه لا يمكن أن يلاصق المكان الواحد، فالمكان الواحد هو وجود، واللاّموجود لا يمكن أن يوجد في موجود.
أرسطو
إنّه لا يمكنه حقّا.
بارمنيدس
فالواحد اللاّموجود لا يمكن له أن يدور في شيء لا يكون هو فيه.
أرسطو
إنّه لا يمكن.
بارمنيدس
والواحد أيضا لا يستحيل، لا الواحد الموجود ولا الواحد اللاّموجود؛ لأنّه لو استحال لصار ما يُبْحَثُ فيه ليس هو نفسه بل أمرا آخر.
أرسطو
صدقت.
بارمنيدس
وإذا كان هو لا يستحيل، ولا يدور في مكان واحد، ولا يتنقّل، فهو لايتحرّك إطلاقا.
أرسطو
إنّه لا يتحرّك إطلاقا.
بارمنيدس
ولكن ما لايتحرّك فهو بالضّرورة مطمئنّ، وما يكون مطمئنّا فهو بالضّرورة ساكن.
أرسطو
اضطرارا.
بارمنيدس
فقد بان إذن بأنّ الواحد اللاّموجود هو متحرّك وساكن.
أرسطو
لكأنّ الأمر كذلك.
بارمنيدس
وهو أيضا إذا كان متحرّكا، فلا محالة يستحيل؛ وذلك لأنّه على قدر ما يتحرّك شيء ما، ينأى عن هيئته الأولى، ويتّخذ أخرى.
أرسطو
حقّا.
بارمنيدس
والواحد أيضا إن تحرّك استحال.
أرسطو
نعم استحال.
بارمنيدس
وهو إن لم يتحرّك بوجه، فلا يستحيل بوجه.
أرسطو
لا يستحيل بوجه.
بارمنيدس
إذًا فالواحد الغير موجود، إن تحرّك، استحال، وإن لم يتحرّك، لا يستحيل.
أرسطو
إنّه لا يستحيل.
بارمنيدس
فبان بذلك أنّ الواحد اللاّموجود، قد يستحيل، وقد لا يستحيل.
أرسطو
إنّه قد بان.
بارمنيدس
ولكن ما يستحيل إنّما لامحالة ينقلب غير ما كان أوّلا، ويفنى عن حاله الأولى؛ أمّا ما لايستحيل، فلا يجوز فيه لا الفناء ولا النّشأة.
أرسطو
اضطرارا.
بارمنيدس
إذن فالواحد اللاّموجود، ما استحال، فهو ينشأ ويفنى، وما لم يستحل، فهو لا ينشأ ولا يفنى. وبذلك يَبِينُ بأنّ الواحد اللاّموجود إنّما ينشأ ويفنى، وهو لا ينشأ ولا يفنى.
أرسطو
قد بان حقّا.

الفرض السّابع: إذا كان الواحد غير موجود فلا صفة له من الصّفات.
بارمنيدس
XXV - لِنعد من رأس مرّة أخرى، لنر ما يكون من الأمر بحقّ.
أرسطو
لنعد.
بارمنيدس
إنّا نقول إذا كان الواحد لا يوجد فأيّ شيء قد يلزم يخصّ الواحد ؟
أرسطو
إنّا نقول.
بارمنيدس
إنّا حين ننطق بهذه العبارة لا يوجد، فإنّما لِندلّ بها على ارتفاع الوجود عن الّذي قد قيل فيه أنّه لا يوجد.
أرسطو
إي نعم.
بارمنيدس
ونحن حين نقول عن شيء ما لا يوجد، فليس لِنَدُلَّ على أنّ ذلك الشّيء لا يوجد بهذا النّحو، بل يوجد بنحو آخر، بل إنّا حين نقول عنه هو لا يوجد فلندلّ على أنّ هذا الّذي لا يوجد هو لا يوجد إطلاقا، وأن ليس له مشاركة في الوجود بأيّ نوع من الأنواع أو نحو من الأنحاء.
أرسطو
إنّه ليدلّ على أنّه لا يوجد إطلاقا.
بارمنيدس
فما لا يوجد لا يمكنه إذًا، أن يوجد ولا أن يشارك بنوع من الأنواع في الوجود.
أرسطو
إنّه لا يمكنه حقّا.
بارمنيدس
وأن ينشأ إنّما معناه أن ينال الوجود، ليس غير، وأن يفنى إنّما معناه أن يفقد الوجود، ليس غير.
أرسطو
ليس غير.
بارمنيدس
ولكن ما لايشارك في الوجود بأيّ نوع، ليس يصحّ فيه أن ينال الوجود ولا أن يفقده.
أرسطو
ليس يصحّ فيه حقّا.
بارمنيدس
وعلى هذا فالواحد لمّا كان لا يشارك في الوجود بأيّ نوع، فهو لا يمكنه أن يملك الوجود، ولا أن يناله ولا أن يفقده.
أرسطو
إنّه الصّدق.
بارمنيدس
إذن فالواحد اللاّموجود لا يفنى ولا ينشأ، لأنّه لا يشارك بأيّ نوع في الوجود.
أرسطو
بلا نزاع.
بارمنيدس
وهو أيضا لا يستحيل بأيّ نوع؛ لأنّه لو استحال، لصحّ فيه أن ينشأ وأن يفنى.
أرسطو
لصحّ فيه حقّا.
بارمنيدس
وإن صحّ أنّه لا يستحيل، فهو لا يتحرّك لا محالة.
أرسطو
لا محالة.
بارمنيدس
وإنّه يجوز لنا أيضا القول بأنّ ما لا يوجد في مكان البتّة، فهو ليس بساكن؛ لأنّ السّاكن ما يكون أبدا في مكان واحد.
أرسطو
في مكان واحد بلا شكّ.
بارمنيدس
لنعاود القول إذن بأنّه ما لا يوجد لا يكون أبدا لا في سكون ولا حركة.
أرسطو
إنّه لا يكونهما إطلاقا.
بارمنيدس
وهو فقير تماما ممّا هو موجود، لأنّه لو شارك فيه، لشارك في الوجود.
أرسطو
إنّه لايشارك قطعا.
بارمنيدس
فالواحد اللاّموجود إذن ليس له كبر ولا صغر ولا مساواة.
أرسطو
إنّه ليس له.
بارمنيدس
وليس له أيضا مشابهة ولا مخالفة، لابالإضافة إلى ذاته ولا بالإضافة إلى سائر الأشياء.
أرسطو
إنّه ليس له قطعا.
بارمنيدس
وانظر إن كان سائر الأشياء قد تكون ذات أمر من الأمور بالإضافة إليه.
أرسطو
إنّها لا أمر لها البتّة بالإضافة إليه.
بارمنيدس
فسائر الأشياء إذن هي غير مشابهة له، ولا لا مشابهة، ولا هي هي، ولا مخالفة له.
أرسطو
إنّها لكذلك.
بارمنيدس
ألا فانظر، إنّ ألفاظا كهذه: من ذلك، و إلى ذلك، وشيئا ما، و هذا، و من هذا، و من غير، و إلى غير، و ذات مرّة، و بعدها، و الآن، و العلم والظنّ، والحسّ، والحدّ، والاسم، أو أيّ شيء آخر موجود، أكان من الممكن أن تُطْلق على شيء هو غير موجود ؟
أرسطو
إنّه لا يمكن.
بارمنيدس
فبان إذن أنّ الواحد الغير موجود لا وجود له بضرب من الضّروب.
أرسطو
قد بان حقّا.


الفرض الثّامن: إذا كان الواحد غير موجود، فأيّ شيء قد يلزم لسائر الأشياء ؟
بارمنيدس
-XXVI ولننظر أيضا فيما يكون حال سائر الأشياء إذا كان الواحد غير موجود.
أرسطو
لننظر.
بارمنيدس
إنّ سائر الأشياء لا بدّ أن تكون أغيارا، لأنّها لو لم تكن أغيارا لما جاز أن نقول فيها سائر الأشياء.
أرسطو
لما جاز حقّا.
بارمنيدس
وسائر الأشياء إنّما هي سائر الأشياء لأنّها مخالفة، فعبارتا المخالف والمغاير إنّما يصدقان على موضوع واحد.
أرسطو
إنّهما يصدقان على موضوع واحد.
بارمنيدس
والمخالف إنّما هو مخالف لِشيء مخالف، والغير إنّما هو غير لشيء مغاير.
أرسطو
إنّهما لكذلك.
بارمنيدس
فهناك إذًا لِسائر الأشياء ما صحّت كونها أغيارا، شيء ما بالإضافة إليه هي أغيار.
أرسطو
اضطرارا.
بارمنيدس
وأيّ شيء عسى أن يكون هذا ؟ إنّه لا يمكن أن تكون بالإضافة إلى الواحد هي أغيارا، لأنّ الواحد غير موجود.
أرسطو
إنّه لا يمكن.
بارمنيدس
إذًا فبالإضافة لبعضها البعض إنّما تكون أغيارا؛ لأنّه ما بقي إلاّ ذلك، وإلاّ فإنّها لن تكون أغيار شيء من الأشياء.
أرسطو
لقد صدقت.
بارمنيدس
فهي إذن إنّما تكون أغيارا لبعضها البعض في فئات كَثْرِيِّةٍ؛ لأنّها لايمكن أن تكونه في وحدات، والواحد غير موجود. بل يشبه أن يكون كلّ جرم جرم منها هو لا متناهي في العدد، وحينما نتوهّم أنّا قد أخذنا أصغر جزء فيها، فما يلبث أن ينقلب، كأنّا في حلم، هذا الجزء الواحد مِن واحد، لِيظهر على أنّه كثير، ومِن كونه صغيرا ليظهر كبيرا، وأنّه مكوّن من أجزاء أخرى.
أرسطو
لقد قلت حقّا.
بارمنيدس
إذن فسائر الأشياء إنّما ستكون أغيارا لبعضها البعض وهي أجرام بهذه الطّبيعة، إذَا كانت هي أغيارا ولم يكن الواحد موجودا.
أرسطو
قطعا.
بارمنيدس
فسيكون إذن هناك كثرة من الأجرام، آحادها تظهر على أنّها واحدة، وهي في نفسها ليست واحدة لأنّ الواحد غير موجود.
أرسطو
قطعا.
بارمنيدس
وستكون في ظاهرها عددا، لأنّ كلّ منها في ظاهره هو واحد، وهي كثرة.
أرسطو
اضطرارا.
بارمنيدس
وبعضها سوف يكون في ظاهره زوجا، وبعضها سيكون في ظاهره فرد، ولكن الأغيار لايكون فيها هذا حقيقة، لأنّ الواحد هو غير موجود.
أرسطو
إي نعم.
بارمنيدس
وأيضا سيكون في ظاهرها أنّها تنطوي على أصغر كمّ؛ ولكن هذا الكمّ سوف يظهر أكبر إذ قِيس إلى الأجزاء الكثيرة المكوّنة له.
أرسطو
بلا مرية.
بارمنيدس
وأيضا فكلّ جرم سوف يُقْضَى فيه على أنّه مساو لأجزائه الصّغيرة الكثيرة، وذلك لأنّه لا يمكن أن يظهر على أنّه ينتقل من الأكبر إلى الأصغر، دون أن يظهر بأنّه قد وافى الوسط، فيظهر على أنّه مساو.
أرسطو
لكأنّ الأمر كذلك.
بارمنيدس
والجرم سيظهر أيضا على أنّه محدود بالإضافة إلى جرم آخر، وبالإضافة إلى ذاته، وهو في حقيقته ليس له لا مبدأ، ولا نهاية ولا وسط.
أرسطو
وكيف هذا ؟
بارمنيدس
لأنّه إذا نظرنا في جزء من أجزاء تلكم الأجرام على أنّه واحد من هذه المعاني الثّلاثة، فسيبرز لنا أبدا قبل المبدأ مبدأ آخر، وبعد النّهاية نهاية أخرى، وفي الوسط، شيء آخر أكثر وسطيّة وأدقّ منه، لأنّه هو ممنوع أن يكون لتلك الأجرام حدود بالفعل، والواحد غير موجود.
أرسطو
إنّه ممنوع حقّا.
بارمنيدس
فهذه الأجرام إذا نُظِر إليها من بعيد نظرا باهتا، فإنّها لا محالة ستظهر واحدة؛ أمّا إذا نُظر إليها من قريب وبنظر حادّ، فإنّها ستبين على أنّها لا متناهية في العدد، لأنّها فقيرة من الواحد الغير موجود.
أرسطو
هذا صحيح لا محالة.
بارمنيدس
ولِذلك فسائر الأشياء كلّها إنّما تظهر لا متناهية، ومتناهية، وواحدة وكثيرة، إذا كان الواحد غير موجود، والأشياء المغاير ة للواحد هي موجودة.
أرسطو
إنّها تظهر حقّا.
بارمنيدس
وهي ستظهر أيضا مشابهة ولا مشابهة.
أرسطو
وكيف هذا ؟
بارمنيدس
لنأخذ هذا المثال: وهو لوحة فيها رسوم، فأنت إذا نظرت إليها من بعيد، فسترى كلّ شيء فيها واحد، وذات صورة واحدة ومتشابهة.
أرسطو
بحقّ.
بارمنيدس
وإن اقتربت منها، فسيظهر كلّ شيء كثيرا، ومختلفا، ومغايرا ولا متشابها.
أرسطو
ذلك ما يكون حقّا.
بارمنيدس
فالأجرام إذًا إنّما تظهر لا محالة مشابهة ولا مشابهة لِذاتها، وبعضها يظهر مشابها ولا مشابها لبعضه.
أرسطو
اضطرارا.
بارمنيدس
وهي أيضا لَتظهر هي هي وأغيارا لبعضها البعض، وملاصقة ومنفصلة عن بعضها البعض، ومتحرّكة كلّ أنواع الحركة، وساكنة إطلاقا، وتظهر بأنّه لَتنشأ وتفنى، وأنّها لا تنشأ ولا تفنى، وهي موضوع لِكلّ أنوع المتقابلات الّتي قد نحصيها الآن، لأنّ الواحد غير موجود، والكثرة موجودة.
أرسطو
إنّك صدقت.

الفرض التّاسع: إذا كان الواحد غير موجود، فأيّ الأمور العدميّة الّتي تلزم للأغيار.
بارمنيدس
لنرجع من رأس، ولنسأل: إذا كان الواحد غير موجود، وسائر الأشياء موجودة، فأيّ شيء قد يلزم ؟
أرسطو
لننظر.
بارمنيدس
حينئذ فسائر الأشياء لا تكون واحدة البتّة ؟
أرسطو
إنّها لا تكون واحدة البتّة.
بارمنيدس
ولن تكون كثيرة أيضا؛ لأنّها لو كانت كثيرة، فسيكون الواحد فيها، ولمّا كان لا شيء فيها واحدا، فالجميع لا شيء، وإذن لا يوجد الكثرة.
أرسطو
بحقّ.
بارمنيدس
وهو إذَا لم يكن هناك الواحد في سائر الأشياء، فسائر الأشياء لا تكون لا كثيرة ولا واحدة.
أرسطو
إي نعم.
بارمنيدس
ولن تظهر لا كثيرة ولا واحدة.
أرسطو
ولِمَ ؟
بارمنيدس
وذلك لأنّ سائر الأشياء لا نسبة لها البتّة بما لا يوجد، وما لايوجد لا يوجد في شيء من الأغيار؛ فالشّيء الّذي لا يوجد لا أجزاء له.
أرسطو
إنّه الصّدق.
بارمنيدس
إذًا فلا يوجد لِسائر الأشياء لا ظنّ ولا ظاهر ما لا يوجد، وما لا يوجد البتّة لا يمكن أن يَتَصَوَّره البتّة الغير.
أرسطو
إنّه لا يمكن.
بارمنيدس
فالواحد إذَا لم يكون موجودا، فلا شيء من سائر الأشياء يمكن تصوّره لا بنحو الواحد، ولا بنحو الكثير؛ وذلك لأنّه من المحال تصوّر الكثير من غير الواحد.
أرسطو
إنّ ذلك لمستحيل حقّا.
بارمنيدس
إذن إذا كان الواحد غير موجود، فسائر الأشياء لا تُتَصَوَّرُ لا بنحو الواحد ولا بنحو الكثرة، ولا هي في نفسها كذلك.
أرسطو
لكأنّ الأمر كذلك.
بارمنيدس
وسائر الأشياء لا يمكن أيضا أن تُتَصَوَّر لا بنحو المشابه ولا بنحو اللاّمشابه.
أرسطو
لا يمكن أيضا.
بارمنيدس
ولا يمكن أن تُتَصوّر كذلك لا بنحو الهوهو، ولا بنحوالمخالف، ولا بنحو المتلاصق، ولا بنحو المنفصل، ولن تكون فيها صفة من الصّفات الّتي أحصيناها آنفا وكانت قد ظهرت لنا أنها موجودة فيها: إنّ سائر الأشياء ليس فيها شيء من تلك الأشياء ولا تظهر فيها أيّ صفة منها، إذا كان الواحد غير موجود.
أرسطو
إنّ هذا لهو الصّدق.
بارمنيدس
لذلك فلو رمنا التّلخيص، فلا نخطئ إن قلنا بأنّه إذا كان الواحد غير موجود، فلا شيء قد يوجد.
أرسطو
إطلاقا.
بارمنيدس
فلنُجْمِلْ إذًا، ولنضف أنّ الواحد وُجد أم لم يوجد، فالواحد وسائر الأشياء إمّا بالإضافة لأنفسهما، أو أحدهما بالإضافة للآخر، فإنّه تصحّ فيهما كلّ الّصفات، ولا تصحّ، ويظهر أنّه تصحّ فيهما كلّ الصّفات ولا يظهر.
أرسطو
إنّه الحقّ التّام.

تمّ تعريب محاورة بارمنيدس في 22 أكتوبر 2004 بطبلبة، ولواهب العقل الحمد والمنّة دائما.

* هذه العناوين الفرع لا أصل لها في النّسخة الفرنسيّة الأصليّة، بل من وضعنا نحن للتّيسير على القارئ.


*PLATON, PARMENIDE, Traduction française par Emile Chambry, FLAMMARION 1967.

http://membres.multimania.fr/philosophie15/

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق