الأحد، 8 أغسطس 2010

افلاطون محاورة كريتون

تقديم تعريب محاورة كريطون لأفلاطون.

أ) أشخاص المحاورة :
1) سقراط، أستاذ إفلاطون.
2) كريطون، صديق سقراط منذ الشّباب، وتلميذه المخلص، وهو أيضا من أثرياء أثينا.
ب) مكان المحاورة.
سجن بأثينا.
ج) حيثيّة المحاورة.
كان سقراط قد حُكِمَ عليه بشرب السمّ، لأنّه رُمِيَ بأنّه كان يفسد شباب أثينا، وأنّه يلحد بالآلهة. ولكنّ إنفاذ الحكم فيه قد أُجّل ريثما تعود السّفينة الّتي أبحرت إلى معبد دالوس لتقدّم القرابين إلى الآلهة . وذلك كان شعيرة تفعله أثينا كلّ سنة. وهذه الشّعيرة كانت تقضي أيضا بأنّه لا أحد حُكِمَ عليه بالموت يقتل في تلك الأيّام حتّى رجوع السّفينة. إلاّ أنّه في أثناء ذلك سعى كثير من أصحاب سقراط وتلاميذه أن يخرجوه من السّجن وينقذوه من الموت، لكنّه امتنع وأبى. وآخر مسعى لذلك كان مسعى كريطون لمّا كان قد أزف رجوع السّفينة المذكورة. وفي هذه المحاورة إنّما يظهر إفلاطون كيف أراد كريطون أن يقنع صديقه ومعلّمه بالفرار، وكيف كان جواب سقراط له.
ه) تاريخ تأليف المحاورة.
نحو 385 ق . م.
و) رأينا في المحاورة.
إنّها نصّ سلك فيه الفيلسوف أفلاطون العظيم معانيا قلّما رقا إلى ذراها، واستنبط دررها عقل من العقول في زمن أو مصر. وكلّ الكلام الّذي كان أجراه التّلميذ الفاضل على لسان أستاذه سقراط الحكيم، لمصابيح لطالما قد أنارت سبيل البشر فيما مضى من دهر، و اليوم ما أحوج النّاس إليها، وقد لفّهم الجهل واستأثر بهم الحمق ، وأُفْرِغُوا من كلّ معنى إنسانيّ، ووجوديّ أعلى، وأسمى، يأخذ بهم إلى الكمال والخير.


***

إفلاطون.

كريطون*
تعريب لطفي خيرالله.
**
سقراط.

أيّ شيء جاء بك هذه السّاعة هاهنا يا كريطون، أفليس الوقت الصّبح ؟
كريطون.
بلى، إنّه لكذاك.
سقراط.
فأيّ شيء الوقت على التّعيين هو الآن ؟
كريطون.
لقد أخذت تباشير النّهار في الظّهور.
سقراط
.
ما عجبي إلاّ من السّجّان كيف كان قد رضي بفتحه الباب لك ؟
كريطون.
يا سقراط، إنّماهو لكونه كان قد رآني غير مرّة هاهنا، فقد صار يعرفني غاية المعرفة. ثمّ إنّي لي لديه لَيَدٌ.
سقراط
.
أ قدمت الحين، أم أنّك موجود هاهنا من زمن غير قريب ؟
كريطون.
بل من زمن غير قريب.
سقراط.
فما بالك إذًا، لم ترم إيقاظي أَوَّلَ ما قدمت، بل مكثت بجانبي ممسكا عن الكلام ؟
كريطون.
واللّه، يا سقراط، إنّما أنا قد وزعت نفسي عن ذلك. إذ لو كنت مكانك، لكرهت أيضا أن أُوقَظَ باكرا، فأُتْرَكَ غرضا للبأس والحيرة. وإنّي أيضا، والحقّ أقول، لقد بقيت زمنا غير يسير أنظرك وأتعجّب منك كيف تغطّ في نومك العميق، وما كان إمساكي عن إيقاظك إلاّ تعمّدا حتىّ تستمتع بوقتك ما أمكن من الاستمتاع. و لَكَمْ كنت فيما مضى من عمرك كلّه أُكْبِرُ رباطة جأشك، ولكنّي، وإذْ تبيّنت أيّ صبر وأيّ سلوان قد تجمّلت بهما في هذه النّائبة، فلا إكبار البتّة يضاهي إكباري لها الآن.
سقراط.
ذلك لأنّه، يا كريطون، ليس يَحْسُنُ برجل سنّه كسنّي أن يجزع لدنوّ أجله.
كريطون.
فما بالنا نرى، يا سقراط، من الرّجال ممّن قد أسنّ كما أسْنَنْتَ، هو لايلبث، على سنّه الطّاعن، أن يُظْهِرِ الشّكوى ممّا كان قد كُتِبَ له.
سقراط.
صدقت. ولكن هلاّ أخبرتني ما جاء بك باكرا ؟
كريطون.
إنّما أبكرت زيارتك، ياسقراط، حتّى آتيك بنبأ هو سيء وحزين، كما هو بيّن ، ليس لك، وإنّما لي ولسائر أصحابك كلّهم، ولست أرى أنّه يوجد نبأ أعظم هولا وأشدّ وطأة على احتماليه منه البتّة.
سقراط.
وما ذاك الخبر؟ لاجرم أنّ السّفينة الّتي قُضِي لي أن أموت بعد مجيئها هي قد عادت من دالوس**.
كريطون.
كلاّ، إنّها لم تصل بعد، ولكنّ ظنّي أنّها توافي اليوم، على ما أخبر به رهط قد قدموا من سونيوس**، وكانوا قد تركوها هنالك. فهو ظاهر على ما أخبروا به أنّ وصول السّفينة يكون اليوم، ولذا، فهو لا مناص لك، يا سقراط، من أنّك غدا إنّما تفارق الدّنيا.
سقراط.
فبشراي ثمّ بشراي يا كريطون ! فلو كانت تلك هي مشيئة الآلهة فيّ، كانت مشيئتها. ومع ذلك فأنا لا أرى أنّ السّفينة تصل اليوم.
كريطون.
وكيف ظننت هذا الظنّ ؟
سقراط.
أنا ذاكر لك ذلك. أ فليس بالاضطرار إنّ موتي إنّما يكون اليوم الّذي يلي يوم إيّاب السّفينة.
كريطون.
بلى، فذلك ما كان قد قضى به مَنْ بيدهم الأمر.
سقراط.
لهذا فأنا لا أرى أنّ رجوعها يكون هذا اليوم، بل غدا. وإنّ ذلك إنّما أوحت لي به رؤيا كنت رأيتها هذه اللّيلة، وقد فعلت حسنا في أنّك قد أمسكت عن إيقاظي.
كريطون.
وكيف هي هذه الرؤّيا ؟
سقراط.
لقد رأيت فيما يرى النّائم امرأة ذات حسن ووقار، متسربلة بالبياض، وقد أقبلت إليّ، فنادتني، ثمّ خاطبتني بقولها : " أَيْ سقراط، إنّك لمُوَافٍ أرض البيتي** ذات الخصب، بعد ثلاثة أيّام."
كريطون.
أيّ رؤيا ملغزة رؤياك يا سقراط.
سقراط.
بل هي، في رأيي، على غاية البيان.
كريطون.
فهي إذًا قد أفرطت فيه. ولكنّي أناشدك آخر المناشدة أيّها الفاضل سقراط، هلاّ أخذت بنصحي ونجوت بنفسك. فموتك، عندي، لجالب لِغير واحد من الشّرور : ففوق أنّني لسوف أُحْرَمُ صديقا كلّ اليقين أنّي لن أجد له أبدا نظيرا، فعسى أن يذهب الظنّ بكثير من النّاس لا يعرفوننا جيّد المعرفة، بأنّني لوكانت نفسي قد طابت لإنفاق المال لِنجاتك، لأنجوتك، ولكنّني إنّما أنا قد طويت عن ذلك كشحا. فبحقّك، أيّ شيء أقدح لِعِرْضِ المرء من أن يُعْرَفَ بأنّه لأحرص على ماله من وفائه لصديق ؟ وعامّة النّاس سوف لن تؤمن، حينئذ، بأنّك لم تلن لتوسّلاتنا وأنّه إنّما أنت الّذي كان قد أبى الفرار من هاهنا.
سقراط.
ألا أيّها الفاضل كريطون فمالنا وما لِمَا ترى العوامّ. أمّا أولو الألباب الّذين إنّما هم من ينبغي أن ننشغل لرأيهم، فهؤلاء، لا جرم أنّهم سوف لن يخالجهم أبدا شكّ في أنّ الأشياء إنّما قد حصلت كما كانت قد حصلت في الحقيقة.
كريطون.
أفما ترى، ياسقراط، أنّه، مع ذلك، فهو لا مناص من أن ننشغل برأي الكثرة. إذْ ما قد نالك لَيُرِينَا غاية الإراءة أنّ الكثرة هي لَقادرة ليس فقط على أن تُنْزِلَ بنا الضُرّ ، بل إنّها كلّما ألمّت بها النّميمة فهي قادرة على أن تنزل بنا أكبر الضرّ.
سقراط.
ياليت هؤلاء النّاس، يا كريطون، كانوا أهل قدرة على فعل أعظم الشّرور، فيكونوا أيضا قادرين على فعل أعظم الخير. غير أنّهم في الحقيقة إنّما هم ذوو قصور على فعلهم أَيًّا من الأمرين، بل ما أعجزهم عن أن يجعلوا امرء ما، ذا رشاد، أو ذا سفاهة! وكلّ شيء فعلوه، فإنّما أصله الجزاف والتّنحّس.
كريطون.
لنضع أنّ الأمر هو كذلك. ولكنّك، يا سقراط، هلاّ أجبتني عن سؤالي هذا : أيكون الّذي أقعدك هاهنا إنّما هو رعاية منك لنا ؟ أي أتكون قد خشيت إن أنت فررت من هاهنا أن يلحق بنا أهل السّعاية والوشاية الضرّ لكوننا قد ساعدناك في الهروب، أو أن ينال مالنا أو كثير مالنا خسارة، أو أن ينالنا ضرر آخر من الأضرار. فإن كان قد ساورك ضرب من ضروب هذه الخشية، فلتنزعها عنك، إذْ، لعمري، إنّما هو حقّ علينا أن نركب مثل هذا المَحْذُورِ، وأن نركب ما هو أدهى منه، لو اقتضى الأمر ذلك، طلبا لنجاتك. فهلاّ قبلت بنصحي، وأضربت عن الرّفض.
سقراط.
إي نعم، يا كريطون، إنّها رعاية منّي لكم، وأسباب أخرى تمنع عنّي ما تدعوني إليه.
كريطون.
فإذن أَلاَ لا اهتممت بهذا الأمر. إذ أنّه ما كان قد طُلِبَ منّا كثير مال حتّى نخرجك من هذا المكان. وأيضا، أفلست تعلم أنّه قد نرشي هؤلاء السّعاة بثمن بخس، وأنّه ليس يجب مال كثير حتّى نُخْرِسَ ألسنتهم. فأنت لك أن تفعل بمالي ما شئت : فعسى أن يكون وافيا بما نطلبه. أمّا لو كنت إنّما قد أشفقت عليّ، وكنت ترى أنّه لا يجوز لي أن أنفق مالي، فهو يوجد ها هنا رجال غرباء يرغبون في أن ينفقوا أموالهم من أجلك. وواحد من هؤلاء كان قد حمل معه ما يكفي مِقْدَارَ مَالٍ. وأيضا قابس وآخرون كثيرون فكلّهم قيد إشارتك. لِذَا فها أنا أعيد عليك الطّلب كرّة أخرى : ألا لا تضربنّ عن طلب النّجاة لِمَا قد خشيته من مثل تلك الأشياء، ولا يَذْهَبَنَّ بك الظنّ كما كنت قد قلت عند المحكمة أن أمرك صائر إلى العسر لأنّك لو خرجت من هاهنا، فإنّك ستضيق بك السّبل. كلاّ، بل إنّك في غير بلادك، لسوف تُكْرَمُ أيضا، أمّا لو رُمْتَ أن تذهب إلى تسّالي**، فلي بها أهل ضيافة سوف يقدّرونك حقّ قدرك، وسوف يجيرونك حقّ الإجارة حتّى أنّه لاواحد من أهلها من شأنه أن يصيبك بالأذى أدنى إصابة.
V ـ وهناك شيء آخر، ياسقرط. فظنّي أنّك لو كنت قادرا على الهروب، ولكنّك رميت بنفسك وسارعت إلى ما قد يكون تمنّاه فيك الأعداء، أو إلى ما كانوا قد تمنّوه فيك، على الحقيقة، نِكَايَةً بك، فإنّك لَرَاكِبٌ إثما. والأمر، لعمري، ليس هذا فقط، بل ظنّي أيضا أنّك إنّما أنت تخون أبناءك. فأنت قادر علىأن تربّيهم غاية التّربية، وأن تعلّمهم غاية التّعليم. لكنّك آثرت أن تتوارى وتتركهم وشأنهم، وكلّ الّذي في سيرتهم إنّما يرجع أمره إليك، فقد فوّضته للجزاف والصّدفة. ولا جرم أنّه سوف ينالهم ما ينال كلّ يتيم من شرّ وضرّ. إنّنا إمّا أن نُمْسِكَ عن ولادة الأولاد، وإمّا أن نكدح من أجلهم لإطعامهم، وتربيتهم. أمّا أنت، فكأنّي بك قد مِلْتَ للحظّ الهيّن، والحال أنّه كان حقيقا بك أن تميل للحظّ الّذي إنّما يختاره أهل الفضل، لا سيّما إذا كنّا ممّن دأب كلّ حياته يعلّم الفضيلة ويحضّ عليها. لذلك فهو ليملكني الخجل لِمكانك ولِمكان أصحابك : فَفَرَقِي أن يُعْزَى إلى خذلاننا لك كلّ ما قد نالك، من قبول الدّعوى ضدّك في المحكمة، وقد كنّا قادرين على منعها، ومن طريقة التّرافع نفسها، ومن عاقبتها ذات الإزراء الّتي من شأنها أن تدفع بالظنّ إلى أنّه لكوننا قد تراخينا وتلهّينا فنحن لم نهتمّ للدّعوى، لأنّنا لم نهبّ لإنقاذك، وأنّك نفسك لم تنج بنفسك، ولقد كان ذلك ممكنا حقّ الإمكان ما لو كنّا قد أغثناك أدنى الإغاثة. إذن، يا سقراط، أفلم تر العار الّذي هو لاحقنا و لاحقك، فضلا عن الضرّ الّذي هو نازل بك ؟ ألا فالتُرَوِّ، بل ليس الحين حين تروّ، فبالاضطرار لقد كنت روّيت في الأمر، إذ ليس لك إلاّ خصلة واحدة تختارها، فهو اللّيلة القادمة إنّما يكون لِزَامًا أن يُقْضَى كلّ شيء. أمّا لو تمادينا في الإرجاء، فإنّ الأمر صائر حينئذ إلى الامتناع. فلا مناص البتّة من ذلك، يا سقراط، ألا فلتسمع لنصحي وتعمل بقولي.
سقراط.
هيهات أيّها الصّديق المخلص، فغِيرَتُكَ عليّ قد كانت أن تُصيب أيّما رضا في نفسي لو كانت قد وافقت الواجب؛ وإلاّ فهي كلّما كانت قويّة، كانت ممجوجة. لذا فقد لزم أن ننظر في إن كان واجبا علينا أن نفعل ما حضضتنا عليه، أم ليس بالواجب؛ فأنت تعرفنني أنّني قد اتّخذت لنفسي مبدأ، ليس اليوم فقط، بل في كلّ الأزمان، بأنّني لا أنصت فِيَّ أبدا إلاّ لصوت واحد، ألا وهو صوت العقل الّذي قد بان لي عند الفحص، بأنّه أفضل الأصوات كلّها وأحسنها طريقة. و ليس يَحْسُنُ بي أنّ أَنْكُصَ عن كلّ الحجج الّتي ما فتئت أنتصر لها فيما مضى، أَوَّلَ ما يكون قد نزل بي شرّ من الشّرور. بل إنّ محلّها في نفسي محلّ الإجلال والتّعظيم هو هو، على التّمام، اليومَ كما كان من قبل. فإذن إن نحن ما ظفرنا هاهنا بشيء أفضل منها، فلتعلم جيّد العلم بأنّني لن أُذْعِنَ لك إذًا أبدا، وإن اندفعت الغوغاء ذات القوّة القاهرة، لتبعث الرّوع في نفوسنا كما نُرَوِّعُ الأطفال، تهدّدنا بأنواع المخوّفات من حبس، وبسط عذاب، وافتكاك أموال. فأيّ الطّرق، ليت شعري، هي أحسنها، على التّمام، حتّى نأتي هذا الفحص ؟ أفلا ترى معي أنّ ذلك إنّما يكون بأن نشرع أوّلا من حيث كنت قد تكلّمت في ظنّ العوامّ ؟ إذ أَ فترانا كنّا محقّين أم غير محقّين لمّا قلنا أنّه ليس كلّ الآراء ينبغي أن نأبه لها ؟ أم أنّ هذا الرّأي إنّما كان صوابا قبل أن يُقْضَى بموتي، أمّا الآن، فهو قد بان واضحَ البيان أنّه لم نكن قد قلناه إلاّ جزافا ولغاية الكلام، و في الواقع فهو لم يكن سوى تلهّيا وثرثرة. فلتنظر إذًا معي، يا كريطون، إن هو قد تغيّر لِمَا أنا فيه الآن، أو بقي كما كان من قبل، وهل لنا أن نجعله ظِهْرِيًّا أم نتّخذه شريعة ومنهاجا؟ فهل لك أن أتلو عليك، إن لم تخنّي ذاكرتي، ما كان يقوله في كلّ لقاء أهل الفضل والكياسة. فإنّهم كانوا يُثْبِتُونَ كما كنت قد أثبته أنا نفسي بأنّه من الآراء الّتي ينطق بها النّاس ما ينبغي أن نأبه لها، ومنها ما لا ينبغي أن نأبه لها. والّذي فطرك، يا كريطون، أ فلا ترى أنّ هذا الكلام نِعَمَّا مَا هو؟ فأنت، كما قد نتبيّنة من أمور البشر، ليس يحيق بك موت يَوْمَ غَدٍ، ولا أنت مضطرب الذّهن لِدنوّ شَرٍّ منك. فإذًا لوكنت قد قلّبت الأمر، أفما كنت إنّما سوف تتبيّن بأنّ القول بأنّه لا ينبغي أن نأبه لكلّ أراء النّاس، بل إنّما ينبغي أن نأبه لبعضها، وأن نضرب عن بعضها، و أنّه لا ينبغي أن نحتفي بها كلّها، بل ببعضها فقط، ونترك سائرها، إنّما هو عين الحقّ والصّواب ؟ أفلا ترى أنّ هذا الكلام لهو سديد ؟
كريطون.
إنّه لسديد.
سقراط.
فهي الأراء الحسنة الّتي إنّما ينبغي توقيرها، وليست الآراء السيّئة.
كريطون.
نعم، إنّها الآراء الحسنة الّتي إنّما ينبغي توقيرها.
سقراط.
وأنت تعلم أنّ الأراء الحسنة إنّما هي أراء أهل الرّشاد، والأراء السيّئة إنّما هي أراء أهل الخطل.
كريطون.
نعم إنّي أعلمه.
سقراط.
VII ـ فلتنظر الآن كيف كنّا قد أثبتنا ذلك المبدأ. إنّ امرء ما شُغْلُهُ التمرّن في الرّياضة، وتحصيله المعرفة فيها، أَفتراه كان سوف يأبه لإطراء رجل أو قدحه أَيٍّ كان من الرّجال، أم أنّه إنّما اهتمامه لن يكون إلاّ لرأي طبيبه أو مدرّبه ؟
كريطون.
بل لرأي مدرّبه أو طبيبه ليس غيرهما.
سقراط.
فهو إذًا لن يخشى من مديح أو قدح إلاّ مديح أو قدح واحد من ذينك الرّجلين، أمّا العوامّ، فكلّ مديحهم وقدحهم فهو عنده إلى احتقار.
كريطون.
إنّه عنده إلى احتقار.
سقراط.
لِذلك كان قد لزم عليه أن يتمرّن، ويأكل، ويشرب، لا كما قد يصف له سائر النّاس جميعا، وإنّما فحسب، كما قد يصف له من وُكِّلَ به، ويكون عارفا بالأمر قادرا عليه.
كريطون.
ليس في ذلك شكّ من الشّكوك.
سقراط.
فإذا تَقَرَّرَ ذلك. فهلاّ أجبتني أفما كان ذلك الرّجل هو نائله لا محالة شرّ من الشّرور، لو كان قد عصى الرّجل الموكّل به، وازدرى رأيه ونصائحه، ليأخذ برأي الحَشْوِ ذي الجهل والعجز ونصائحها؟
كريطون.
لا محالة هو كان نائله ذلك.
سقراط.
فأيّ شرّ هذا الشّر الّذي يكون نائله حينئذ ؟ وأيّ شيء فيه أو في أيّ جزء منه هو سوف يناله ذلك الشرّ بسبب عصيانه ؟
كريطون.
إنّه، لعمري، البدن ما سيناله حينئذ الشرّ لامحالة. إذْ إنّما هو بدنه الّذي يكون يُهْلِكُ.
سقراط.
مرحى مرحى. ولأنّني لا أرى فائدة في أن أعرض للأشياء كلّها، فأنا مكتف بسؤالئك هذا السّؤال : أفماترى، يا كريطون، أنّ الأمر لهو كذلك، في سائر الأشياء أيضا ؟ و في أمور العدل والظّلم، والقبيح والحسن، والخير والشرّ الّتي نحن الآن إنّما نروّي فيها، على جهة التّخصيص، أفليس إنّما ينبغي أن نتّبع رأي حاكم واحد من أهل المعرفة ونخشاه، على فرض وجوده، وألاّ نتّبع ظنّ العوام ولا نخشاه ؟ وأنّه ينبغي أن نوقّر هذا الحاكم ونخشاه أكثر من توقيرنا وخشيتنا لسائر النّاس مجتمعين. لأنّنا إن عصيناه، فكما كنت قد أسلفت، فإنّه سوف ينال الفساد والبوار ما يكتسب الكمال بالعدل، ويحيق به الهلاك بالظّلم. أم أَتُرَانَا إنّما قد أخطأنا الصّواب في كلّ ذلك ؟
كريطون.
كلاّ، ياسقراط، بل أنا على رأيك.
سقراط.
فإذًا، إن كان هو قد تقرّر بأنّنا إنّما نصيب بالهلاك ما شأنه أن يصير حسنا بالصحّة، وفاسدا بالمرض، إن نحن أخذنا برأي أهل جهل، أفترانا كنّا سنقدر على الحياة وفينا هذا الجزء الفاسد ؟ و لا جرم أنّك قد أدركت المراد بالجزء الفاسد، وعلمت بأنّه هو الجسد.
كريطون.
صدقت.
سقراط.
فإذن، أترى أنّه يمكننا العيش بجسد عراه الفساد والبوار؟
كريطون.
إنّ ذلك لمتنع كلّ الامتناع.
سقراط.
أفترانا إذن أنّه يمكننا أيضا العيش إن نحن أهلكنا ذلك الّذي الظّلم هو يُبْلِيه والعدل يقويّه ؟ أم أنجعل ذلك الجزء منّا الّذي هو محلّ الظّلم والعدل، في مرتبة أخسّ من مرتبة الجسد ؟
كريطون.
إنّ ذلك لممتنع لا محالة.
سقراط.
فهو إذا أشرف من الجسد ؟
كريطون.
لشتّان ما بينه وبين الجسد.
سقراط.
لذلك فقد وجب، أيّها الفاضل كريطون، ألاّ نلتفت أدنى إلتفات لما يقوله الرّعاع، وألاّ نهتمّ إلاّ لما قد يقوله فينا رجل المعرفة بالعدل والظّلم الّذي هو محاسبنا الوحيد ، ولِما قد تقوله الحقيقة نفسها. من أجل ذلك فإنمّا أنت قد أسأت في تطرّقك للمسألة، لمّا بدأت بالقول بأنّه من الواجب أن نلتف لما تراه الدّهماء في أمر العدل، والجمال، والخير، وأضدادها. وإن كان حقّا، أنّه قد يقال لنا بأنّ الحشو لَأَهْلُ قدرة على إهلاكنا.
كريطون.
إنّهم لقائلون لنا ذلك لا محالة يا سقراط.
سقراط.
صدقت. أمّا أنا، أيّها الفاضل كريطون، فذلك المبدأ الّذي كنّا قد أثبتاه فهو لا يزال عندي على سَمْتِ الحقّ الآن كما كان من ذي قبل. ثمّ هل لك أن تنظر، أيضا، هذا المبدأ الآخر الّذي مفاده أنّه ليس الأحرى أن يحي المرء، بل الأحرى أن يحي حياة الكرامة، وقل لي إن كنت تراه ما زال صادقا عندنا أم لا ؟
كريطون.
نعم، إنّه ما زال صادقا.
سقراط.
وهل المبدأ الآخر بأنّ الخير والجمال والعدل إنّما هي شيء واحد، هو مازال صادقا أيضا ؟
كريطون.
إنّه لكذلك أيضا.
سقراط.
IXـ وإذْ قبلنا بهذه المبادئ، فلننظر إذًا على نورها إن كان عَدْلاً أن أسعى لمفارقة المكان من غير رضى أهل أثينا، أم ليس بالعدل. إن كان عدلا ذهبنا في ذلك السّعي، وإلاّ ضربنا عنه صفحا. وما ذكرتَه من أمر الإنفاق، والظنّ، وتنشئة الأبناء، فظنّي، يا كريطون، أنّما هي هموم حقيقة بنفس أولائك الّذين إن مُكِّنُوا قتلوا و أحيوا على غير رويّة، وأعني بهم الغوغاء. أمّا نحن، فكما كنّا قد تبينّا من العقل، فليس لنا أن ننظر إلاّ فيما كنّا قد قلناه آنفا، وهو : أن نُعْطِي مالا لمن شأنه أن يخلّصنا من هذا المكان، وأن نقرّ له بالفضل، وأن نعين على هروبي، وأن أهرب أنا نفسي، فهل كلّ ذلك هو فعل عدل، أم إنّما هو عين اجتراح الظّلم ؟ فإن هو تبيّن لنا بأنّه يكون ظلما أن نفعل ذلك، فحينئذ يتحصّل عندنا اليقين بلزوم المكوث هاهنا وأن تطيب أنفسنا للموت أو لأيّ عذاب آخر، لأنّه إنّما يكون في فعل ذلك تجنّب للظّلم وعدول عنه.
كريطون.
إنّ قولك لبائن فيه الصّدق يا سقرط. فلتنظر إذًا فيما هو واجب علينا فعله.
سقراط.
بل لننظر فيه جميعا أيّها الصّديق المُخْلَصِ، و لو رأيت في كلامي موضع اعتراض، ألا فأبنه لي، فإنّي لاحق حينئذ برأيك؛ وإلاّ فلتُقْلِعْ عن تكرارك على مسامعي نفس الكلام في أنّني ينبغي أن أهرب من هنا على غير رضى أهل أثينا. إذْ أنّما كبير مناي هو أن أجعلك تنظر بعين الرّضا لما أنا فعلته وفاعله، ولست بالرّاغب في أخذك بالإكراه. فَلْنَرَ إن كانت نفسك قد طابت لصَدْرِ بحثنا هذا، وإنّي لمناشدك لأن يكون جوابك لأسئلتي جوابا مُمَحَّضًا صراحةً.
كريطون.
أفعل إن شاء اللّه.
سقراط.
X ـ فهل ياتُرى إنّه مهما اختلف الأمر فليس ينبغي البتّة أن نتعمّد الظّلم، أم إنّ تعمّده يكون جائزا في مواضع، وفي غيرها لا يكون جائزا ؟ أو أ تُرانا نحن إنّما نقبل أنّ الظّلم في كلّ المواضع فهو شرّ وقبيح، كما كنّا قد أجمعنا عليه غير مرّة فيما سلف من دهر، وكما كنّا قد قلناه أيضا آنفا ؟ أو هل عسى أنّ المبادئ كلّها الّتي أجمعنا عليها فيما سبق، إنّما قد تبخّرت هذه الأيّام ؟ فإذًا، يا كريطون، أفتُرانا أنا الطّاعن في السنّ، وأنت الطّاعن فيه أيضا، أنّنا إنّما كنّا نخوض في الحديث معا من زمن أيّما بعيد خوض المجدّ، وما تبيّنا أنّنا إنّما كنّا نتحدّث كما يتحدّث الأحداث ؟ أم هل كنت ترى أنّه إنّما ينبغي أن نؤمن بأنّ ما قد أثبتاه هو عين الصّواب، رَضِيَتِ الغوغاء أم لم ترض، وأنّه كيفما تصرّف بنا الدّهر، في عسر أو يسر، فلا محالة كلّ امرء اجترح ظلما في حال من الأحوال، فقد ركب شرّا وأتى عارا. فما جوابك ؟
كريطون.
نعم إنّه قد ركب شرّا وأتى عارا.
سقراط.
فيلزم إذًا أنّه ليس يجوز أبدا أن نفعل ظلما.
كريطون.
إنّه ليس يجوز ذلك أبدا.
سقراط.
ويلزم أيضا أنّه ليس يجوز أبدا أن نقابل الظّلم بظلم مثله، إذا كان لَهُوَ أبدا شَنْعٌ أن نكون من أهل البغي.
كريطون.
ذلك هو الحقّ المبين.
سقراط.
و لا أن نفعل شرّا، يا كريطون.
كريطون.
ولاأن نفعل شرّا، يا سقراط.
سقراط.
وأن نقابل الشرّ بشرّ مثله، أتراه عدلا كما يعتقد الجمهور، أم ليس بعدل.
كريطون.
كلاّ، إنّه ليس بعدل.
سقراط.
وذلك لأنّه ليس من فرق البتّة بين أن نضرّ النّاس، وأن نكون من أهل البغي والعدوان.
كريطون.
لقد أصبت كبد الحقيقية.
سقراط.
فقد بان إذًا أنّه ليس ينبغي أبدا أن نقابل البغي ببغي مثله، ولا أن نُنْزِلَ الشرّ بواحد من البشر مهما كان ضَرُّهُ لنا. وإنّي يا كريطون لأنبّهك إيّاك و أن تكون قد سلّمت لي بهذه النّتيجة، على غير رضى من رأيك؛ إذ أَنِّي لست بالغافل البتّة بأنّه من يسلّم بهذا المبدأ عن طيب نفس إنّما هم قليل، وأنّهم أيضا لن يكونوا أبدا إلاّ أهل قلّة. من أجل ذلك كان الالتقاء على رأي واحد بين من يذهب ذلك المذهب، ومن يذهب مذهبا غيره إنّما هو ضرب من المحال، وكان كلّ فريق محتقرا الآخر لِما يراه قد اتّخذ طريقا غير الّذي كان اتّخذه هو. فهلاّ نظرت أنت أيضا جيّد النّظر إن كنت على رأيي، وإن كنت ترى أنّه إنّما ينبغي أن نؤسّس كلامنا على ذلك المبدأ ذي المفاد بأنّه ليس يجوز أبدا أن نكون من أهل البغي، و لا أن نقابل الظّلم بظلم مثله، ولا أن نثأر لأنفسنا إن نالنا بضرّ واحد من النّاس؛ أم هل عساك أنّك مُنْفَصِلٌ عنّى وكائن ممّن يدفع ذلك المبدأ ؟ أمّا أنا فما انفككت منذ زمن بعيد واليوم أيضا أصدّق به. فلو ما كنت على غير هذا الرّأي، ألا فأبن لي السّبب. أمّا إن كنت قد بقيت على ظنّك الأوّل، فاسمع لما يلي.
كريطون.
بل إنّي على رأيك، وما أنا بالمرتدّ عنه؛ لِذَا فإنّه لك أن تطّرد، يا سقراط.
سقرط.
فإذًا، لتسمع لقولي، أو لِما أنا سائلك عنه : لو سلّمنا لرجل ما بأنّ شيئا ما هو عدل، فهل يصير واجبا حينئذ فعله، أو فعل نقيضه ؟
كريطون.
بل الواجب فعله.
سقراط.
XIــ فإذا تقرّر ذلك. فلتقلّب هذا الأمر. لو ما نحن كنّا قد فارقنا هذا المكان على غير رضى من المدينة، أفلسنا كنّا إنّما سوف ننال بالضرّ واحدا من الأشياء هو أكثرها استأهالا لِألاَّ نصيبه بضرّ، ونتولّى عن ما كنّا قد آمنّا به على أنّه هو العدل.
كريطون.
لاأسطيع الجواب، يا سقراط، لأنّي ما فهمت سؤالك.
سقراط.
فإذًا، فلتتتبّع ما أنا باسطه عليك من بيان. هَبْ أنّه وإذْ كنّا نتهيّأ للفرار، ولا مشاحة في كيف لنا أن نسمّي خروجنا ذاك، فإذَا بشرائع المدينة تتمثّل لنا وتأخذ في سؤالنا هذا السّؤال : " أَيْ سقراط، ماذا أنت فاعل ؟ أَفَمَا تبيّنت أنّك بما تنويه من عمل إنّما أنت تهدم، بكلّ ما أوتيت من قوّة، شرائع المدينة بأسرها ؟ أفلا تعلم أنّ المدينة لا يكون أمرها إلاّ إلى خراب، متى عُطِّلَتْ أحكامها، ودأب أهلها على إبطالها وإلغائها ؟ " فكيف عسى أن يكون جوابنا على هذا السّؤال، أو على غيره ممّا قد يشبهه يا كريطون ؟ لأنّه قد يقول هذا الكلام بخاصّة خطيب ما قد يأخذ في دفاعه عن هذه الشّريعة المنتهكة، ويكون ذا غيرة على أنّه ما قُضِي من أحكام فينبغي أن يُنْفَذَ. أفنجيبها هذا الجواب " ذلك لأنّ المدينة قد بغت علينا وأساءت مقاضاتنا " أم أيكون جوابنا غير هذا الجواب ؟
كريطون.
بل ذلك الجواب على ما أرى.
سقراط.
ولكنّ الشّرائع قد تخاطنا إذًا بالقول : " لا درّ درّك، يا سقراط، أفهذا الّذي كنّا قد تَوَاثقْنَا عليه، أما تعلم أنّه فَرْضٌ عليك إذعانك لِما تكون المدينة قد قضت به من أحكام ؟ " وإن ظهر منّا إنكار لكلامها، فربّما كانت سوف تواصل بالقول : " وما دهشتك لما كنّا قد فُهْنَا به يا سقراط، وإذْ كانت عادتك في البحث أن تتّخذ طريق السّؤال والجواب، أفلا فلتجبنا، ولْتُبَيِّنْ لنا وما تعيب فينا وفي المدينة حتى تنطلق في سعيك الهادم لنا ؟ فأوّلا، أوليس الفضل فضلنا في أنّك قد رُزِقْتَ الحياة ؟ أوليس برعاية منّا كان والدك قد اقترن بوالدتك، ثمّ جاء بك إلى الوجود ؟ أم ربّما أنت إنّما تعيب على بعضنا من اللاّتي يشرّعن أمور الزّواج ؟ أفوجدتها ذات سوء ؟ ألا فلتجب." فأجيبها، " كلاّ ما وجدت فيها شيئا البتّة أعيبه." فتسأل، " إذًا فربّما أنت قد وجدت ما تعيب في أخواتنا اللاّتي يشرّعن لِكيف نُعْنَى بالولد، وكيف نربّيه كما كنت قد رُبِّيتَ ورُبِّي غيرك آخرون ؟ أفتراها قد أخطأن فيما أمللنا على أبيك في أمر تعليمك الموسيقى والرّياضة ؟ " فأردّ، " بل لقد وُفِّقْنَ." فتجيب، " نِعَمَّا ذلك، ومع ذلك أفتراك تجسر أن تصرّح ابتداء، بعد أن كنت قد وُلدت، وعُلِّمْتَ، أنّك لست بالإبن لنا ولا العبد لنا، لا أنت ولا أجدادك ؟ إنّك لا تقدر؛ فإن كنتم كلّكم كذلك، أي أبناء لنا وعبادا لنا، فأَنَّى لك أن تخال أنّ الحقوق الّتي لنا هي لك بعينها، وأَنَّى لك أن تتوهّم بأنّه مهما شيء نريد أن نفعله فيك، فهو حقّ لك أن تفعل مثله فينا ؟ فإذا كان معلوما أنّه لا مساواة في الحقوق بينك وبين والدك أو سيّدك، وأنّه غير جائز البتّة أن تعامل أباك بالمثل، فلا يحلّ لك أن تقابل شتيمته بشتيمة، ولا ضربه لك بضرب، وما أشبه ذلك، فَمَا أَنْكَرَ أَنْ يُظَنَّ بجواز ذلك مع الوطن، ومع الشّرائع ! فكيف كانت قد سوّلت لك نفسك، يا سقراط، وأنت الّذي عُرِفْتَ بفعلك الفضيلة حقّ الفعل، لأنّنا نحن، الشَّرَائِعَ، قد رمنا هلاكك، لأنّنا رأيناه عدلا وإنصافا، أن تطلب بكلّ ما أُوتيت من جهد هلاكنا أيضا، وهلاك الوطن، زاعما بأنّ الّذي نويت فعله لبريئ
من كلّ ظلم ؟ وأيّ حكمة هذه حكمتك، إذا كنت تجهل بأنّما الوطن لهو أعزّ من أُمٍّ وأبٍ وكلّ الأجداد ، و أنّه أكبر منهم جلالا، وأعظم قداسة، وأنّ مقامه عند الآلهة وأولي الألباب لهو المقام الأعلى والدّرجة الرّفيعة. أيّ حكمة هذه حكمتك إذا كنت تجهل أنّه إذا غضب الوطن، فلابدّ لك أن توقّره أشدّ من توقيرك أباك، وأن تخضع له أشدّ من خضوعك له، وأنّك عندئذ فإمّا أن تدفعه لِما ترى بالموعظة الحسنة، وإلاّ فلا مناص لك من أن تفعل كما أمرك، وأن تكابد في صمت ما قد يبسطه عليك من ضرب وتقييد بالأصفاد، ودفع إلى حرب قد تجرح فيها أو تقتل. أيّ حكمة هذه حكمتك إن كنت تجهل بأنّ ذلك كلّه إنّما فرض عليك فعله لأنّ ذلك هو قضاء العدل؛ فهو قد قضى بألاّ نخلّي مكاننا أو نهرب منه، لا في حرب ولا في محكمة، بل في مهما موضع من المواضع، فلا مناص لنا من أن نفعل ما يأمرنا به الوطن والمدينة، وإلاّ فهو لا يجوز لنا أن ندفعها لتبدّل رأيها إلاّ بنفس الطّرق الّتي تكون قد أباحتها الشّريعة ؟ والعنف إن كان من الفسوق أن نؤذي به أمّا أو أبا، فهو كذلك، لبطريق الأولى أن نؤذي به الوطن ؟ " فكيف يكون جوابنا، ياكريطون، أفترى أنّ الشّرائع كانت قد صدقت في كلّ ما قالت ؟
كريطون.
إنّها لقد صدقت.
سقراط.
ثمّ إنّها قد تواصل بالقول : " أَيْ سقراط، فلتنظر الآن إن كان صِدْقًا ما كنّا قد أثبتّاه من أنّك لآتٍ بغيا إن أنت فعلت بنا ما كنت تروّي فعله. فإنّما نحن الّذين رزقناك الحياة، وأطعمناك وعلمّناك وجعلناك تنال نصيبك ممّا نملك من خير كلّه مثلك مثل سائر مواطنيّ المدينة. ثمّ نحن ما انفككنا قطّ نعلن على الملأ أنّه كلّ أثينيّ يبغي العيش بيننا، وكان قد انتمى لهذا الوطن، ثمّ اطّلع على عوائدنا السّياسيّة، وعلينا نحن، فله أن يذهب حيث شاء ومعه أمواله، إن لم نصادف في نفسه هوى. وأنّا لسنا نمنع واحدا البتّة لكونه قد مجّنا ومجّ المدينة، أن ينطلق إلى مستعمرة ما، أو يذهب ليقيم بمدينة غريبة، أو حيث شاء، وأن يحمل معه أمواله. أمّا من رضي الإقامة هنا، وكان يرى بأمّ عينيه كيف نقيم العدل، ونسوس أمور النّاس، فقد ألزم نفسه حينئذ بأن يفعل كلّ ما نأمره به. فلو رام، مع ذلك، عصياننا، فإنّه يكون مُلِيمًا لثلاث خصال : أوّلا، لأنّه قد أظهر عصياننا ، ونحن الّذين رزقناه الحياة. وثانيا، لأنّه قد أظهر عصياننا، ونحن الّذين أطعمناه. وثالثا، لأنّه، إن اتّفق أن فعلنا فعلا غير حسن، فهو يُدْبِرُ عن طاعتنا، و لا يسعى لإقناعنا، وهو الّذي كان قد عاهدنا على الطّاعة. ومع أنّنا لم نكن قد أخذناه بالشدّة فيما فرضنا عليه، بل بسطنا له أوامرنا هيّن البسط، وتركنا له الخِيرة بين أن يقنعنا أو يطيعنا، إلاّ أنّه قد أضرب عن فعله كلا الأمرين.
XIV ــ فلتحذر يا سقراط، إنّها نفس هذه العيوب الّتي قد تنالك إن فعلت ما قد سوّلت لك نفسك. بل إنّ نَوْلَهَا لك ليكوننّ أَمَرَّ أثرا عليك بالقياس إلى كلّ واحد من أهل أثينا. " وإن سألتها " وما سبب ذلك ؟ " فربّما كانت مقرّعتي حقّ التّقريع قائلة " ألست أنت الّذي كان قد أخذ على نفسه عهدا بطاعتنا طاعة لا يطيعها أحد من أهل أثينا ؟ " ثمّ إنّها قد تواصل بالقول : " وإنّه لنا، يا سقراط لحجج ظاهرة، على أنّنا والمدينة قد كنّا رُقْنَاكَ. فلو لم يكن رضاك بنا أعظم من كلّ رضى حتّى أنّك مافارقتنا قطّ لِشُهُودِ حفلٍ، إلاّ مرّة واحدة لمّا ذهبت إلى مدينة الإستموس** ، ولا لأمر آخر إلاّ مع سريّة حرب، لَمَا كنت قد ثابرت على الثّواء بها كمن لم يثابر أحد من أهل أثينا؛ وحجّة أخرى هي أنّك ما ذهبت قطّ كالآخرين في سفر من الأسفار، ولا هزّك شوق لأن تتطّلع على مدينة أخرى، أو تعرف شريعة غيري، بل لقد كنت دائما راضيا بنا كلّ الرّضى إيّانا والمدينة، وكنت تؤثرنا على غيرنا غاية الإيثار، وتطيع حدودنا غاية الطّاعة. ثمّ إنّك أيضا قد رُزِقْتَ بهذه المدينة أولادا، وهو الشّاهد على رضاك عنها. بَله ! إنّك لو شئت فلقد كنت تستطيع في نفس مقاضاتك أن تنال عقابا بالنّفي من المدينة، وأن تفعل برضاها ما أنت تنوي فعله بغير رضاها. إنّك وقتها قد أخذت تتباهى بأنّك لا تكترث للموت؛ وأنّك لتؤثره عن أن تُنْفَى من البلاد. أمّا اليوم، فها أنت ذاك قد شرعت في إبطالنا، غَيْرَ مُسْتَحْيٍ من تلك المعاني الحسنة، وغير مراع لنا، نحن، الشَّرَائِعَ، وها أنت ذاك سَالِكٌ كما يسلك أخسّ العبيد بما تسعى إليه من هروب حانثا بالعهود والمواثيق الّتي واثقتنا عليها بأن تستقيم معنا استقامة المواطن. ألا فلتجب أوّلا : ألم نقل صدقا حينما أثبتّنا بأنّك إنّما قد ألزمت نفسك بأن تحي بسلطاننا في الفعل لا في الكلام ؟ " أليس جوابنا، يا كريطون، سيكون " بلى. "
كريطون.
إنّه سيكون بلى، يا سقراط.
سقراط.
ثمّ إنّها قد تواصل بالقول : " فما دهاك إذًا حتّى تنقض العهود والمواثيق الّتي واثقتنا عليها من غير إكراه ولا تضليل، ولقد كنّا أمهلناك أيّما إمهال في أن تتروّى فينا، إذ أنّه قد انصرمت سبعون سنة كان يمكنك فيها أن تهاجر لو كنّا ما أصبنا رضا من نفسك، ولو كنت إنّما وجدت شروط الميثاق ليست بالعدل. لكنّك أنت لم تؤثر لا لاسيديمون**، ولا كريتوس**، الّتى كنت غير مرّة قد امتدحت شريعتها، ولا آثرت أيّ مدينة أخرى من المدن يونانيّة كانت أم بربريّة، ورُبَّ أعرج، أو أعمى، أو مقعد، كان قد غادر هذه البلاد أكثر من مغادرتك لها، ممّا يدلّ لا محالة على أنّك أكثر أهل أثينا رضا بها، وبنا أيضا، نحن، الشَّرَائِعَ. إذْ، لعمرى، فإنّه لا يحبّ أحد مدينة حتّى يحبّ شريعتها. أمّا اليوم فما خَطْبُكَ إذ تروم نقضك لتلك المواثيق ؟ إنّك، يا سقراط، إن كنت مؤمنا بنا، فإنّه لن يكون حَرِيًّا بك نقضنا، فَيُهْزَأَ بك و يُسْخَرَ لهروبك من المدينة.
XV ـ ثمّ إنّه لو أنّك تنكث ما قد عاهدتّ عليه وتنقضه، فانظر أيّ نفع عسى أن ينالك أنت وينال أصحابك ؟ فلا محالة هؤلاء سوف يُنْفَوْنَ أيضا من البلاد، أو تُنْهَبَ أموالهم. أمّا أنت فقد تلوذ بطيبة** أو ميغارا**، لأنّه كلاهما ذوا شريعة حسنة، لكنّهما لا محالة لن يتلقّياك إلاّ على أنّك عدوّ لشريعتهما، وكلّ رجل ذي غيرة على مدينته فلن يَنْظُرَكَ إلاّ بعين الرّيبة على أنّك مفسد شرائع، فيثبت عنده صدق ما كنت قد عُوقِبْتَ عنه؛ إذْ هو لا خلاف في أنّه كلّ مفسد للشّريعة، فهو مفسد أيضا للفتية و ذوي العقول الضّعيفة. وإلاّ فربّما أنت ضارب عن هذه المدن ذوات الشّريعة الحسنة والأهل الأكمل أخلاقا ؟ فإن فعلت ذلك، فما حياتك بعدها ؟ وإن أنت دنوت منهم فأنّى لك عندئذ أن تجسر بالحديث معهم كما كنت تتحدّث معنا هاهنا بأنّه ليس شيء في الإنسان أعظم درجةً من الفضيلة والعدل، والشّرع والشّريعة ؟ إنّك، يا سقراط، لَأَنْبَهُ من أن تغفل من أنّ هؤلاء لسوف يتبيّنون إذًا بأنّك إنّما تقول ما لا تفعل.
لكنّك ربّما كنت سوف تروم أن تنأى بنفسك عن مثل تلك المدن لتُيَمِّمَ شطر تسّالي وتقيم بين مضيّفي كريطون. إنّما هنالك فأنت لاق الفوضى، والانحلال، ولاجرم أنّك واجد من أهلها انبساط لروايتك لهم كيف فررت من سجنك خَسِيسَ الفرار، وكيف غيّرت خِلْقَتَكَ الظّاهرة وقد تنكرّت في ثياب مُنْكَرَةٍ، قد تكون خوذة أو أيّ لباس آخر ممّا يلبسه العبيد الآبقون. فوَاسَوْأَتَاكَ ! أَوَ بعد أن قد طعنت في السنّ هذا الطّعن، ودنوت ظاهرَ الدّنوّ من الحتف، فأنت تُظْهِرُ تشبّثا عنيدا بالحياة، على غير رضى من أقدس الشّرائع وأرفعها ؟ أَوَ تظنّ أنّ فعلك ذلك لن يكون حديثا لقيل وقال ؟ ربّما لن يكون ذلك ما لم تخاصم أحدا. أمّا لو فعلت، فلا مناص لك حينئذ، يا سقراط، من سماعك ما يُزْرِيكَ من كلام. لذا فأنت ستبقى مضطرّا لأن تصانع كلّ النّاس، فِعْلَ العبيد. وما عساك أن تفعل بأرض تسّالي سوى أن تحضر الولائم، كما لو كان ذهابك هناك إنّما لحضور مأدبة. أمّا كلامك الحسن في العدل والفضيلة، فأيّ مآل مآله هنالك ؟ إنّك قد تكون إنّما طلبت النّجاة لنفسك حتّى تعلّم أبناك وتربّيهم ؟ فواعجبي ! أ فتأخذ أبناءك إلى تسّالي حتّى تربّيهم وتعلّمهم، فترضى لهم حظّ أن يكونوا هناك غرباء ؟ فإن كنت لا ترضى، فإنّك ستتركهم هنا ليربّوا ويعلّموا. ولكن، أَوَ قد تظنّ بأنّهم إنّما ينالوا تربية أفضل، وتعليما أحسن إذا كنت حيّا منهما إذا كنت ميّتا مفارقا لهم ؟ فقد تجيب : " لا جرم أنّ ما تركت من أصدقاء هم كافلونيهم." " فواعجبي، إن كان هؤلاء هم أهلا لأن تأمنهم على تربية أبناءك حين تهاجر إلى تسّالي، فما يمنعهم من أن يكونوا أهلا لذلك أيضا، لو كنت قاصدا الهادس***. إذْ هؤلاء الّذين يزعمون بأنّهم أصدقاء لك لو كانوا أهل خدمة لك حقّ الخدمة، فلا يسوؤنّك ظنّك في أنّهم لا محالة هم كافلون لأبنائك خير كفالة.
XVI ـ فأَيْ سقراط، لِتسمع لقولنا نحن الّذين كنّا قد ربّيناك، وإيّاك وأن تضع أبناء، ولا نفسك، ولا شيئا من الأشياء على غير سَمْتِ العدل حتّى إذا ما بلغت إلى الهادس***، فإنّك واجد ذلك لتدافع به عن نفسك عند من يسوسون ذلك المكان. لأنّك لو فعلت ما قد وُسْوسَ به إليك فإنّ عملك لن يكون على غاية الفضل، ولا على غاية العدل، ولا على غاية القداسة لا لك ولا لأهلك ولا لخلاّنك إذا ما بلغت ذلك المكان. أمّا لو غادرت اليوم إلى العالم الآخر، فإنّك لن تغادرنا والّذي كان قد عاقبك بغير حقّ هم نحن، الشّرائعَ، بل البشر أنفسهم. أمّا لو آثرت الفرار وقد رضيت خَسِيسَ الرّضا أن تقابل البغي بالبغي، والشرّ بالشرّ، وأن تنقض العهود والمواثيق الّتي واثقتنا بها، وأن تنال بالضرّ أقلّ النّاس أحراهم بإيذائك لهم، أي نفسك وخلاّنك ووطنك وأنفسنا، فواللّه، لن نرضى عنك ما حيت، و في العالم الآخر، فإنّ أخواتنا شريعة الهادس، لن يتقبّلن إلاّ قبول السّخط لَمَّا يعلمن أنّك قد أستفرغت الوسع حتّى أبطلتنا. فهلاّ سمعت إذًا لنصحنا، وطويت صفحا عن ما وسوس لك به كريطون ؟ "
XVII ـ ذلك ماهو ، يا كريطون، أيّها الصّديق المخلص، ما أتوهّم سماعه، كما قد يتوهّم سماعه أصوات ناي من ألمّ به غضب الأشباح، وإنّ هذه الأصوات لتعتمل في خاطري وتجعلني غير قادر عن أن أنصت لشيء غيرها. فلذلك، فأيّ شيء فعلت ومهما جرّدت من حجج، فلن تنال منيّ طائلا. أمّا لو قد توهّمت غير ذلك، فلك أن تتكلّم.
كريطون.
كلاّ، يا سقراط، فليس لي البتّة ما أقول.
سقراط.
فلنضرب إذا عن ذلك صفحا، يا كريطون، وهلمّ نفعل ما أمرتك، فإنّما ذلك هو السّبيل الّذي كان قد هدانا اللّه إليه.

تمّت المحاورة.



* PLATON, Criton , Traduction E.chambry, Garnier Flammarion 1965.

** كلّ هذه أسماء جزر أو مدن في اليونان القديمة.
*** الهادس، هو المكان الّذي تهاجر إليه الأرواح بعد الموت، في اعتقاد اليونان القديم.

http://membres.multimania.fr/philosophie15/

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق