السبت، 21 أغسطس 2010

الحقيقة

الرغبة في المعرفة هي في الواقع رغبة في الحقيقة.. في ادراك حقيقة الأشياء و حقيقة الانسان والوجود عامة.."غريزة الحقيقة" تتجلى أكثر في ذلك الحافز الذي لا يهدأ و الذي يدفع الانسان باستمرار للتساؤل .. تتجلى كذلك في ذلك الشعور بالاحباط و بالتذمر الذي يسيطر على كل شخص يكتشف متاخرا ان ما كان يعتقده حقيقة ما هو في الأصل الا وهم أو خدعة..
نسمع دائما أصواتا تطالب بالحقيقة.. في المحاكم في الصراعات السياسية و في مختلف المنازعات.. كما يعتبر كشف سر من الأسرار عادة بمثابة انجاز.. بغض النظر عن طبيعة تداعياته.
هناك اذن هدف واضح اسمه الحقيقة. غاية ينشدها المفكرون العلماء و الفلاسفة و المحققون ايضا... ما سر هذا الجري وراءها اذن؟
هل سيكون الانسان أكثر سعادة و هدوءا اذا تمكن من كشف كل الحقائق أم سيزداد تعاسة؟ و هل نستطيع فعلا ان نصل الى الحقيقة بمفهومها المطلق و العام و الشامل؟ و هل الحقيقة واحدةأم متعددة؟ هل هي نفسها بالنسبة للجميع؟أم أن ما يبدو لي حقيقيا قد يبدو للاخر مجرد وهم و ضلال؟ ألا تتضارب اراء الناس و تتنوع لدرجة الحيرة؟ ألا يقتتل الناس بسبب اعتقاد كل طرف انه هو الذي يملك "الحقيقة"؟ ألا يمكن القول أن ما يعتبر حقيقيا هنا.. الان.. بالنسبة لهؤلاء.. قد يكون هو الخطأ عينه هناك.. في زمن اخر.. بالنسبة للاخرين؟ أم أن الحقيقة قيمة مثالية متعالية عن تقلبات الزمان والمكان والأشخاص؟ هي نفسها سامية ثابتة حقيقية في ذاتها.
يحتاج الأمر اذن الى تدقيق.. الى عمل هادئ.. للتمييز بين ما هو حقيقي فعلا و ما هو مجرد رأي
و انطباع أو وجهة نظر.. قد تبدو لصاحبها حقيقية في حين هي ليست كذلك. و هذا يفرض أن نتأكد من وجود معايير صارمة و دقيقة للحقيقة حتى نتفادى أي خلط. و أخيرا لابد من التأكد من مدى جدوى هذا المفهوم و مدى قيمته و مدى أهميته في الحياة. و الا فلا داعي لكل هذا السعي المجنون نحوها..
الحقيقة و الرأي
كم هو صادم فعلا أن نكتشف أن ما كنا نعتقده حقيقيا لا غبار عليه.. ما هو الا وهم أو اعتقاد خاطئ. لذا وجب الحذر و عدم التسرع في اصدار الأحكام اليقينية الجاهزة حول موضوع لا نملك ما يكفي من قوة اقناعية للتصديق به. هذا ما يمكن استخلاصه من تجارب فلسفية جد مميزة. فأسطورة أفلاطون الشهيرة- حول سجناء الكهف الذين امضو عمرهم وسط ظلال الأشياء معتقدين أنها حقائق- تعتبر خير مثال يوضح هذا الأمر .. لأن الشخص حين يولد في وضع و يعتاد عليه يتحول لديه الى يقين ..و يصبح من الصعب جدا اقناعه بالعكس. و حده من يغامر و يقرر "الخروج" من وضعه الأولي بحثا عن افاق أخرى يمكنه أن يقارن.. و بالتالي يمكنه أن يراجع أحكامه الأولى.. سجناء الكهف اعتادوا على رؤية الظلال .. و صارت تبدو لهم حقيقة . و أي محاولة لاخراجهم من ظلام الكهف الى نور الواقع ستصطدم بمقاومة شديدة.. لأنها تكون مؤلمة لهم. هم مرتاحون في جهلهم الأولي.. و ليسوا مستعدين لأي مجهود عضلي أو فكري لمراجعته. انهم مرتاحون حيث هم. فالأفكار الخاطئة تصمد لأنها تبدو مريحة لأصحابها أفضل من أي عناء قد يسببه البحث عن المعرفة الحقيقية. و حين يقرر شخص –تمكن بعد جهد و عمل مضني من ادراك الحقيقة- أن يرغمهم على التخلي عن وهمهم نحو ما هو حقيقي.. سيعاني الأمرين و ربما يدفع حياته ثمنا لذلك. ما الحل اذن؟
الجواب سيأتي من طرف ديكارت على شكل تجربة فلسفية أخرة جد مميزة . فالخروج من الكهف لا يتم بالاكراه كما حاول أفلاطون أن يوضح.. و انما هو تجربة فردية ذاتية خاصة. كل شخص مطالب أن يقف لحظة و لو مرة واحدة في حياته ليتساءل: هل ما أعرفه صحيح؟ من أين لي به؟ من الذي يؤكد لي انني أعرف الحقيقة؟؟
يخبرنا ديكارت أننا منذ ولادتنا نبدأ في تلقي الأفكار و الخبرات على أنها حقائق .. لقد امتلأت رؤوسنا بشتى أنواع المعارف.. هل كلها صحيحة؟ من الصعب الجزم بالايجاب. ما العمل؟ هل يمكن أن نفحصها كلها واحدة واحدة؟ انه عمل قد نمضي كل حياتنا دون أن ننتهي منه.
الخطوة المنهجية الجريئة والشجاعة التي يقترحها ديكارت هي افراغ كل شيء –عملية مسح الطاولة- و اعادة الملء من جديد.. بعد وضع غربال دقيق . لنشك اذن منهجيا في كل شيء ولنعد ترتيب أفكارنا. لكن هذه المرة على أسس صلبة و يقينية. بهذه الطريقة يمكن حسب ديكارت أن نعزل الحقيقة عن الرأي.
لأن الرأي على حد تعبير باشلارBachelard تفكير سيء أو هو بالأحرى لا يفكر. انه اعتقاد أو تصديق بوقائع أو بأفكار دون اية قوة اقناعية.. دون دعامة حجاجية. انه لا يرقى الى مستوى الفكر و هو بالتالي العدو الأول للعلم لأنه ينتج عادة عن حاجات معينة لدى عامة الناس.. و يترجم رغباتهم و أهوائهم الى معارف وهمية تحقق لهم نوعا من الارتياح.. بينما العلم يتميز بالموضوعية و الدقة و المنهجية و الصرامة المنطقية.. و هي أمور لا تتحقق الا بعد التخلص من الأفكار الشائعة و بعد هدمها. لكن كيف؟ فالأمور أحيانا تبدو متداخلة. كيف نضع الحدود الفاصلة بين الحقيقة و الرأي ؟
سيساعدنا kant على ذلك فهو يضع تمييزا دقيقا بين ثلات أنواع من الاعتقادات:
الرأي- الايمان- المعرفة و بالتالي يجب الوعي بها جيدا لتفادي أي خلط.
فالرأي هو كل اعتقاد لا يتوفر صاحبه على الاكتفاء الذاتي و الاكتفاء الموضوعي. أي لا يستطيع أن يؤكده لا لنفسه و لا للاخرين.. لأنه يفتقر للقوة الاقناعية و للبراهين التي يمكن أن تجعله مقبولا بشكل عام من طرف الجميع . انه يبقى مجرد احتمال.. حتى صاحبه يمكن ان يعيد فيه النظر لاحقا . و هذا حال الاراء الشائعة و المعرفة العامية.
أما الايمان فهو كل اعتقاد يكون لصاحبه اكتفاء ذاتي به.. أي متيقن منه بشكل مطلق..لكنه لا يتوفر على اكتفاء موضوعي.. أي لا يستطيع أن يحوله الى حقيقة موضوعية يصدق بها الجميع. اذ يوجد أشخاص لا يشاطرونه نفس الاعتقاد لانهم لهم ايمانهم الخاص.. و الذي يبدو لهم هم أيضا يقينيا دون أن يستطيعوا اقناع الاخرين به. وهذا حال المذاهب و المعتقدات الدينية مثلا.
وأخيرا هناك المعرفة و هي الاعتقاد الذي يتحقق فيه الاكتفاء الذاتي و الاكتفاء الموضوعي معا. أي هو يقيني ليس فقط لصاحبه .. بل يقيني لكل الناس. لأنه يقبله العقل و المنطق.. و لا أحد يجد ترددا في التصديق به. حتى و لو كان من ثقافة أخرى لها ايمانها و معتقداتها المختلفة .و هذا حال الحقائق العلمية و المعارف الرياضية مثلا.
للتمييز اذن بين الرأي و الحقيقة هناك مسألة الاكتفاء , فالاكتفاء الذاتي يسمى اعتقادا – بالنسبة لي- أما الاكتفاء الموضوعي فيسمى يقينا – بالنسبة للجميع - .
لكن كون الرأي لا يعتبر معرفة, هذا لا يعني دائما أنه مرفوض , فهناك من الفلاسفة من يكشف وجهه الايجابي أحيانا. ليبنز Leibnez يرى مثلا أن الرأي قد يستحق اسم معرفة رغم طابعه الاحتمالي , لأنه يبقى مع ذلك له دور ثوري في مجال تاريخ الأفكار , و في مسيرة تطور العقل البشري . فكثير من المعارف الحقيقية الحالية بدأت مجرد احتمالات , و كانت تعد في البداية مجرد اراء تفتقر لليقين. لكن مع مرور الزمن تم تدعيمها بالحج اللازمة لتتحول الى حقائق . فقد كان كوبرنيك و كاليلي ... و اخرون يبدون وحيدين ومعزولين في ارائهم, لكن ثبت بعد ذلك أن هذه الاراء هي ما سيحمل صفة الحقيقة.
الاراء ايضا يمكن أن تكون طريقا نحو الحقيقة , هذا ما يدافع عنه باسكال Pascal اذ يرفض اعطاء السلطة المطلقة للعقل. لأن المعرفة يمكن أن تتحقق الى جانب العقل بوسائل أخرى : بالقلب مثلا ..بالعواطف.. و بالاراء الخاصة. بل حتى العقل اذا أراد أن يعرف فانه يستند الى مبادئ يتم حدسها أو ادراكها بالقلب. و المقصود بالقلب هنا ذلك الادراك المباشر لبعض الحقائق دون الاستعانة بأي استدلال عقلي أو منطقي . فكما للعقل براهينه وحججه .. للقلب أيضا مبرراته التي لا يعرفها العقل أو بعبارة Pascal الجميلة:
"Le cœur a ses raisons que la raison ne connaît pas"



معايير الحقيقة

نحتاج اذن –على ما يبدو-الى طريق واضح يقودنا للحقيقة..نحتاج الى منهج يمكن –اذا ما اتبعناه جيدا-أن نتفادى السقوط في الخطأ. وهذا ما سيجهد الفلاسفة عقولهم من أجل تحقيقه بدقة ..الى درجة أن ديكارت Descartes مثلا سيخصص كتابه الرئيسي : "Discours de la méthode " لوضع المعايير الضامنة لقيادة العقل بشكل سليم نحو الحقيقة. ويحددها أساسا في مفهومين مركزيين: الحدس و الاستنباط . و يقصد بالحدس ذلك التصور الصادر عن ذهن يقظ خالص , و الذي يتميز بالوضوح و البساطة و التمييز , بحيث لا يبقى معه أي شك فيما يدركه . أما الاستنباط فيقصد به عملية الاستنتاج التي يقوم بها العقل بالضرورة من مبادئ معينة وفق منطق صارم و استدلال رياضي دقيق. يركز ديكارت اذن على مفاهيم الوضوح و البداهة و التميز و الاستنباط ... بمعنى ان معيار الحقيقة لديه هو العقل . و كل ما يبدو للعقل بديهيا فهو حقيقي, أي كل الامور التي لا يجد العقل أي تردد أو شك في التصديق بها نظرا لوضوحها و خلوها من أي تشويش, و نظرا لتميزها عن كل المواضيع التي يمكن أن تختلط بها, فانها اذن حقيقية.
وهو المعيار الذي يدافع عنه سبينوزا Spinoza أكثر حين يؤكد أن الحقيقة لا تحتاج الى أي معيار خارجي عنها مادامت هي معيار ذاتها. فمن يمتلك فكرة صحيحة لا يحتاج الى من يعلمه بذلك. أو من يؤكده له. لأن الفكرة الصحيحة تخبر عن نفسها و تؤكد ذاتها مادامت تبدو بديهية جدا لصاحبها, و البديهي يفرض نفسه على العقل, و لا يمكن حجبه بأي شكل من الأشكال. انه يفرض نفسه بوضوح تام .
غير أن ليبنز leibnez لا يبدو له هذا المعيار كافيا. فأن تبدو لك فكرة ما واضحة ومتيميزة, لا يعني بالضرورة أنها يقينية ما لم تتم البرهنة عليها بشكل سليم, تحتاج الفكرة اذن حسب ليبنز الى ما يدعمها , كالحجج و الاستدلالات المنطقية, كي تصير حقيقية. فالمعيار ليس هو الوضوح والبداهة وانما هو البرهان. لأنه لا يكفي أن تبدو لك واضحة و متميزة , بل يجب أن تجعلها تبدو كذلك للاخرين أيضا , و هذا يتطلب منك تقديم كل ما لديك من حجج و براهين حتى تتأكد من أنك لست واهما.
من منظور اخر.. يرى هيوم D-Hume – و التجريبيون عموما – أن هذه المعايير السابقة تصدق فقط في القضايا العقلية و الحقائق الرياضية التي لا يحتاج للتأكد من صحتها الى أي مرجع اخر , بل يتم ذلك بعملية فكرية عقلية خالصة . لكن ليست كل القضايا كذلك. اذ هناك مثلا الوقائع التجريبية, و هي موضوعات يجد العقل نفسه مطالبا بدراستها أيضا. و هي بحكم طبيعتها المختلفة عن القضايا الرياضية تفرض اعتماد معايير أخرى كالاحساس و التجربة.


الحقيقة كقيمة

كل هذا الاصرار الفلسفي على بلوغ الحقيقة ما كان ليكون لو لم تكن لها قيمة , فقد نظر اليها دائما كقيمة القيم نظرا لأهميتها المعرفية و الأخلاقية. فالوصول الى الحقيقة شكل دائما لدى الفلاسفة التقليديين الغاية القصوى لكل معرفة. و بالتالي يكون مدرك الحقيقة عارفا, مع ما يمنحه له ذلك من وضع اعتباري مميز, و من سمو على كل الجهلة و الغارقين في الوهم و الخطأ.

قيمة الحقيقة أيضا استمدتها من بعدها الأخلاقي نظرا لارتباطها بقيم الحق و الخير و العدالة والصدق. وهو ما جعل الفيلسوف كانط kant يعتبرها واجبا أخلاقيا, و يطالب بقولها في كل ظرف مهما سبب ذلك من ضرر, مادام الضرر الأكبر هو أن يتم ضرب مبدأ الحقيقة بدافع مصالح شخصية أو مراعاة لاستثناءات ذاتنية ظرفية.
موقف كانط هذا سيتعرض لانتقادات عنيفة ترى فيه نوعا من المثالية التي تتنافى مع الواقع والذي يفرض – بنظر كونسطان B-Constant مثلا – اللجوء أحيانا لاخفاء الحقيقة حفاظا على أرواح الناس و مصالحهم, و حفاظا بالأساس على قيام المجتمع الذي ما كان ليستمر لولا كل أشكال الكذب و الاخفاء التي يقوم عليها.
و اذا كان كانط يريد عزل الحقيقة عن ما هو ظرفي ليضعها في خانة المثل, فان هناك من يعتبرها مفهوما خاضعا للواقع بكل اكراهاته و تقلباته, و لعل " الفلسفة البراغماتية" هي أهم من دعى الى ذلك . اذ يؤكد ويليام جيمس W- James أن قيمة الحقيقة لا تكمن في ذاتها , و انما تقاس بمدى قدرتها على التأثير في الواقع.. ومدى الفائدة التي يمكن أن تترتب عنها. و يتفق البراغماتيون عموما على أن الأفكار الحقيقية هي تلك التي نستطيع استيعابها و الانخراط فيها والتحقق منها اجرائيا. انها تكتسب قيمتها من العمل الذي تنجزه مادامت ترتبط بالنشاط الانساني. انها بكل بساطة تلك التي يمكن أن تمنح الارتياح لنجاعتها و لما تحققه من منفعة.

و يبقى أعنف نقد وجه للحقيقة من حيث هي قيمة هو الذي صدر عن الفيلسوف الألماني الاستثنائي نيتشه Nietzsche والذي فضل – بدل توضيح قيمة الحقية – أن يحفر عن جذورها وأن يعود الى مصادرها الأولى ليكشف عن أصلها و عن تشكلها الجينيالوجي متسائلا : من أين يمكن أن تأتي غريزة الحقيقة؟ ليجيب : ان الحقيقة ما هي في الأصل الا مجموعة من الأوهام التي ثبت نفعها للانسان, و بالتالي ستأخذ قيمتها من خلال ترسخها في اذهان الناس بفضل تحقيقها للشروط الضرورية لحفظ بقائه. فالانسان حسب نيتشه يعمل باستمرار لحفظ حياته و هو ما يدفعه الى استخدام العقل و الجوء الاضطراري للسلم و اقرار ما يجب أن يكون " حقيقة " لضمان ذلك, بينما الحقيقة الوحيدة التي لا يلتفت اليها عادة هي غريزة ارادة القوة التي تشكل صلب و جوهر الوجود الانساني, مع ما يرتبط به من غرائز أخرى كحب البقاء و حب السيطرة...
و بالتالي فالانسان لا يسعى نحو الحقيقة و لا يرغب فيها لذاتها.. وانما يطمع فقط فيما قد يترتب عنها من نتاج ايجابية و ممتعة. وهو مستعد لمعاداة كل الحقائق التي يمكن أن تكون مؤذية وهدامة, في مقابل الدفاع المستميت عن كل الأكاذيب التي ثبت له نفعها. و تبعا لذلك تكون كل الحقائق السائدة الان حسب نيتشه هي فقط مجموعة من الاستعارات و التشبيهات و العلاقات البشرية التي تم اضفاء هالة من القداسة عليها , و مسحة من الجمال بحيث صارت تبدو – من كثرة استعمالها و تداولها- "حقائق راسخة". في حين هي في الأصل مجرد أوهام نسينا أنها كذلك. الدليل على ذلك أن الشخص يوصف عادة بأنه صادق, فقط اذا استعمل نفس الاستعارات المقبولة و المتداولة , و احترم المعايير المعمول بها , و انضبط للقيم السائدة , اذ لولا هذا الخضوع لما كان هناك لا مجتمع و لا حضارة. لأن كل ما يبدو الان طيبا و خيرا و جميلا ... ما هو في الأصل الا وهم . و سيكون صادما أن يكتشف الناس أن أساس الحقيقة هو الخطأ.

نفهم من نيتشه أن الفكرة تكون في البداية مجرد احتمال أو امكانية من بين امكانيات أخرى. لكن فعاليتها و نجاعتها في ظرف ما, و ما ترتب عليه من تبني و توارث للفكرة جيلا بعد جيل, أضفى عليها نوعا من القداسة بحيث صارت تبدو حقيقية, متناسين أصلها الأول. وباختصار يمكن ايجاز موقف نيتشه في قوله:
" ان الحقيقة وهم في خدمة الحياة".
منقول

حقوق الانسان والاخلاقيات

حقوق الإنسان والأخلاقيات *
الدكتور محمد محجوب
أستاذ الفلسفة بجامعة تونس - المنار
* نص المحاضرة التي ألقاها الأستاذ محمد محجوب يوم الجمعة 10 ديسمبر 2004 أمام سيادة رئيس الجمهورية زين العابدين بن علي، بقصر الجمهورية بقرطاج، بمناسبة احتفال تونس بالذكرى 56 لصدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان .
**************
سيادة الرّئيس الموقّر،
اسمحوا لي في البداية أن أعبّر لكم عن أصدق مشاعر الامتنان لما حبوتموني به اليوم من شرف إلقاء هذه المحاضرة بين يديكم، بمناسبة احتفال تونس السّنوي المتجدّد بذكرى صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. واسمحوا لي أن أجد في هذا التّشريف ما يتجاوز شخصي ليمتدّ إلى زملائي الجامعيين الذين يعرفون مدى رعايتكم لهم وحرصكم على مكانتهم ومكانة الجامعة في منظومة التّنمية التي رسمتم لوطننا العزيز.
سيادة الرّئيس الموقّر،
لا يكاد اليوم يخلو جدل سياسي ولا نقاش عامّ من تعريج على مسألة حقوق الإنسان، عرضا وتقييما، نقدا وتأسيسا، أو تحليلا ومقارنة. ولا غرابة في ذلك فحقوق الإنسان تاج الفضائل وقمّة الرّقي الخلقي والحضاري الذي بلغته الإنسانية عبر مسار تاريخي طويل ومن خلال تضحيات بطولية ستظلّ محفوظة في ذاكرة الشّعوب على مدى الأزمنة.
ولكنّ حقوق الإنسان، من جهة أخرى، باتت كذلك من أوكد القضايا وأشدّها راهنية، أمام المشهد العامّ الذي يبدو عليه عالمنا اليوم، والذي ليس أقلَّ عناصره ما تولِّده الحروب والنزاعات من العنف، وما يطرحه تفاوتُ التّنمية بين الشعوب والأمم من فواجع الفقر وفقْد الكرامة الإنسانية، بل ما ينجم في صلب العولمة الشاملة من قضايا الضَّيْم الذي تُدخله ثقافةٌ على أخرى، وخاصةً على أصحاب ثقافة أخرى، لا بفعل فضل هذه على تلك، بل بفعل توفّر الأداة والآلة لهذه ونُدرتها ونقصانها لدى تلك. فالكلُّ يعلم اليوم، أنْ لا فضل لثقافة على أخرى، وأنّ كلَّ الثقافات إنما هي منظوماتٌ وأنساقٌ من التعامل مع العالم، لا يزداد فضلُها إلا على قدر اتساعها لمعرفة غيرها، والاستفادةِ منه، وانفتاحها عليه تفاعلا أساسُه الاحترام المتبادل. بل إنّ حقوق الإنسان قد دخلت كإشكالية، منذ أمد غير قصير، إلى قلب مخابر البحث العلمي ولاسيما أشدِّها تخصّصا وتوغّلا في المعرفة، تلك التي قد يُظن بها أنْ لا علاقة لها بمسائلِ حقوق الإنسان : فما تطرحه اليوم المعالجات الجينية، والممارسات التّطبيبية، إنما هو في صميم الحقوق الأصلية للإنسان، تلك التي تتّصل بكونه إنسانا، مجرّدَ إنسان.
لذلك فإنّ المرء، إذا ما قلّب النّظر في المسألة ونشَد استقصاءها واستيفاء أبعادها، وجد أنّ الإنسان الذي يُقصد، في الأصل، بالحقوق في عبارة "حقوق الإنسان"، إنما هو الإنسان في جميع أبعاد إنسانيته، تلك التي تتأتّى من كونه إنسانا، أعني نفسا إنسانية، ومن كونه اجتماعيا، أعني ملتقى الأوضاع والأدوار، ومن كونه سياسيًّا، أعني مواطنا، ومن كونه ثقافيا حضاريا، أعني متمثِّلا للعالم فيما يُعرف برؤى العالم. فثمّة ضربٌ من البنية الشمولية للإنسان لعلّها هي المقصودَ الأصلي، أعني المقصودَ الأقصى، بحقوق الإنسان. وإنّ هذا المقصودَ الأقصى الذي يجمع أبعاداً لا نفرّق بينها إلا إجراء للتّحليل، واصطناعا للمنهج، إنّما هو المشار إليه في العبارة اليونانية "إيثيقا"، التي باتت تعرّب اليوم إلى "الأخلاقيات".
فيبدو لي أنّ أوّل معاني الإيثيقا، وهو المعنى الذي سنّه لنا الإغريق، وأنصت إليه العرب والمسلمون من بعدهم أيما إنصات، إنما هو هذا المعنى الجامع الذي سؤْلُه ومطلوبه مَقامُ (séjour )الإنسان في العالم، ومنزلتُه منه، أو كما أصبحنا نقول اليوم، كرامتُه ضمنَه. لذلك مثلا يفرّق أبو نصر الفارابي بين العلم المدني والعلم الإنساني1، جاعلا هذا الأخير علم الغاية من الوجود الإنساني، أي علم المنزلة والمعنى، وجاعلا من الأوّل علم الأدوات التي تُنال بها تلك الغايةُ. فكأنّما علمُ مقامِ الإنسان هو مصدرُ التّشريع أعني أنّه مصدرُ سَنّ القوانين التي بها يُحقَّق ذلك المَقام. ولكنّ الأهمّ في أثناء ذلك إنما هو أنّ تشريع القوانينِ وسنَّها إنما يخضع لغاية المَقام اللائق بالإنسان. فلعلّ الحاصل من ذلك أنّ القوانينَ والتّشريعاتِ إنما تُشتقُّ اشتقاقا من أساسها الإيثيقي، أعني أساسَها المعياري ، ألا وهو ما ترتئيه مجموعةٌ ما من البشر لنفسها مَقاما لائقا بها محقّقا لكرامتها.
إنّ هذا المصدر الأقصى للقوانين هو الأفق المعياري الذي يرنو إليه كلّ تشريع جدّي، أعني كلَّ تشريع يريد لنفسه أن يكون ذا مشروعية. وحتىّ إذا ما أصبحنا اليوم نتحدّث عن إيثيقات كثيرة، أو عن أخلاقيات كثيرة، فبهذا المدلول الذي يجعل كلَّ نسق من التّشريعات أو القوانين أو القواعد، في مجال من المجالات، مُلزما بأن يكون مشتقّا أو مترتّبا عن مستوى من النّظر أرفع منه، وهو مستوى المعنى، الذي يحفَظُ القوانين من أن تكون مجرّد أوامر، ويحمِلُها على أن تكون متوافقة مع المثل الكبرى التي تتبنّاها المجموعة بوصفها تنتمي إلى الإنسانية. فالأخلاقيّات هي إذن مرجَعيات التّشريع، لأنها قبل ذلك مرجعياتُ الإنسان المحدِّدةُ لمعنى وجوده ولمثله العليا. ذلك أنّ القوانين التي شأنُها أن يأتمر بها الإنسانُ ، إنما تكتسبُ طابعها الإلزامي من كونها هي ما يرتضيه الإنسانُ لنفسه وفقا للصّورة التي يترسّم بها مَقامه. فأصل التشريع هو الحريةُ، ولما كان الأمر كذلك، فإن الأخلاقية، كما يقول الفيلسوف المعاصر بول ريكور ( Paul Ricoeur )، ليست إلاّ السّعيَ إلى إعادة بناء كلّ الوسائط التي تربط بين الحرّية بما هي نقطة الانطلاق، والقانون، بما هو نقطة الوصول.
سيادة الرئيس الموقّر،
إنّ المرجَعيّة التي تحدّد أخلاقيّة التّشريع في تونس تتّسم بجملة من الخاصّيات جمعت شمول الرؤية إلى أصالةِ المنهل، وحداثةِ التوجّه، وانسجامِ العناصر. فلا شكّ أنّ ديننا الإسلامي الحنيف بما يحتويه من القيم الكونية الخالدة، المعليةِ من شأن النّفس الإنسانية والمشرّفة لقدْرها، يمثّل إحدى هذه المرجعيات التي ما انفكّ العهد الجديد يستلهمها في نسق الأخلاقيات التي يؤسّس عليها تشريعاته، مصداقا للآية الكريمة :"ولقد كرّمنا بني آدم وحملناهم في البرّ والبحر ورزقناهم من الطيّبات وفضّلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا"2. ولا شكّ كذلك أنّ المرجعيّة الفلسفيّة المستنيرة التي رسّخ أسسها زعماء الفكر ولاسيما في المغرب الإسلامي، ركيزةٌ من ركائز التشريع وأفقٌ من آفاقه ليس أقلَّ أعلامها عبد الرحمان بن خلدون الذي مثّلت مقدّمتُه الشهيرةُ عودةً تأمّلية، أي إيثيقية، على النّفس وعلى التّاريخ تقوم شاهدا على المقام الذي ارتآه الإنسان لنفسه، أعني المقام الذي يحدِس التّاريخَ والعُمران إحداثيتين محدِّدتين، إن لم نقل معياريتين، لكلّ فعل3.
ولكنّ أفق الأخلاقيّة التي تؤسّس رؤية الإنسان لوجوده قد ارتفع واتّسع عندما بادر الفكر الإصلاحي التّونسي إلى إرادة التّحديث، مبادَرَةً غير مسبوقة، فإنّه هاهنا أيضا قد رسم مَقاما جديدا للمعنى يقرن قَدامة الأصل بحداثة المعرفة : ولقد كاد يؤلّف منهما منهجا جديدا ذاتيا تلقائيا لولا عوارض التّاريخ. إلى ذلك نهضت الدّولة الحديثة إبّان الاستقلال، وقد أدركت غاية الحرّية استقلالا عن "السيطرة الأجنبية"4، ولكن بذلك اضطلع العهد الجديد اضطلاع الإنجاز والفعل، بعد أن أدرك أنّ معنى الحرية ليس استقلالا عن الطغيان الأجنبي، إلا ليكون لتوّه تحرّرا من قيود الضرورة والفقر، ومن غمامات التعصّب والدّغمائية، وأنّ تحقيق كرامة الإنسان في كلّ مجالات وجوده رهينُ رؤيةٍ شموليةٍ ناجعة، لا تريد رفع الحرج بإقرار حقوق صورية اسمية. فإن الحقّ الحقيقي قدرةٌ جماعيةٌ على ممارسة الحقّ، ومغادرةٌ لدَرَك الضّرورة التي تحوّل الحقوق إلى إمكانات جوفاء. لقد وضع العهد الجديد في صياغته لمشروعه عناصرَ رؤيةٍ منسجمة ائتلفت من تلك الرؤى المتعاقبة، وصهرتها ضمن تصوّر حريص على الحاضر، متلفّت صوب المستقبل، غير زاهد في الماضي.
لذلك فإنّ مفهومَ حقوق الإنسان، ونسقَ حقوق الإنسان في عملِ التّغيير مرتبطٌ بالإقدار على ممارسة الحقوق، وهو لذلك حاصل رؤية تريد، بقدر ما تحصّل وسائل الإرادة. هكذا فهم العهد الجديد رسالته : عملا على التّحقيق. وهكذا ائتلفت عناصرُ الأخلاقية التي تقوم عليها رؤية تونس الجديدة لحقوق الإنسان بأبعادها الاقتصادية والاجتماعية والثّقافية والسّياسية: فَمِن عناصرها أنّ مقام الإنسان لا يمكن أن يكون مقام كرامة إذا ما هو كان في خصاصة واحتياج. ومن عناصرها أنّ مقام الإنسان ليس مقامَ كرامةٍ خارج الروابط الإنسانية الحضارية الحقيقة. ومن عناصرها المعرفةُ، والثقافةُ، وعقليّةُ التّسامح والتّضامن عبارةً عن التّسامي الرّوحي والرّقي الخلقي. ومن عناصرها أيضا أن الإنسان الذي يُقصد بالحقوق لا يستثني المرأة والطفل، بل يشمَلهما ضمن تناظر حقيقي مولّد للتّوازن، محرّك للهمم ومكوّن للأمل.
إنّ النّاظر في الإعلانات والمواثيق الدّولية لَيجدُ أنّ التّمشّي التونسي إنما ينخرط في صميم المقاربة الأممية التي أقرّت الحقوقَ الاجتماعيّةَ والاقتصاديّةَ والثّقافيةَ في تلازم مع الحقوق السّياسية والمدنية، والتي اندرجت ضمن أفقِ الأخلاقية العامّة لحقوق الإنسان، هذه الأخلاقيّةِ التي حدّدتْها ديباجةُ الإعلان العالمي "إقرارا بما لجميع أعضاء الأسرة البشرية من كرامةٍ أصليّة فيهم، ومن حقوقٍ متساوية وثابتة، إقرارا يشكّل أساس الحرّية والعدل والسّلام في العالم" وتوقا من البشر إلى الأسمى، أي إلى "عالم يتمتّعون فيه بحرّية القول والعقيدة وبالتحرّر من الخوف والفاقة" وإيمانا مشترك المضمون "بكرامة الإنسان وقدْره، وبتساوي الرجال والنّساء في الحقوق" وعزما "على النهوض بالتقدم الاجتماعي وبتحسين مستويات الحياة في جوّ من الحرية". فما تحدّده هذه الدّيباجة إنما يقوم مقام "الأخلاقية الأساسيّة" بل مقام الأخلاقية التّأسيسية التي تحيل عليها كلُّ بنيةٍ تشريعيةٍ متناسقةٍ.
ولكنّ اعتزازَ تونس بعناصر هويّتها الخالدة، تلك التي تُطاول بها الكونيةَ التأسيسيةَ لكلّ تشريع، قد دفعها إلى إثراء هذه المرجَعيةِ العامّة والمشتركة بأنفَس ما لديها من القيم الذاتية الرّاسخة في صميم كيانها الروحي : لذلك فإن تعديل الدّستور الذي استفتيتم فيه الشّعب، يا سيادة الرئيس، في ماي 2002 ، قد أضاف إلى مبادئ الأخلاقيّة الكونيّة العامّة أنّ الدّولة التّونسيّة "تعمل على ترسيخ قيم التّضامن والتّآزر والتّسامح بين الأفراد والفئات والأجيال". فضمانُ حقوق الإنسان الذي جاء به تعديل الدّستور في فصله الخامس، والذي أكّد على شموليّة مبادئ تلك الحقوق وكونيتها وتكاملها وترابطها، قد انخرط ضمن بنية تأويليّة لهذه الكونية فصّلت الكرامة الأصليّة للإنسان "تضامنا وتآزرا وتسامحا"، فأدرجَ بذلك الأنموذجَ الذاتي التونسي في قلب الكونية الموضوعية التي نقيس بها اليوم إيقاع العالم. وإنما حفظًا لهذه الكرامة الأصلية، وصَلْتُم سلسلة الخير التي احتوت عهد الأمان (1857)، ودستور أفريل 1861، ومنع الاسترقاق ( 1846 )، ودستور دولة الاستقلال(1959)، فجدّدتم قانون الجمعيات، وأصدرتم قانون الأحزاب السياسية(1988)، وطورتم مجلة الصحافة، ومجلة الإجراءات الجزائية (2002)، والمجلة الجنائيّة، ومجلّة الأحوال الشّخصية، وأحدثتم صندوق ضمان النّفقة وجراية الطّلاق(1993)، وأصدرتم مجلّة حماية الطفل(1995)، وقانون نظام السجون(2001)، ومنح الإعانة العدلية(2002)، وقانون التعويض للموقوفين والمحكوم عليهم الذين تثبُت براءتُهم (2002)، إلى غير ذلك.
سيادة الرئيس الموقّر،
منذ سنة 1979، تساءل المفكّر الألماني هانس جوناس ( Hans JONAS )، في كتابه الشهير "مبدأ المسؤولية : أخلاقية للحضارة التكنولوجية"، عمّا آل إليه التّقدم العلمي والتكنولوجي :"لقد انقلب وعد التقنية الحديثة إلى وعيد. فإخضاع الطبيعة التي كانت مسخرة لتحقيق السعادة الإنسانية إنما أدّى، بنجاحه المشطّ الذي بات يمتدّ اليوم إلى الطّبيعة البشرية ذاتها، إلى أعْتـى التّحديات التي يواجهها الكائنُ البشري بفعل عمله. إن هذه الوضعية الجديدة غيرُ مسبوقة . . .، وما أضحى الإنسان اليوم قادرا على فعله، . . . ليس له نظير ضمن تجربته السّابقة. . .، فأخلاقيّتنا التّقليدية لم تعد تُرشدنا إلى معايير الخير والشرّ التي يجب أن نُخضِع لها ما استحدثناه من ضروب التّحكم في الطبيعة وما يمكن أن نبتدعه منها بفضل ذلك التحكم. إن الأرض الجديدة ... التي غزوناها بتكنولوجيا طلائعية ما تزال أرضا بكرا من كلّ نظريّة أخلاقية"5.
إذا كانت الأخلاقيّة التّأسيسية لحقوق الإنسان أخلاقيّة عامّة تتّصل بتصوّرنا عن الإنسان، وهو التّصور الذي تعاضدت لتشكيله، كما نرى، مرجعياتٌ متشابكةٌ منها الكوني الإنساني ومنها الذاتي الدّيني ومنها الخلقي الاجتماعي، فقد ظهرت منذ بداية الستّينات، ولاسيما بالقارّة الأمريكية أوّلا، ثم بأوروبّا، تساؤلات عديدة وملحّة تريد ربط الأخلاقية العامّة التي تمثلها حقوق الإنسان، ومبادئَ الكرامةِ الأصليةِ والجدارةِ القصوى للذات الإنسانية بضروبٍ جديدة من السّلوكات الخاصة بالأفراد والتي تستدعي بدورها أخلاقياتٍ مخصوصةً. وقد ساعد على بروز مثل هذه الإشكاليات ما حتّمه التطور العلمي والتكنولوجي من الحيرة التي جعلت الفرد مهموما بمعنى فعله في وضعية محدّدة، لا يبدو أن التطوّر العلمي قد قرأ حسابا لتعييرها والحكم عليها، فضلا عن كونه لم يقرأ حسابا لظهورها إطلاقا ( مثْلَ القيمة الخلقية للاستفادة الاستشفائية من زرع عضو من الأعضاء، أو العلاقة الخلُقية بين الألم الكبير واليأس من الشفاء، أو مختلف وضعيات الصحة الإنجابية، أو معرفة أثر المحددات الجينية على المستقبل الصحي والنفسي للإنسان، إلخ.). فهذه الوضعيّات الجديدة تطرح على الفرد واجب التروّي، تروّي كل لحظة، وواجبَ عودة النفس على نفسها، فيما بات يذكّر بالموقف السّقراطي القديم الذي لا ينقطع فيه الإنسان عن مراجعة النّفس ومخاطبتها ومشوَرتها في كل حين.
إن هذه الحيرة كما نرى، تعبّر عن أمنية يمكننا صياغتها في هذا السؤال :كيف يمكننا أن ندفع العلم والبحث العلمي والممارسات المدقَّقة في إطارهما، بحيث نضمن على الأقلّ عدم تضاربهما مع المبدإ العامّ لكل سيطرة على الطبيعة : أي تحقيق السعادة الإنسانية ؟
فيبدو الأمر كما لو أنّ الأخلاقيّة العامّة التي كناّ أشرنا إليها تفرز بدورها أخلاقيات محدودة مخصوصة، كلّ منها، بجهة من جهات الممارسة الجديدة. فإذا كانت الأخلاقية العامّة للكرامة الأصلية للإنسان وللجدارة القصوى للذّات البشرية أفقا مبدئيا لحقوق الإنسان في تفاصيلها، فإن الأخلاقيات المخصوصة التي تتعلّق كلّ واحدة منها بجهة من جهات الممارسة الإنسانية، تتّخذ من حقوق الإنسان ومن التّصورات المرافقةِ لها مبدأ عامّا لها.
لذلك أصبحنا نتحدّث اليوم عن أخلاقيّات "تطبيقية"، أو "مطبّقة" : هي تطبيقية أو مطبّقة، في معنى أوّل، لأنّ أحكامها، أعني القوانين التي تُسنّ ضمنها لتنظيم ممارساتها، تطبيقٌ لمبدئيتَها العامّة القائمةِ في كرامة الإنسان وحرمته. وهي تطبيقية أو مطبقة في معنى ثان، لأن أنموذج التّشريع فيها لا ينطلق من العام إلى الخاص، وإنما هو دراسة الحالة في فرادتها المخصوصة، وإفراز الحكم من الحالة الفردية تلك. إن النّظر الأخلاقي ضمن هذه الأخلاقيات الخاصّة قد بات يحتكم إلى معيارية المسؤولية، وهي المعيارية المتأتّية من تساؤل الإنسان عن عاقبة الفعل واستتباعاته. "فالأمور"، ضمن هذه الأخلاقية "بعواقبها"، وذلك هو معنى المسؤولية التي اغتنى مفهومُها فمرّ من المسؤولية عن البشر الآخرين (وهو معنى الكونية الكانطية) إلى المسؤولية عن الطبيعة كلِّها وعن الأجيال اللاّحقة خصوصًا. إنّ ما حدث ضمن التّفكير الأخلاقي هو، بصفة لافتة، إدراج بعد الزّمن ضمن التّفكير: فالعبرة لم تعد بحقيقةٍ ثابتةٍ أزليةٍ فقط، بقدر ما أصبحت أيضا بحقيقة يُعَدِّلُها الزّمان. إنّ السيطرة على الطبيعة اليوم لابدّ أن تعتبر أن عين تلك الطبيعة ملكٌ لأجيال لاحقة، وأنّ فعل الإنسان في تلك الطبيعة اليومَ يُسأل عن عاقبته أي عن نتيجته واستتباعاته.
فكأنّ مجال الحرّية الذي يطلق العنان للبحث النّظري والمخبري يبدو محاطا بمطلب التّعقّل الذي يحكِّم مبدأَ المسؤوليةِ والمعنى. وفي هذا السياق بالذّات برزت الأخلاقيات المخصوصةُ والتي يمكن أن نذكر منها على وجه الخصوص أخلاقيات البيوإيثيقا ( Bioéthique )، حيث تقوم هذه الأخيرةُ على نقطة التقاطع بين الممارسات العلميةِ والتقنيةِ المحضة من جهة، والإشكاليات المعياريةِ والخلقيّة التي تطرحها هذه الممارساتُ من جهة ثانية. ويمكن تلخيص الإشكالية التي يطرحها هذا التقاطع في السؤال التالي: هل كلّ ما يمكن إنجازُه تقنيا مشروعٌ خلقيا ؟ فالأمر يتعلّق إذن بمدى تعارضِ الممكنِ "العلمي/التقني" الذي ينزَعُ نحو اللانهاية، لأنّه محكومٌ فقط بمنطق الاكتشاف والاستزادةِ من المعرفة وإرادةِ السيطرةِ على الطّبيعة، مع الممكنِ "الخلقي/الإيثيقي" الذي منطقُه هو منطق المتاحِ خلقيًّا، وحدُّه هو مبادئُ كرامة النّفس الإنسانية.
إن التّقدم الذي حقّقته المعرفةُ الطبّيةُ، تقدّم مذهِلٌ.وليسَ أقلَّ مظاهر هذا التّقدم ما بات اليوم متاحا من المعالجات التطبيبية والجراحية التي شكَّلت تحولا نوعيا في معالجة حالات كانت تعدّ يائسةً ، ومن الهندسة الوراثية، التي جَعَلت بأيدينا مفتاح التّحكُّم في الجينات البشرية تحكُّما يتراوحُ إمكانُه بين المعالجةِ والاستشفاء من جهة ورسمِ خارطة المجين البشري ( génome humain ) من جهة ثانية، مع ما قد يُطمع فيه هذا الرسم من إغراءات التنقية والاستصفاء والتمييز. ومن المعلوم أن هذه الأدوات الجديدة تطرح جملة من الأسئلة والقضايا مثّلت مدار تفكير معمّق في صلب اللّجان الدّولية المختصّة، فضلا عن كونها تمثّل موضوع جدل فكري علمي لا يقلّ عمقا بين المهتمّين على اختلاف مشاغلهم من أطبّاء ممارسين وباحثين مخبريين ومفكّرين فلاسفة، إلخ6.
سيادة الرئيس الموقّر
لقد كان سياق حقوق الإنسان هو الإطار الذي طرحت ضمنه هذه المناقشات، مما ينزّل معياريّة القضايا التي طرحتها ضمن الأخلاقيّة العامّة لهذه الحقوق. وهو ما يعني خاصّة أن منطق حقوق الإنسان يمتدّ امتدادا كاملا إلى مجال البيوإيثيقا. ففي تناولها لقضايا المجين البشري ذكّرت اللجنة الفرعية لتطوير حقوق الإنسان و حمايتها، وهي اللجنة المنبثقة عن لجنة حقوق الإنسان بمنظمة الأمم المتحدة7، بما كان عبّر عنه الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس ( Jürgen Habermas ) من خشيته أن يؤدي الخلط بين الطبيعي فينا و"المعالج" إلى تشويش فكرتنا الإيثيقية عن أنفسنا، إذ لا قِبَل للإنسان بأن يتحمّل أن تكون حياته ومستقبله محددين جينيّا، مع ما نعلم من مدلول ذلك بالنسبة إلى حرّيته، حيث لا يمكن للفرد أن يظلّ مؤمنا بحرّيته إذا كان مستقبله ومآل أفعاله معلومَيْن له من قبلُ. فثمّة ضرب من الحقّ الأساسي لكل فرد في أن يكون مستقبله غير محدد.
إنّ مطلب الحرّية ومفهوم الحرّية، باعتبارهما حقّا أصليا للإنسان، هما اللّذان يمليان هنا هذا الحذر الأخلاقي من هندسة وراثية، هي مع ذلك علامة تقدّم علمي مدهش.
بل إنّ علم الوراثة، على عظمة الفتح الذي أتاحه للإنسانيّة ابستيمولوجيًا، يمكن أن يُستخدم لغايات لاأخلاقية أصلا، من جنس التّعقيم القسري، أو التّصفية الجماعية أو التّنقية النسلية، ذلك أنّ رسم خارطة المجين البشري لابدّ أن يصاحبه إطار إيثيقي محيط. ولعلّ أبرزَ عناصرِ هذا الإطار الأخلاقي أنّ المجين الإنساني ليس ملكا للإنسان بما هو فرد، وإن كانت بنيته وخارطته حاضرين في كل فرد. فكما أنّ بعض المعالم الأثريّة قد بلغت من الدّلالة للإنسانيّة قاطبة، ما يجعلها ملكا للبشريّة بأكملها رغم كونها في هذا البلد أو ذاك، وكما أنّ أعماق البحار ملك للإنسانية جمعاء، فكذلك المجين البشري ملك للإنسانية جمعاء، ممّا يجعله خارج طائلة التملّك الخاصّ، وخارج دائرة الاستعمال غير المشترك. إنّ هذه الفكرة من أرقى ما بلغه التفكير الإنساني في مجال الأخلاقيات. فإن اشتراك كل فرد، من جهة كونه بشرا، في معطيات المجين البشري لا تسمح له مع ذلك باستخدام خاص لخارطة ذلك المجين. إنّنا هاهنا لعلى مشارف فكرة رفيعة ودقيقة. فالمجين البشري هو بمثابة الوديعة التي استُودعت في كلّ واحد منّا. ولكنّنا في صوننا لها، كأنما نصون الطبيعة برمّتها في طبيعتنا الخاصّة. إنّ هذا الإقرار ليدعم أيما تدعيم فكرة حقوق الإنسان الأساسية : أنّ حرية الإنسان الفرد وكرامة الإنسان الفرد هي كرامة الإنسانية ككل. وهذه قيمة تتفق حولها الأديان في جوهرها، مثلما دلّت على ذلك الآية الكريمة : "من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا"8. إنّ النفس الإنسانية وديعة تراث الإنسانية فينا، وليس لنا أن نتصرف فيها كما لو كانت ملكا خاصا. ومن هنا فإنّ إحياء النفس، وصونها، إنما هو برٌّ بالإنسانية وإيفاءٌ بأمانتها.
ولكنّ الأخطار التي تشير إليها الهندسة الوراثية متعدّدة ومتنوّعة : فهي تذهب من التّأثير على البنية الجينية للإنسان إلى الاستنساخ ولاسيما الاستنساخ الموجّه نحو غايات توالدية. وتطرح هذه المخاطر عدّة مشاكل مبدئيّة : فعلى مستوى المنهج لابدّ من التّساؤل عن مدى أخلاقيّة التجريبات المخبرية. وعلى مستوى النّتائج والاستتباعات لابدّ من التّساؤل عمّا يمكن أن ينجرّ عن تحكّمنا في الجينات وتأثيرنا عليها من النّتائج بالنّسبة إلى الأجيال اللاّحقة. أمّا على مستوى الموضوع، فلابدّ من التّساؤل عن مدى احترامنا لوحدة النّفس البشرية وكرامتها وحرمتها وحقوقها عندما نخضعها إلى تجارب الهندسة الوراثية أو عندما ننشر معطياتها، وبخاصّة إذا علمنا أن عدم حفظ سر المعطيات الخاصّة يمكن أن يكون معبرا لضروب من التمييز الجيني قد تتجلّى بعضُ آثارها في تضاربها مع أخلاقية أخرى، أعني أخلاقية المعاملات الاجتماعية، ولاسيما عندما يتعلّق الأمر برفض تأمين الأشخاص أو بتعطيل تشغيلهم أو بما شابه ذلك مما يمكن أن يترشّح له الأفراد من الأوضاع الاجتماعية ( statuts sociaux ) التنافسية بسبب ما قد يُعرف عنهم من "العيوب" الجينية (وفي تونس،ومثلما نعلم، فقد تضمّن التّعديل الأخير للدّستور في جوان 2002، وفي فصله التاسع على وجه التحديد، تأكيدا لمبدإ حماية المعطيات الشّخصية، تدعّمت به حقوق الإنسان أيما تدعيم لاسيما وقد جعلت هذه الحماية مبدأ دستوريا علويا).
ومع ذلك فإنّ نفس المبادئ الخلقية التي تملي علينا إحاطة البحث العلمي والمعالجات الجينية بأقصى ما يمكن من الاحتياطات، تملي علينا في نفس الوقت ضرورة صيانة حرّية البحث العلمي وعدم إحباط طموحه ولاسيما عندما يكون في صالح المجموعة الإنسانية. لذلك فإن حرّية البحث العلمي تبدو هنا على أقصى درجات التّناسب مع مدى أخلاقيّة استعمال نتائجه. إنها في كلمة واحدة حرّية خلقية.
سيادة الرئيس الموقّر،
ضمن هذه المرجعيّة، ومن ثقافة حقوق الإنسان الشّموليّة، ومن حداثة التّوجه العلمي الكاشف، ومن جدّية الاعتبار الأخلاقي المتيقّظ، ومن رصانة المسؤوليّة عن الأجيال اللاحقة، نزّلتم موقف تونس من الأخلاقيّات، فجعلتموه متناغما مع نداءات المجموعة الدّولية، مستجيبا لراهن الأسئلة المطروحة عليها :
فنظّمتم قانونيا في سنة 1991 طبقا للمقتضيات الخلقية العليا عملية أخذ الأعضاء البشرية وزرعها وذلك خاصة بإعادة تأكيد مبدإ الحرمة الجسدية للإنسان وبتنزيه عملية التبرع بالأعضاء عن كل شائبة تجارية.
وجاء إحداثكم التّشريعي للّجنة الوطنية للأخلاقيات الطبية منذ سنة 1994 حيث كلفتموها على وجه الخصوص "بوضع المبادئ الكبرى التي تمكن من التوفيق بين التقدم التكنولوجي" في ميادين البيولوجيا والطب والصحة من جهة "والقواعد الأخلاقية والقانونية والقيم الإنسانية وحقوق الإنسان والواقع الاجتماعي والاقتصادي والثقافي" من جهة ثانية
وأكدتم حسّ تونس بمسؤوليتها على الأجيال القادمة من خلال تكريس الحقّ في بيئة سليمة ضمن سلسلة من الإجراءات المتراوحة بين إرساء نظم تنمية غابية ملائمة وبين مقاومة التلوث الصناعي، مرورا بالمحافظة على المآلف الطبيعية للموارد البيولوجية
وأسّستم على نحو رياديّ قانون حماية المعطيات الشّخصية، وهو القانون الذي تمثّل نداءات المجموعة الدّولية بخصوص مجمل الإشكالات التي تطرحها المعالجات الوراثية تمثلا كاملا، واستحضر مبادئ الأخلاقية التأسيسية التي جاء بها التّعديل الدستوري لجوان 2002 .
سيادة الرئيس الموقّر،
إنّ الدّرس المؤكّد الذي يمكن استخلاصه من استعراض قضايا الأخلاقيات في أفق حقوق الإنسان هو أنّ حقوق الإنسان منظومة متكاملة شاملة ومترابطة. ولكنّ المرء، أمام ما يشاهده يوميّا من التّمييز بين مبادئ حقوق الإنسان أو مُراتبتها في بعض البلدان لا يملك إلا أن يتساءل هل يمكن الاطمئنان إلى منظومة في حقوق الإنسان لا تتحرّج أن تقبع شريحةٌ هامّةٌ من المجتمع في بعض البلدان في أدنى مستويات الفقر ؟ وهل يمكن الاطمئنان إلى منظومة حقوق الإنسان حين يغيب حسّ المسؤولية على الأجيال القادمة وعلى مصير الكوكب بفعل الاستغلال غير البيئي، غير الحذر وغير المتيقّظ للموارد الطّبيعية، بل حين يبلغ الأمر حدّ رفض معاهدات دولية لحماية الأرض من عواقب تلوّث فيه هلاك الإنسانيّة. وهل يمكن لمجموعة بشرية ما أن تطمئنّ إلى التزامها بحقوق الإنسان حين تزدوج معاييرُها في معاملة البشر، وحين لا تبالي بأوّل حقوق الإنسان، أعني الحق في الحياة والحرية على أرضه.
إنّ المقاربة التّونسيّة لمبادئ حقوق الإنسان التي قامت على أساس كونية هذه المبادئ وشموليتها وترابطها، والتي ترفض التّمييز بين تلك الحقوق، إنما تتفاعل بنفس الرّوح مع مبادئ الأخلاقيّات، وتتمثّل في حكمة مبدأ المسؤوليّة استيعابا لعنصر الزمان وحفظا، من مُنطلق تلك المسؤولية، لحقّ الأجيال القادمة. فلعلّ في ذلك بعضَ ما يشير إليه العنوان الذي اخترتموه لبرنامجكم الانتخابي : "تونس الغد ". فشكرا لكم يا سيادة الرئيس.
*******
1 الفارابي، أبو نصر، تحصيل السعادة، دار الأندلس، بيروت، 1981 ، الفقرة 16 ، صص. 61 - 62.
2 الإسراء 17، الآية 70.
3 قد يكون من المفيد جدّا إعادة قراءة مقدّمة ابن خلدون وفق هذا المنظور التأويلي الذي يفتح نظرنا على أنّ معنى "الفعل" (وهو المقصود من وراء كامل إشكالية "حقيقة الخبر") إنما يتحدد وفق الإحداثيتين الجديدتين المجدّدتين اللتين جاء بهما عبد الرحمان بن خلدون: الزمان، والاجتماع. فوراء إشكاليات الصدق الكذب، ووراء أبعاد المسألة التأريخية وأبعاد الاكتشاف الخلدوني لعلم العمران، سؤال لاشك أنه أساسي لأنه جذري : ما هو جوهر الفعل ؟ إن انخراط السؤال الخلدوني ضمن أفق ماهية الفعل وماهية العمل هو الكفيل بإخراجه من تقاليد المسالة الابستمولوجية التي طالما حصر ضمنها، والتي تُفتح في أحسن الأحوال على مسائل العلوم الإنسانية المعاصرة وكأنها "ما قبل تاريخ" لهذه العلوم. إنّ معاصرة ابن خلدون لنا إنما تحصل من تطارحنا معه لمسألة الفعل، ولاسيما لتأويلية الفعل، التي باتت اليوم قضية السّاعة ضمن الأخلاقيات عموما.
4 دستور الجمهورية التّونسية لسنة 1959 ، التوطئة.
5 جوناس، هانس :
JONAS, Hans, Le principe responsabilité, une éthique pour la société technologique, trad.fr. par J. Greisch, Paris,Flammarion, 1990, pp. 15-16
6 انظر مثلا في هذا الخصوص كتاب السيد جويل دو روزناي، مغامرة الكائن الحي، ترجمة د. أحمد ذياب، المنظمة العربية للترجمة، توزيع دار الطليعة، بيروت، 2003 ، وخاصة القسم الثالث منه : إلى أين تمضي الحياة ؟ صص. 199 - 266 .
7 انظر التقارير العديدة لهذه اللجنة، مثلا تقريرها عن حقوق الإنسان والمجين البشري، الدورة 56 ، أو ورقة عملها عن حقوق الإنسان والبيوإيثيقا، الدورة 55 ، أو تقرير الأمين العام عن نفس هذه المسألة ، الدورة 59 ، إلخ.
8 المائدة ، 5 ، الآية 32

الأحد، 8 أغسطس 2010

افلاطون محاورة كريتون

تقديم تعريب محاورة كريطون لأفلاطون.

أ) أشخاص المحاورة :
1) سقراط، أستاذ إفلاطون.
2) كريطون، صديق سقراط منذ الشّباب، وتلميذه المخلص، وهو أيضا من أثرياء أثينا.
ب) مكان المحاورة.
سجن بأثينا.
ج) حيثيّة المحاورة.
كان سقراط قد حُكِمَ عليه بشرب السمّ، لأنّه رُمِيَ بأنّه كان يفسد شباب أثينا، وأنّه يلحد بالآلهة. ولكنّ إنفاذ الحكم فيه قد أُجّل ريثما تعود السّفينة الّتي أبحرت إلى معبد دالوس لتقدّم القرابين إلى الآلهة . وذلك كان شعيرة تفعله أثينا كلّ سنة. وهذه الشّعيرة كانت تقضي أيضا بأنّه لا أحد حُكِمَ عليه بالموت يقتل في تلك الأيّام حتّى رجوع السّفينة. إلاّ أنّه في أثناء ذلك سعى كثير من أصحاب سقراط وتلاميذه أن يخرجوه من السّجن وينقذوه من الموت، لكنّه امتنع وأبى. وآخر مسعى لذلك كان مسعى كريطون لمّا كان قد أزف رجوع السّفينة المذكورة. وفي هذه المحاورة إنّما يظهر إفلاطون كيف أراد كريطون أن يقنع صديقه ومعلّمه بالفرار، وكيف كان جواب سقراط له.
ه) تاريخ تأليف المحاورة.
نحو 385 ق . م.
و) رأينا في المحاورة.
إنّها نصّ سلك فيه الفيلسوف أفلاطون العظيم معانيا قلّما رقا إلى ذراها، واستنبط دررها عقل من العقول في زمن أو مصر. وكلّ الكلام الّذي كان أجراه التّلميذ الفاضل على لسان أستاذه سقراط الحكيم، لمصابيح لطالما قد أنارت سبيل البشر فيما مضى من دهر، و اليوم ما أحوج النّاس إليها، وقد لفّهم الجهل واستأثر بهم الحمق ، وأُفْرِغُوا من كلّ معنى إنسانيّ، ووجوديّ أعلى، وأسمى، يأخذ بهم إلى الكمال والخير.


***

إفلاطون.

كريطون*
تعريب لطفي خيرالله.
**
سقراط.

أيّ شيء جاء بك هذه السّاعة هاهنا يا كريطون، أفليس الوقت الصّبح ؟
كريطون.
بلى، إنّه لكذاك.
سقراط.
فأيّ شيء الوقت على التّعيين هو الآن ؟
كريطون.
لقد أخذت تباشير النّهار في الظّهور.
سقراط
.
ما عجبي إلاّ من السّجّان كيف كان قد رضي بفتحه الباب لك ؟
كريطون.
يا سقراط، إنّماهو لكونه كان قد رآني غير مرّة هاهنا، فقد صار يعرفني غاية المعرفة. ثمّ إنّي لي لديه لَيَدٌ.
سقراط
.
أ قدمت الحين، أم أنّك موجود هاهنا من زمن غير قريب ؟
كريطون.
بل من زمن غير قريب.
سقراط.
فما بالك إذًا، لم ترم إيقاظي أَوَّلَ ما قدمت، بل مكثت بجانبي ممسكا عن الكلام ؟
كريطون.
واللّه، يا سقراط، إنّما أنا قد وزعت نفسي عن ذلك. إذ لو كنت مكانك، لكرهت أيضا أن أُوقَظَ باكرا، فأُتْرَكَ غرضا للبأس والحيرة. وإنّي أيضا، والحقّ أقول، لقد بقيت زمنا غير يسير أنظرك وأتعجّب منك كيف تغطّ في نومك العميق، وما كان إمساكي عن إيقاظك إلاّ تعمّدا حتىّ تستمتع بوقتك ما أمكن من الاستمتاع. و لَكَمْ كنت فيما مضى من عمرك كلّه أُكْبِرُ رباطة جأشك، ولكنّي، وإذْ تبيّنت أيّ صبر وأيّ سلوان قد تجمّلت بهما في هذه النّائبة، فلا إكبار البتّة يضاهي إكباري لها الآن.
سقراط.
ذلك لأنّه، يا كريطون، ليس يَحْسُنُ برجل سنّه كسنّي أن يجزع لدنوّ أجله.
كريطون.
فما بالنا نرى، يا سقراط، من الرّجال ممّن قد أسنّ كما أسْنَنْتَ، هو لايلبث، على سنّه الطّاعن، أن يُظْهِرِ الشّكوى ممّا كان قد كُتِبَ له.
سقراط.
صدقت. ولكن هلاّ أخبرتني ما جاء بك باكرا ؟
كريطون.
إنّما أبكرت زيارتك، ياسقراط، حتّى آتيك بنبأ هو سيء وحزين، كما هو بيّن ، ليس لك، وإنّما لي ولسائر أصحابك كلّهم، ولست أرى أنّه يوجد نبأ أعظم هولا وأشدّ وطأة على احتماليه منه البتّة.
سقراط.
وما ذاك الخبر؟ لاجرم أنّ السّفينة الّتي قُضِي لي أن أموت بعد مجيئها هي قد عادت من دالوس**.
كريطون.
كلاّ، إنّها لم تصل بعد، ولكنّ ظنّي أنّها توافي اليوم، على ما أخبر به رهط قد قدموا من سونيوس**، وكانوا قد تركوها هنالك. فهو ظاهر على ما أخبروا به أنّ وصول السّفينة يكون اليوم، ولذا، فهو لا مناص لك، يا سقراط، من أنّك غدا إنّما تفارق الدّنيا.
سقراط.
فبشراي ثمّ بشراي يا كريطون ! فلو كانت تلك هي مشيئة الآلهة فيّ، كانت مشيئتها. ومع ذلك فأنا لا أرى أنّ السّفينة تصل اليوم.
كريطون.
وكيف ظننت هذا الظنّ ؟
سقراط.
أنا ذاكر لك ذلك. أ فليس بالاضطرار إنّ موتي إنّما يكون اليوم الّذي يلي يوم إيّاب السّفينة.
كريطون.
بلى، فذلك ما كان قد قضى به مَنْ بيدهم الأمر.
سقراط.
لهذا فأنا لا أرى أنّ رجوعها يكون هذا اليوم، بل غدا. وإنّ ذلك إنّما أوحت لي به رؤيا كنت رأيتها هذه اللّيلة، وقد فعلت حسنا في أنّك قد أمسكت عن إيقاظي.
كريطون.
وكيف هي هذه الرؤّيا ؟
سقراط.
لقد رأيت فيما يرى النّائم امرأة ذات حسن ووقار، متسربلة بالبياض، وقد أقبلت إليّ، فنادتني، ثمّ خاطبتني بقولها : " أَيْ سقراط، إنّك لمُوَافٍ أرض البيتي** ذات الخصب، بعد ثلاثة أيّام."
كريطون.
أيّ رؤيا ملغزة رؤياك يا سقراط.
سقراط.
بل هي، في رأيي، على غاية البيان.
كريطون.
فهي إذًا قد أفرطت فيه. ولكنّي أناشدك آخر المناشدة أيّها الفاضل سقراط، هلاّ أخذت بنصحي ونجوت بنفسك. فموتك، عندي، لجالب لِغير واحد من الشّرور : ففوق أنّني لسوف أُحْرَمُ صديقا كلّ اليقين أنّي لن أجد له أبدا نظيرا، فعسى أن يذهب الظنّ بكثير من النّاس لا يعرفوننا جيّد المعرفة، بأنّني لوكانت نفسي قد طابت لإنفاق المال لِنجاتك، لأنجوتك، ولكنّني إنّما أنا قد طويت عن ذلك كشحا. فبحقّك، أيّ شيء أقدح لِعِرْضِ المرء من أن يُعْرَفَ بأنّه لأحرص على ماله من وفائه لصديق ؟ وعامّة النّاس سوف لن تؤمن، حينئذ، بأنّك لم تلن لتوسّلاتنا وأنّه إنّما أنت الّذي كان قد أبى الفرار من هاهنا.
سقراط.
ألا أيّها الفاضل كريطون فمالنا وما لِمَا ترى العوامّ. أمّا أولو الألباب الّذين إنّما هم من ينبغي أن ننشغل لرأيهم، فهؤلاء، لا جرم أنّهم سوف لن يخالجهم أبدا شكّ في أنّ الأشياء إنّما قد حصلت كما كانت قد حصلت في الحقيقة.
كريطون.
أفما ترى، ياسقراط، أنّه، مع ذلك، فهو لا مناص من أن ننشغل برأي الكثرة. إذْ ما قد نالك لَيُرِينَا غاية الإراءة أنّ الكثرة هي لَقادرة ليس فقط على أن تُنْزِلَ بنا الضُرّ ، بل إنّها كلّما ألمّت بها النّميمة فهي قادرة على أن تنزل بنا أكبر الضرّ.
سقراط.
ياليت هؤلاء النّاس، يا كريطون، كانوا أهل قدرة على فعل أعظم الشّرور، فيكونوا أيضا قادرين على فعل أعظم الخير. غير أنّهم في الحقيقة إنّما هم ذوو قصور على فعلهم أَيًّا من الأمرين، بل ما أعجزهم عن أن يجعلوا امرء ما، ذا رشاد، أو ذا سفاهة! وكلّ شيء فعلوه، فإنّما أصله الجزاف والتّنحّس.
كريطون.
لنضع أنّ الأمر هو كذلك. ولكنّك، يا سقراط، هلاّ أجبتني عن سؤالي هذا : أيكون الّذي أقعدك هاهنا إنّما هو رعاية منك لنا ؟ أي أتكون قد خشيت إن أنت فررت من هاهنا أن يلحق بنا أهل السّعاية والوشاية الضرّ لكوننا قد ساعدناك في الهروب، أو أن ينال مالنا أو كثير مالنا خسارة، أو أن ينالنا ضرر آخر من الأضرار. فإن كان قد ساورك ضرب من ضروب هذه الخشية، فلتنزعها عنك، إذْ، لعمري، إنّما هو حقّ علينا أن نركب مثل هذا المَحْذُورِ، وأن نركب ما هو أدهى منه، لو اقتضى الأمر ذلك، طلبا لنجاتك. فهلاّ قبلت بنصحي، وأضربت عن الرّفض.
سقراط.
إي نعم، يا كريطون، إنّها رعاية منّي لكم، وأسباب أخرى تمنع عنّي ما تدعوني إليه.
كريطون.
فإذن أَلاَ لا اهتممت بهذا الأمر. إذ أنّه ما كان قد طُلِبَ منّا كثير مال حتّى نخرجك من هذا المكان. وأيضا، أفلست تعلم أنّه قد نرشي هؤلاء السّعاة بثمن بخس، وأنّه ليس يجب مال كثير حتّى نُخْرِسَ ألسنتهم. فأنت لك أن تفعل بمالي ما شئت : فعسى أن يكون وافيا بما نطلبه. أمّا لو كنت إنّما قد أشفقت عليّ، وكنت ترى أنّه لا يجوز لي أن أنفق مالي، فهو يوجد ها هنا رجال غرباء يرغبون في أن ينفقوا أموالهم من أجلك. وواحد من هؤلاء كان قد حمل معه ما يكفي مِقْدَارَ مَالٍ. وأيضا قابس وآخرون كثيرون فكلّهم قيد إشارتك. لِذَا فها أنا أعيد عليك الطّلب كرّة أخرى : ألا لا تضربنّ عن طلب النّجاة لِمَا قد خشيته من مثل تلك الأشياء، ولا يَذْهَبَنَّ بك الظنّ كما كنت قد قلت عند المحكمة أن أمرك صائر إلى العسر لأنّك لو خرجت من هاهنا، فإنّك ستضيق بك السّبل. كلاّ، بل إنّك في غير بلادك، لسوف تُكْرَمُ أيضا، أمّا لو رُمْتَ أن تذهب إلى تسّالي**، فلي بها أهل ضيافة سوف يقدّرونك حقّ قدرك، وسوف يجيرونك حقّ الإجارة حتّى أنّه لاواحد من أهلها من شأنه أن يصيبك بالأذى أدنى إصابة.
V ـ وهناك شيء آخر، ياسقرط. فظنّي أنّك لو كنت قادرا على الهروب، ولكنّك رميت بنفسك وسارعت إلى ما قد يكون تمنّاه فيك الأعداء، أو إلى ما كانوا قد تمنّوه فيك، على الحقيقة، نِكَايَةً بك، فإنّك لَرَاكِبٌ إثما. والأمر، لعمري، ليس هذا فقط، بل ظنّي أيضا أنّك إنّما أنت تخون أبناءك. فأنت قادر علىأن تربّيهم غاية التّربية، وأن تعلّمهم غاية التّعليم. لكنّك آثرت أن تتوارى وتتركهم وشأنهم، وكلّ الّذي في سيرتهم إنّما يرجع أمره إليك، فقد فوّضته للجزاف والصّدفة. ولا جرم أنّه سوف ينالهم ما ينال كلّ يتيم من شرّ وضرّ. إنّنا إمّا أن نُمْسِكَ عن ولادة الأولاد، وإمّا أن نكدح من أجلهم لإطعامهم، وتربيتهم. أمّا أنت، فكأنّي بك قد مِلْتَ للحظّ الهيّن، والحال أنّه كان حقيقا بك أن تميل للحظّ الّذي إنّما يختاره أهل الفضل، لا سيّما إذا كنّا ممّن دأب كلّ حياته يعلّم الفضيلة ويحضّ عليها. لذلك فهو ليملكني الخجل لِمكانك ولِمكان أصحابك : فَفَرَقِي أن يُعْزَى إلى خذلاننا لك كلّ ما قد نالك، من قبول الدّعوى ضدّك في المحكمة، وقد كنّا قادرين على منعها، ومن طريقة التّرافع نفسها، ومن عاقبتها ذات الإزراء الّتي من شأنها أن تدفع بالظنّ إلى أنّه لكوننا قد تراخينا وتلهّينا فنحن لم نهتمّ للدّعوى، لأنّنا لم نهبّ لإنقاذك، وأنّك نفسك لم تنج بنفسك، ولقد كان ذلك ممكنا حقّ الإمكان ما لو كنّا قد أغثناك أدنى الإغاثة. إذن، يا سقراط، أفلم تر العار الّذي هو لاحقنا و لاحقك، فضلا عن الضرّ الّذي هو نازل بك ؟ ألا فالتُرَوِّ، بل ليس الحين حين تروّ، فبالاضطرار لقد كنت روّيت في الأمر، إذ ليس لك إلاّ خصلة واحدة تختارها، فهو اللّيلة القادمة إنّما يكون لِزَامًا أن يُقْضَى كلّ شيء. أمّا لو تمادينا في الإرجاء، فإنّ الأمر صائر حينئذ إلى الامتناع. فلا مناص البتّة من ذلك، يا سقراط، ألا فلتسمع لنصحي وتعمل بقولي.
سقراط.
هيهات أيّها الصّديق المخلص، فغِيرَتُكَ عليّ قد كانت أن تُصيب أيّما رضا في نفسي لو كانت قد وافقت الواجب؛ وإلاّ فهي كلّما كانت قويّة، كانت ممجوجة. لذا فقد لزم أن ننظر في إن كان واجبا علينا أن نفعل ما حضضتنا عليه، أم ليس بالواجب؛ فأنت تعرفنني أنّني قد اتّخذت لنفسي مبدأ، ليس اليوم فقط، بل في كلّ الأزمان، بأنّني لا أنصت فِيَّ أبدا إلاّ لصوت واحد، ألا وهو صوت العقل الّذي قد بان لي عند الفحص، بأنّه أفضل الأصوات كلّها وأحسنها طريقة. و ليس يَحْسُنُ بي أنّ أَنْكُصَ عن كلّ الحجج الّتي ما فتئت أنتصر لها فيما مضى، أَوَّلَ ما يكون قد نزل بي شرّ من الشّرور. بل إنّ محلّها في نفسي محلّ الإجلال والتّعظيم هو هو، على التّمام، اليومَ كما كان من قبل. فإذن إن نحن ما ظفرنا هاهنا بشيء أفضل منها، فلتعلم جيّد العلم بأنّني لن أُذْعِنَ لك إذًا أبدا، وإن اندفعت الغوغاء ذات القوّة القاهرة، لتبعث الرّوع في نفوسنا كما نُرَوِّعُ الأطفال، تهدّدنا بأنواع المخوّفات من حبس، وبسط عذاب، وافتكاك أموال. فأيّ الطّرق، ليت شعري، هي أحسنها، على التّمام، حتّى نأتي هذا الفحص ؟ أفلا ترى معي أنّ ذلك إنّما يكون بأن نشرع أوّلا من حيث كنت قد تكلّمت في ظنّ العوامّ ؟ إذ أَ فترانا كنّا محقّين أم غير محقّين لمّا قلنا أنّه ليس كلّ الآراء ينبغي أن نأبه لها ؟ أم أنّ هذا الرّأي إنّما كان صوابا قبل أن يُقْضَى بموتي، أمّا الآن، فهو قد بان واضحَ البيان أنّه لم نكن قد قلناه إلاّ جزافا ولغاية الكلام، و في الواقع فهو لم يكن سوى تلهّيا وثرثرة. فلتنظر إذًا معي، يا كريطون، إن هو قد تغيّر لِمَا أنا فيه الآن، أو بقي كما كان من قبل، وهل لنا أن نجعله ظِهْرِيًّا أم نتّخذه شريعة ومنهاجا؟ فهل لك أن أتلو عليك، إن لم تخنّي ذاكرتي، ما كان يقوله في كلّ لقاء أهل الفضل والكياسة. فإنّهم كانوا يُثْبِتُونَ كما كنت قد أثبته أنا نفسي بأنّه من الآراء الّتي ينطق بها النّاس ما ينبغي أن نأبه لها، ومنها ما لا ينبغي أن نأبه لها. والّذي فطرك، يا كريطون، أ فلا ترى أنّ هذا الكلام نِعَمَّا مَا هو؟ فأنت، كما قد نتبيّنة من أمور البشر، ليس يحيق بك موت يَوْمَ غَدٍ، ولا أنت مضطرب الذّهن لِدنوّ شَرٍّ منك. فإذًا لوكنت قد قلّبت الأمر، أفما كنت إنّما سوف تتبيّن بأنّ القول بأنّه لا ينبغي أن نأبه لكلّ أراء النّاس، بل إنّما ينبغي أن نأبه لبعضها، وأن نضرب عن بعضها، و أنّه لا ينبغي أن نحتفي بها كلّها، بل ببعضها فقط، ونترك سائرها، إنّما هو عين الحقّ والصّواب ؟ أفلا ترى أنّ هذا الكلام لهو سديد ؟
كريطون.
إنّه لسديد.
سقراط.
فهي الأراء الحسنة الّتي إنّما ينبغي توقيرها، وليست الآراء السيّئة.
كريطون.
نعم، إنّها الآراء الحسنة الّتي إنّما ينبغي توقيرها.
سقراط.
وأنت تعلم أنّ الأراء الحسنة إنّما هي أراء أهل الرّشاد، والأراء السيّئة إنّما هي أراء أهل الخطل.
كريطون.
نعم إنّي أعلمه.
سقراط.
VII ـ فلتنظر الآن كيف كنّا قد أثبتنا ذلك المبدأ. إنّ امرء ما شُغْلُهُ التمرّن في الرّياضة، وتحصيله المعرفة فيها، أَفتراه كان سوف يأبه لإطراء رجل أو قدحه أَيٍّ كان من الرّجال، أم أنّه إنّما اهتمامه لن يكون إلاّ لرأي طبيبه أو مدرّبه ؟
كريطون.
بل لرأي مدرّبه أو طبيبه ليس غيرهما.
سقراط.
فهو إذًا لن يخشى من مديح أو قدح إلاّ مديح أو قدح واحد من ذينك الرّجلين، أمّا العوامّ، فكلّ مديحهم وقدحهم فهو عنده إلى احتقار.
كريطون.
إنّه عنده إلى احتقار.
سقراط.
لِذلك كان قد لزم عليه أن يتمرّن، ويأكل، ويشرب، لا كما قد يصف له سائر النّاس جميعا، وإنّما فحسب، كما قد يصف له من وُكِّلَ به، ويكون عارفا بالأمر قادرا عليه.
كريطون.
ليس في ذلك شكّ من الشّكوك.
سقراط.
فإذا تَقَرَّرَ ذلك. فهلاّ أجبتني أفما كان ذلك الرّجل هو نائله لا محالة شرّ من الشّرور، لو كان قد عصى الرّجل الموكّل به، وازدرى رأيه ونصائحه، ليأخذ برأي الحَشْوِ ذي الجهل والعجز ونصائحها؟
كريطون.
لا محالة هو كان نائله ذلك.
سقراط.
فأيّ شرّ هذا الشّر الّذي يكون نائله حينئذ ؟ وأيّ شيء فيه أو في أيّ جزء منه هو سوف يناله ذلك الشرّ بسبب عصيانه ؟
كريطون.
إنّه، لعمري، البدن ما سيناله حينئذ الشرّ لامحالة. إذْ إنّما هو بدنه الّذي يكون يُهْلِكُ.
سقراط.
مرحى مرحى. ولأنّني لا أرى فائدة في أن أعرض للأشياء كلّها، فأنا مكتف بسؤالئك هذا السّؤال : أفماترى، يا كريطون، أنّ الأمر لهو كذلك، في سائر الأشياء أيضا ؟ و في أمور العدل والظّلم، والقبيح والحسن، والخير والشرّ الّتي نحن الآن إنّما نروّي فيها، على جهة التّخصيص، أفليس إنّما ينبغي أن نتّبع رأي حاكم واحد من أهل المعرفة ونخشاه، على فرض وجوده، وألاّ نتّبع ظنّ العوام ولا نخشاه ؟ وأنّه ينبغي أن نوقّر هذا الحاكم ونخشاه أكثر من توقيرنا وخشيتنا لسائر النّاس مجتمعين. لأنّنا إن عصيناه، فكما كنت قد أسلفت، فإنّه سوف ينال الفساد والبوار ما يكتسب الكمال بالعدل، ويحيق به الهلاك بالظّلم. أم أَتُرَانَا إنّما قد أخطأنا الصّواب في كلّ ذلك ؟
كريطون.
كلاّ، ياسقراط، بل أنا على رأيك.
سقراط.
فإذًا، إن كان هو قد تقرّر بأنّنا إنّما نصيب بالهلاك ما شأنه أن يصير حسنا بالصحّة، وفاسدا بالمرض، إن نحن أخذنا برأي أهل جهل، أفترانا كنّا سنقدر على الحياة وفينا هذا الجزء الفاسد ؟ و لا جرم أنّك قد أدركت المراد بالجزء الفاسد، وعلمت بأنّه هو الجسد.
كريطون.
صدقت.
سقراط.
فإذن، أترى أنّه يمكننا العيش بجسد عراه الفساد والبوار؟
كريطون.
إنّ ذلك لمتنع كلّ الامتناع.
سقراط.
أفترانا إذن أنّه يمكننا أيضا العيش إن نحن أهلكنا ذلك الّذي الظّلم هو يُبْلِيه والعدل يقويّه ؟ أم أنجعل ذلك الجزء منّا الّذي هو محلّ الظّلم والعدل، في مرتبة أخسّ من مرتبة الجسد ؟
كريطون.
إنّ ذلك لممتنع لا محالة.
سقراط.
فهو إذا أشرف من الجسد ؟
كريطون.
لشتّان ما بينه وبين الجسد.
سقراط.
لذلك فقد وجب، أيّها الفاضل كريطون، ألاّ نلتفت أدنى إلتفات لما يقوله الرّعاع، وألاّ نهتمّ إلاّ لما قد يقوله فينا رجل المعرفة بالعدل والظّلم الّذي هو محاسبنا الوحيد ، ولِما قد تقوله الحقيقة نفسها. من أجل ذلك فإنمّا أنت قد أسأت في تطرّقك للمسألة، لمّا بدأت بالقول بأنّه من الواجب أن نلتف لما تراه الدّهماء في أمر العدل، والجمال، والخير، وأضدادها. وإن كان حقّا، أنّه قد يقال لنا بأنّ الحشو لَأَهْلُ قدرة على إهلاكنا.
كريطون.
إنّهم لقائلون لنا ذلك لا محالة يا سقراط.
سقراط.
صدقت. أمّا أنا، أيّها الفاضل كريطون، فذلك المبدأ الّذي كنّا قد أثبتاه فهو لا يزال عندي على سَمْتِ الحقّ الآن كما كان من ذي قبل. ثمّ هل لك أن تنظر، أيضا، هذا المبدأ الآخر الّذي مفاده أنّه ليس الأحرى أن يحي المرء، بل الأحرى أن يحي حياة الكرامة، وقل لي إن كنت تراه ما زال صادقا عندنا أم لا ؟
كريطون.
نعم، إنّه ما زال صادقا.
سقراط.
وهل المبدأ الآخر بأنّ الخير والجمال والعدل إنّما هي شيء واحد، هو مازال صادقا أيضا ؟
كريطون.
إنّه لكذلك أيضا.
سقراط.
IXـ وإذْ قبلنا بهذه المبادئ، فلننظر إذًا على نورها إن كان عَدْلاً أن أسعى لمفارقة المكان من غير رضى أهل أثينا، أم ليس بالعدل. إن كان عدلا ذهبنا في ذلك السّعي، وإلاّ ضربنا عنه صفحا. وما ذكرتَه من أمر الإنفاق، والظنّ، وتنشئة الأبناء، فظنّي، يا كريطون، أنّما هي هموم حقيقة بنفس أولائك الّذين إن مُكِّنُوا قتلوا و أحيوا على غير رويّة، وأعني بهم الغوغاء. أمّا نحن، فكما كنّا قد تبينّا من العقل، فليس لنا أن ننظر إلاّ فيما كنّا قد قلناه آنفا، وهو : أن نُعْطِي مالا لمن شأنه أن يخلّصنا من هذا المكان، وأن نقرّ له بالفضل، وأن نعين على هروبي، وأن أهرب أنا نفسي، فهل كلّ ذلك هو فعل عدل، أم إنّما هو عين اجتراح الظّلم ؟ فإن هو تبيّن لنا بأنّه يكون ظلما أن نفعل ذلك، فحينئذ يتحصّل عندنا اليقين بلزوم المكوث هاهنا وأن تطيب أنفسنا للموت أو لأيّ عذاب آخر، لأنّه إنّما يكون في فعل ذلك تجنّب للظّلم وعدول عنه.
كريطون.
إنّ قولك لبائن فيه الصّدق يا سقرط. فلتنظر إذًا فيما هو واجب علينا فعله.
سقراط.
بل لننظر فيه جميعا أيّها الصّديق المُخْلَصِ، و لو رأيت في كلامي موضع اعتراض، ألا فأبنه لي، فإنّي لاحق حينئذ برأيك؛ وإلاّ فلتُقْلِعْ عن تكرارك على مسامعي نفس الكلام في أنّني ينبغي أن أهرب من هنا على غير رضى أهل أثينا. إذْ أنّما كبير مناي هو أن أجعلك تنظر بعين الرّضا لما أنا فعلته وفاعله، ولست بالرّاغب في أخذك بالإكراه. فَلْنَرَ إن كانت نفسك قد طابت لصَدْرِ بحثنا هذا، وإنّي لمناشدك لأن يكون جوابك لأسئلتي جوابا مُمَحَّضًا صراحةً.
كريطون.
أفعل إن شاء اللّه.
سقراط.
X ـ فهل ياتُرى إنّه مهما اختلف الأمر فليس ينبغي البتّة أن نتعمّد الظّلم، أم إنّ تعمّده يكون جائزا في مواضع، وفي غيرها لا يكون جائزا ؟ أو أ تُرانا نحن إنّما نقبل أنّ الظّلم في كلّ المواضع فهو شرّ وقبيح، كما كنّا قد أجمعنا عليه غير مرّة فيما سلف من دهر، وكما كنّا قد قلناه أيضا آنفا ؟ أو هل عسى أنّ المبادئ كلّها الّتي أجمعنا عليها فيما سبق، إنّما قد تبخّرت هذه الأيّام ؟ فإذًا، يا كريطون، أفتُرانا أنا الطّاعن في السنّ، وأنت الطّاعن فيه أيضا، أنّنا إنّما كنّا نخوض في الحديث معا من زمن أيّما بعيد خوض المجدّ، وما تبيّنا أنّنا إنّما كنّا نتحدّث كما يتحدّث الأحداث ؟ أم هل كنت ترى أنّه إنّما ينبغي أن نؤمن بأنّ ما قد أثبتاه هو عين الصّواب، رَضِيَتِ الغوغاء أم لم ترض، وأنّه كيفما تصرّف بنا الدّهر، في عسر أو يسر، فلا محالة كلّ امرء اجترح ظلما في حال من الأحوال، فقد ركب شرّا وأتى عارا. فما جوابك ؟
كريطون.
نعم إنّه قد ركب شرّا وأتى عارا.
سقراط.
فيلزم إذًا أنّه ليس يجوز أبدا أن نفعل ظلما.
كريطون.
إنّه ليس يجوز ذلك أبدا.
سقراط.
ويلزم أيضا أنّه ليس يجوز أبدا أن نقابل الظّلم بظلم مثله، إذا كان لَهُوَ أبدا شَنْعٌ أن نكون من أهل البغي.
كريطون.
ذلك هو الحقّ المبين.
سقراط.
و لا أن نفعل شرّا، يا كريطون.
كريطون.
ولاأن نفعل شرّا، يا سقراط.
سقراط.
وأن نقابل الشرّ بشرّ مثله، أتراه عدلا كما يعتقد الجمهور، أم ليس بعدل.
كريطون.
كلاّ، إنّه ليس بعدل.
سقراط.
وذلك لأنّه ليس من فرق البتّة بين أن نضرّ النّاس، وأن نكون من أهل البغي والعدوان.
كريطون.
لقد أصبت كبد الحقيقية.
سقراط.
فقد بان إذًا أنّه ليس ينبغي أبدا أن نقابل البغي ببغي مثله، ولا أن نُنْزِلَ الشرّ بواحد من البشر مهما كان ضَرُّهُ لنا. وإنّي يا كريطون لأنبّهك إيّاك و أن تكون قد سلّمت لي بهذه النّتيجة، على غير رضى من رأيك؛ إذ أَنِّي لست بالغافل البتّة بأنّه من يسلّم بهذا المبدأ عن طيب نفس إنّما هم قليل، وأنّهم أيضا لن يكونوا أبدا إلاّ أهل قلّة. من أجل ذلك كان الالتقاء على رأي واحد بين من يذهب ذلك المذهب، ومن يذهب مذهبا غيره إنّما هو ضرب من المحال، وكان كلّ فريق محتقرا الآخر لِما يراه قد اتّخذ طريقا غير الّذي كان اتّخذه هو. فهلاّ نظرت أنت أيضا جيّد النّظر إن كنت على رأيي، وإن كنت ترى أنّه إنّما ينبغي أن نؤسّس كلامنا على ذلك المبدأ ذي المفاد بأنّه ليس يجوز أبدا أن نكون من أهل البغي، و لا أن نقابل الظّلم بظلم مثله، ولا أن نثأر لأنفسنا إن نالنا بضرّ واحد من النّاس؛ أم هل عساك أنّك مُنْفَصِلٌ عنّى وكائن ممّن يدفع ذلك المبدأ ؟ أمّا أنا فما انفككت منذ زمن بعيد واليوم أيضا أصدّق به. فلو ما كنت على غير هذا الرّأي، ألا فأبن لي السّبب. أمّا إن كنت قد بقيت على ظنّك الأوّل، فاسمع لما يلي.
كريطون.
بل إنّي على رأيك، وما أنا بالمرتدّ عنه؛ لِذَا فإنّه لك أن تطّرد، يا سقراط.
سقرط.
فإذًا، لتسمع لقولي، أو لِما أنا سائلك عنه : لو سلّمنا لرجل ما بأنّ شيئا ما هو عدل، فهل يصير واجبا حينئذ فعله، أو فعل نقيضه ؟
كريطون.
بل الواجب فعله.
سقراط.
XIــ فإذا تقرّر ذلك. فلتقلّب هذا الأمر. لو ما نحن كنّا قد فارقنا هذا المكان على غير رضى من المدينة، أفلسنا كنّا إنّما سوف ننال بالضرّ واحدا من الأشياء هو أكثرها استأهالا لِألاَّ نصيبه بضرّ، ونتولّى عن ما كنّا قد آمنّا به على أنّه هو العدل.
كريطون.
لاأسطيع الجواب، يا سقراط، لأنّي ما فهمت سؤالك.
سقراط.
فإذًا، فلتتتبّع ما أنا باسطه عليك من بيان. هَبْ أنّه وإذْ كنّا نتهيّأ للفرار، ولا مشاحة في كيف لنا أن نسمّي خروجنا ذاك، فإذَا بشرائع المدينة تتمثّل لنا وتأخذ في سؤالنا هذا السّؤال : " أَيْ سقراط، ماذا أنت فاعل ؟ أَفَمَا تبيّنت أنّك بما تنويه من عمل إنّما أنت تهدم، بكلّ ما أوتيت من قوّة، شرائع المدينة بأسرها ؟ أفلا تعلم أنّ المدينة لا يكون أمرها إلاّ إلى خراب، متى عُطِّلَتْ أحكامها، ودأب أهلها على إبطالها وإلغائها ؟ " فكيف عسى أن يكون جوابنا على هذا السّؤال، أو على غيره ممّا قد يشبهه يا كريطون ؟ لأنّه قد يقول هذا الكلام بخاصّة خطيب ما قد يأخذ في دفاعه عن هذه الشّريعة المنتهكة، ويكون ذا غيرة على أنّه ما قُضِي من أحكام فينبغي أن يُنْفَذَ. أفنجيبها هذا الجواب " ذلك لأنّ المدينة قد بغت علينا وأساءت مقاضاتنا " أم أيكون جوابنا غير هذا الجواب ؟
كريطون.
بل ذلك الجواب على ما أرى.
سقراط.
ولكنّ الشّرائع قد تخاطنا إذًا بالقول : " لا درّ درّك، يا سقراط، أفهذا الّذي كنّا قد تَوَاثقْنَا عليه، أما تعلم أنّه فَرْضٌ عليك إذعانك لِما تكون المدينة قد قضت به من أحكام ؟ " وإن ظهر منّا إنكار لكلامها، فربّما كانت سوف تواصل بالقول : " وما دهشتك لما كنّا قد فُهْنَا به يا سقراط، وإذْ كانت عادتك في البحث أن تتّخذ طريق السّؤال والجواب، أفلا فلتجبنا، ولْتُبَيِّنْ لنا وما تعيب فينا وفي المدينة حتى تنطلق في سعيك الهادم لنا ؟ فأوّلا، أوليس الفضل فضلنا في أنّك قد رُزِقْتَ الحياة ؟ أوليس برعاية منّا كان والدك قد اقترن بوالدتك، ثمّ جاء بك إلى الوجود ؟ أم ربّما أنت إنّما تعيب على بعضنا من اللاّتي يشرّعن أمور الزّواج ؟ أفوجدتها ذات سوء ؟ ألا فلتجب." فأجيبها، " كلاّ ما وجدت فيها شيئا البتّة أعيبه." فتسأل، " إذًا فربّما أنت قد وجدت ما تعيب في أخواتنا اللاّتي يشرّعن لِكيف نُعْنَى بالولد، وكيف نربّيه كما كنت قد رُبِّيتَ ورُبِّي غيرك آخرون ؟ أفتراها قد أخطأن فيما أمللنا على أبيك في أمر تعليمك الموسيقى والرّياضة ؟ " فأردّ، " بل لقد وُفِّقْنَ." فتجيب، " نِعَمَّا ذلك، ومع ذلك أفتراك تجسر أن تصرّح ابتداء، بعد أن كنت قد وُلدت، وعُلِّمْتَ، أنّك لست بالإبن لنا ولا العبد لنا، لا أنت ولا أجدادك ؟ إنّك لا تقدر؛ فإن كنتم كلّكم كذلك، أي أبناء لنا وعبادا لنا، فأَنَّى لك أن تخال أنّ الحقوق الّتي لنا هي لك بعينها، وأَنَّى لك أن تتوهّم بأنّه مهما شيء نريد أن نفعله فيك، فهو حقّ لك أن تفعل مثله فينا ؟ فإذا كان معلوما أنّه لا مساواة في الحقوق بينك وبين والدك أو سيّدك، وأنّه غير جائز البتّة أن تعامل أباك بالمثل، فلا يحلّ لك أن تقابل شتيمته بشتيمة، ولا ضربه لك بضرب، وما أشبه ذلك، فَمَا أَنْكَرَ أَنْ يُظَنَّ بجواز ذلك مع الوطن، ومع الشّرائع ! فكيف كانت قد سوّلت لك نفسك، يا سقراط، وأنت الّذي عُرِفْتَ بفعلك الفضيلة حقّ الفعل، لأنّنا نحن، الشَّرَائِعَ، قد رمنا هلاكك، لأنّنا رأيناه عدلا وإنصافا، أن تطلب بكلّ ما أُوتيت من جهد هلاكنا أيضا، وهلاك الوطن، زاعما بأنّ الّذي نويت فعله لبريئ
من كلّ ظلم ؟ وأيّ حكمة هذه حكمتك، إذا كنت تجهل بأنّما الوطن لهو أعزّ من أُمٍّ وأبٍ وكلّ الأجداد ، و أنّه أكبر منهم جلالا، وأعظم قداسة، وأنّ مقامه عند الآلهة وأولي الألباب لهو المقام الأعلى والدّرجة الرّفيعة. أيّ حكمة هذه حكمتك إذا كنت تجهل أنّه إذا غضب الوطن، فلابدّ لك أن توقّره أشدّ من توقيرك أباك، وأن تخضع له أشدّ من خضوعك له، وأنّك عندئذ فإمّا أن تدفعه لِما ترى بالموعظة الحسنة، وإلاّ فلا مناص لك من أن تفعل كما أمرك، وأن تكابد في صمت ما قد يبسطه عليك من ضرب وتقييد بالأصفاد، ودفع إلى حرب قد تجرح فيها أو تقتل. أيّ حكمة هذه حكمتك إن كنت تجهل بأنّ ذلك كلّه إنّما فرض عليك فعله لأنّ ذلك هو قضاء العدل؛ فهو قد قضى بألاّ نخلّي مكاننا أو نهرب منه، لا في حرب ولا في محكمة، بل في مهما موضع من المواضع، فلا مناص لنا من أن نفعل ما يأمرنا به الوطن والمدينة، وإلاّ فهو لا يجوز لنا أن ندفعها لتبدّل رأيها إلاّ بنفس الطّرق الّتي تكون قد أباحتها الشّريعة ؟ والعنف إن كان من الفسوق أن نؤذي به أمّا أو أبا، فهو كذلك، لبطريق الأولى أن نؤذي به الوطن ؟ " فكيف يكون جوابنا، ياكريطون، أفترى أنّ الشّرائع كانت قد صدقت في كلّ ما قالت ؟
كريطون.
إنّها لقد صدقت.
سقراط.
ثمّ إنّها قد تواصل بالقول : " أَيْ سقراط، فلتنظر الآن إن كان صِدْقًا ما كنّا قد أثبتّاه من أنّك لآتٍ بغيا إن أنت فعلت بنا ما كنت تروّي فعله. فإنّما نحن الّذين رزقناك الحياة، وأطعمناك وعلمّناك وجعلناك تنال نصيبك ممّا نملك من خير كلّه مثلك مثل سائر مواطنيّ المدينة. ثمّ نحن ما انفككنا قطّ نعلن على الملأ أنّه كلّ أثينيّ يبغي العيش بيننا، وكان قد انتمى لهذا الوطن، ثمّ اطّلع على عوائدنا السّياسيّة، وعلينا نحن، فله أن يذهب حيث شاء ومعه أمواله، إن لم نصادف في نفسه هوى. وأنّا لسنا نمنع واحدا البتّة لكونه قد مجّنا ومجّ المدينة، أن ينطلق إلى مستعمرة ما، أو يذهب ليقيم بمدينة غريبة، أو حيث شاء، وأن يحمل معه أمواله. أمّا من رضي الإقامة هنا، وكان يرى بأمّ عينيه كيف نقيم العدل، ونسوس أمور النّاس، فقد ألزم نفسه حينئذ بأن يفعل كلّ ما نأمره به. فلو رام، مع ذلك، عصياننا، فإنّه يكون مُلِيمًا لثلاث خصال : أوّلا، لأنّه قد أظهر عصياننا ، ونحن الّذين رزقناه الحياة. وثانيا، لأنّه قد أظهر عصياننا، ونحن الّذين أطعمناه. وثالثا، لأنّه، إن اتّفق أن فعلنا فعلا غير حسن، فهو يُدْبِرُ عن طاعتنا، و لا يسعى لإقناعنا، وهو الّذي كان قد عاهدنا على الطّاعة. ومع أنّنا لم نكن قد أخذناه بالشدّة فيما فرضنا عليه، بل بسطنا له أوامرنا هيّن البسط، وتركنا له الخِيرة بين أن يقنعنا أو يطيعنا، إلاّ أنّه قد أضرب عن فعله كلا الأمرين.
XIV ــ فلتحذر يا سقراط، إنّها نفس هذه العيوب الّتي قد تنالك إن فعلت ما قد سوّلت لك نفسك. بل إنّ نَوْلَهَا لك ليكوننّ أَمَرَّ أثرا عليك بالقياس إلى كلّ واحد من أهل أثينا. " وإن سألتها " وما سبب ذلك ؟ " فربّما كانت مقرّعتي حقّ التّقريع قائلة " ألست أنت الّذي كان قد أخذ على نفسه عهدا بطاعتنا طاعة لا يطيعها أحد من أهل أثينا ؟ " ثمّ إنّها قد تواصل بالقول : " وإنّه لنا، يا سقراط لحجج ظاهرة، على أنّنا والمدينة قد كنّا رُقْنَاكَ. فلو لم يكن رضاك بنا أعظم من كلّ رضى حتّى أنّك مافارقتنا قطّ لِشُهُودِ حفلٍ، إلاّ مرّة واحدة لمّا ذهبت إلى مدينة الإستموس** ، ولا لأمر آخر إلاّ مع سريّة حرب، لَمَا كنت قد ثابرت على الثّواء بها كمن لم يثابر أحد من أهل أثينا؛ وحجّة أخرى هي أنّك ما ذهبت قطّ كالآخرين في سفر من الأسفار، ولا هزّك شوق لأن تتطّلع على مدينة أخرى، أو تعرف شريعة غيري، بل لقد كنت دائما راضيا بنا كلّ الرّضى إيّانا والمدينة، وكنت تؤثرنا على غيرنا غاية الإيثار، وتطيع حدودنا غاية الطّاعة. ثمّ إنّك أيضا قد رُزِقْتَ بهذه المدينة أولادا، وهو الشّاهد على رضاك عنها. بَله ! إنّك لو شئت فلقد كنت تستطيع في نفس مقاضاتك أن تنال عقابا بالنّفي من المدينة، وأن تفعل برضاها ما أنت تنوي فعله بغير رضاها. إنّك وقتها قد أخذت تتباهى بأنّك لا تكترث للموت؛ وأنّك لتؤثره عن أن تُنْفَى من البلاد. أمّا اليوم، فها أنت ذاك قد شرعت في إبطالنا، غَيْرَ مُسْتَحْيٍ من تلك المعاني الحسنة، وغير مراع لنا، نحن، الشَّرَائِعَ، وها أنت ذاك سَالِكٌ كما يسلك أخسّ العبيد بما تسعى إليه من هروب حانثا بالعهود والمواثيق الّتي واثقتنا عليها بأن تستقيم معنا استقامة المواطن. ألا فلتجب أوّلا : ألم نقل صدقا حينما أثبتّنا بأنّك إنّما قد ألزمت نفسك بأن تحي بسلطاننا في الفعل لا في الكلام ؟ " أليس جوابنا، يا كريطون، سيكون " بلى. "
كريطون.
إنّه سيكون بلى، يا سقراط.
سقراط.
ثمّ إنّها قد تواصل بالقول : " فما دهاك إذًا حتّى تنقض العهود والمواثيق الّتي واثقتنا عليها من غير إكراه ولا تضليل، ولقد كنّا أمهلناك أيّما إمهال في أن تتروّى فينا، إذ أنّه قد انصرمت سبعون سنة كان يمكنك فيها أن تهاجر لو كنّا ما أصبنا رضا من نفسك، ولو كنت إنّما وجدت شروط الميثاق ليست بالعدل. لكنّك أنت لم تؤثر لا لاسيديمون**، ولا كريتوس**، الّتى كنت غير مرّة قد امتدحت شريعتها، ولا آثرت أيّ مدينة أخرى من المدن يونانيّة كانت أم بربريّة، ورُبَّ أعرج، أو أعمى، أو مقعد، كان قد غادر هذه البلاد أكثر من مغادرتك لها، ممّا يدلّ لا محالة على أنّك أكثر أهل أثينا رضا بها، وبنا أيضا، نحن، الشَّرَائِعَ. إذْ، لعمرى، فإنّه لا يحبّ أحد مدينة حتّى يحبّ شريعتها. أمّا اليوم فما خَطْبُكَ إذ تروم نقضك لتلك المواثيق ؟ إنّك، يا سقراط، إن كنت مؤمنا بنا، فإنّه لن يكون حَرِيًّا بك نقضنا، فَيُهْزَأَ بك و يُسْخَرَ لهروبك من المدينة.
XV ـ ثمّ إنّه لو أنّك تنكث ما قد عاهدتّ عليه وتنقضه، فانظر أيّ نفع عسى أن ينالك أنت وينال أصحابك ؟ فلا محالة هؤلاء سوف يُنْفَوْنَ أيضا من البلاد، أو تُنْهَبَ أموالهم. أمّا أنت فقد تلوذ بطيبة** أو ميغارا**، لأنّه كلاهما ذوا شريعة حسنة، لكنّهما لا محالة لن يتلقّياك إلاّ على أنّك عدوّ لشريعتهما، وكلّ رجل ذي غيرة على مدينته فلن يَنْظُرَكَ إلاّ بعين الرّيبة على أنّك مفسد شرائع، فيثبت عنده صدق ما كنت قد عُوقِبْتَ عنه؛ إذْ هو لا خلاف في أنّه كلّ مفسد للشّريعة، فهو مفسد أيضا للفتية و ذوي العقول الضّعيفة. وإلاّ فربّما أنت ضارب عن هذه المدن ذوات الشّريعة الحسنة والأهل الأكمل أخلاقا ؟ فإن فعلت ذلك، فما حياتك بعدها ؟ وإن أنت دنوت منهم فأنّى لك عندئذ أن تجسر بالحديث معهم كما كنت تتحدّث معنا هاهنا بأنّه ليس شيء في الإنسان أعظم درجةً من الفضيلة والعدل، والشّرع والشّريعة ؟ إنّك، يا سقراط، لَأَنْبَهُ من أن تغفل من أنّ هؤلاء لسوف يتبيّنون إذًا بأنّك إنّما تقول ما لا تفعل.
لكنّك ربّما كنت سوف تروم أن تنأى بنفسك عن مثل تلك المدن لتُيَمِّمَ شطر تسّالي وتقيم بين مضيّفي كريطون. إنّما هنالك فأنت لاق الفوضى، والانحلال، ولاجرم أنّك واجد من أهلها انبساط لروايتك لهم كيف فررت من سجنك خَسِيسَ الفرار، وكيف غيّرت خِلْقَتَكَ الظّاهرة وقد تنكرّت في ثياب مُنْكَرَةٍ، قد تكون خوذة أو أيّ لباس آخر ممّا يلبسه العبيد الآبقون. فوَاسَوْأَتَاكَ ! أَوَ بعد أن قد طعنت في السنّ هذا الطّعن، ودنوت ظاهرَ الدّنوّ من الحتف، فأنت تُظْهِرُ تشبّثا عنيدا بالحياة، على غير رضى من أقدس الشّرائع وأرفعها ؟ أَوَ تظنّ أنّ فعلك ذلك لن يكون حديثا لقيل وقال ؟ ربّما لن يكون ذلك ما لم تخاصم أحدا. أمّا لو فعلت، فلا مناص لك حينئذ، يا سقراط، من سماعك ما يُزْرِيكَ من كلام. لذا فأنت ستبقى مضطرّا لأن تصانع كلّ النّاس، فِعْلَ العبيد. وما عساك أن تفعل بأرض تسّالي سوى أن تحضر الولائم، كما لو كان ذهابك هناك إنّما لحضور مأدبة. أمّا كلامك الحسن في العدل والفضيلة، فأيّ مآل مآله هنالك ؟ إنّك قد تكون إنّما طلبت النّجاة لنفسك حتّى تعلّم أبناك وتربّيهم ؟ فواعجبي ! أ فتأخذ أبناءك إلى تسّالي حتّى تربّيهم وتعلّمهم، فترضى لهم حظّ أن يكونوا هناك غرباء ؟ فإن كنت لا ترضى، فإنّك ستتركهم هنا ليربّوا ويعلّموا. ولكن، أَوَ قد تظنّ بأنّهم إنّما ينالوا تربية أفضل، وتعليما أحسن إذا كنت حيّا منهما إذا كنت ميّتا مفارقا لهم ؟ فقد تجيب : " لا جرم أنّ ما تركت من أصدقاء هم كافلونيهم." " فواعجبي، إن كان هؤلاء هم أهلا لأن تأمنهم على تربية أبناءك حين تهاجر إلى تسّالي، فما يمنعهم من أن يكونوا أهلا لذلك أيضا، لو كنت قاصدا الهادس***. إذْ هؤلاء الّذين يزعمون بأنّهم أصدقاء لك لو كانوا أهل خدمة لك حقّ الخدمة، فلا يسوؤنّك ظنّك في أنّهم لا محالة هم كافلون لأبنائك خير كفالة.
XVI ـ فأَيْ سقراط، لِتسمع لقولنا نحن الّذين كنّا قد ربّيناك، وإيّاك وأن تضع أبناء، ولا نفسك، ولا شيئا من الأشياء على غير سَمْتِ العدل حتّى إذا ما بلغت إلى الهادس***، فإنّك واجد ذلك لتدافع به عن نفسك عند من يسوسون ذلك المكان. لأنّك لو فعلت ما قد وُسْوسَ به إليك فإنّ عملك لن يكون على غاية الفضل، ولا على غاية العدل، ولا على غاية القداسة لا لك ولا لأهلك ولا لخلاّنك إذا ما بلغت ذلك المكان. أمّا لو غادرت اليوم إلى العالم الآخر، فإنّك لن تغادرنا والّذي كان قد عاقبك بغير حقّ هم نحن، الشّرائعَ، بل البشر أنفسهم. أمّا لو آثرت الفرار وقد رضيت خَسِيسَ الرّضا أن تقابل البغي بالبغي، والشرّ بالشرّ، وأن تنقض العهود والمواثيق الّتي واثقتنا بها، وأن تنال بالضرّ أقلّ النّاس أحراهم بإيذائك لهم، أي نفسك وخلاّنك ووطنك وأنفسنا، فواللّه، لن نرضى عنك ما حيت، و في العالم الآخر، فإنّ أخواتنا شريعة الهادس، لن يتقبّلن إلاّ قبول السّخط لَمَّا يعلمن أنّك قد أستفرغت الوسع حتّى أبطلتنا. فهلاّ سمعت إذًا لنصحنا، وطويت صفحا عن ما وسوس لك به كريطون ؟ "
XVII ـ ذلك ماهو ، يا كريطون، أيّها الصّديق المخلص، ما أتوهّم سماعه، كما قد يتوهّم سماعه أصوات ناي من ألمّ به غضب الأشباح، وإنّ هذه الأصوات لتعتمل في خاطري وتجعلني غير قادر عن أن أنصت لشيء غيرها. فلذلك، فأيّ شيء فعلت ومهما جرّدت من حجج، فلن تنال منيّ طائلا. أمّا لو قد توهّمت غير ذلك، فلك أن تتكلّم.
كريطون.
كلاّ، يا سقراط، فليس لي البتّة ما أقول.
سقراط.
فلنضرب إذا عن ذلك صفحا، يا كريطون، وهلمّ نفعل ما أمرتك، فإنّما ذلك هو السّبيل الّذي كان قد هدانا اللّه إليه.

تمّت المحاورة.



* PLATON, Criton , Traduction E.chambry, Garnier Flammarion 1965.

** كلّ هذه أسماء جزر أو مدن في اليونان القديمة.
*** الهادس، هو المكان الّذي تهاجر إليه الأرواح بعد الموت، في اعتقاد اليونان القديم.

http://membres.multimania.fr/philosophie15/

افلاطون محاورة لاكاس (في الشجاعة)

أفلاطون
محاورة لاكاس*
( في الشّجاعة)
تعريب لطفي خيرالله

ليسيماك و ميليسياس و نيسياس و لاكاس، وولد ليسيماك، وولد ميليسياس، وسقراط.

ليسيماك
_.I لقد شاهدتما يا نسياس، ويا لاكاس ذلك الرّجل يحارب وهو مدجّج بسلاحه. وكلانا أنا وماليسياس لم يذكر لكما ما السرّ في عزيمتنا عليكما بمصاحبتنا لنا حتّى تروه؛ أمّا الآن فسنذكره. لأنّا نرى أنّ الصّدق مع رجال أمثالكما واجب ومؤكّد. فأنتما تعلمان أنّه لَمِنِ النّاس من يتّخذ من تلك التّمرينات هُزُوا، وإذا ما اُسْتُفْتُوا فيها أمسكوا عن الجواب بما في ضمائرهم، ونظروا فيما هوى المستفتي حتّى أنّهم قد يجيبون بخلاف رأيهم. أمّا أنتما فلقد كنّا نراكما لَأَهلا لأن تقضيا في هذا الأمر، وأنّكما بعد أن تروّيّا فيه، فلسوف تذكران لنا رأيكما ذكرا ممحّضا صدقا. ذلك ما كان سرّ أخذنا لكما معنا: إنّه لكي نتناجى فيما نحن باسطوه عليكما. فلتسمعا إذن لهذا الأمر الّذي أنا قد وطّأت له هذه التّوطئة الطّويلة.

إنّه كلانا له ابن هما هذا وهذا، فأمّا ابن ميليساس فاسمه كجدّه، أي تِيسِيدِدْ، وأمّا ابني هذا فاسمه كجدّه أبي، أي أَرِيسْتِدْ. وكلانا قد وطّن العزم على أن يستفرغ الوسع في أن يهتمّ بابنه، وألاّ يفعل كفعل أكثر النّاس الّذين إذا بلغ أبناءهم الحلم تركوهم يحيون على سجيّتهم، بل نحن نروم أن نُخْلِصَ لهما كلّ همّنا الممكن من الآن. وأنتما أيضا لكما أبناء، فلاجرم أن تكونا قد نظرتما فيما ينبغي فعله لصلاحهما أكثر من كلّ امرئ آخر. أمّا ما لو لم تكونا قد نظرتما في هذا الأمر قط، فإنّا لنا أن نذكّركما إذن بأنّكما إنّما قد تركتما أمرا عظيما، وإنّا لندعوكما لأن تشرعا معنا في أن ترعيا لابنيكما.
_.II ولا بدّ يا نيسياس، ويا لاكاس أن أذكر لكما أيّ شيء كان قد بعث فينا هذا العزم، وان احتجت لتطويل الكلام في بيانه. وإنّي وكما قد أسلفت لكما، فلسوف أصدقكما القول كلّ الصدق. إنّ عادتنا أن نأكل أنا وميليساس معا، ومعنا ابنانا هذان. وكلّما أخذ أحدنا في الحديث عن أبيه فهو يجد له مآثر كثيرة حقيقة بأن تُرْوَى لذينك الفتيين، كان قد فعلها إمّا زمن الحرب أو زمن السّلم كتولّيه أمور الحُلفاء، أو أمور المدينة؛ ولكن مآثر لنا في الحرب أو السّلم، فلا نجد إطلاقا ما نقصّه عليهما. فكنّا نخجل عندهما، وكنّا نعاتب في أنفسنا أبوينا الّذين كانا قد انشغلا بتدبير أمور الغير وتركانا نحيا على سجيّتنا لمّا كنّا قد بلغنا الحلم. لذلك فنحن نعظ ذينك الفتيين، ونقولا لهما إنّكما إن كسلتما، وصممتما آذنكما عن قولنا، فلسوف تحيون حياة المغمورين، و إن جاهدتما نفسيكما، فعسى أن تصبحا حقيقين باسميكما.
فوعدانا بأن يتّعظا. أمّا نحن فقد أخذنا نطلب أيّ علم وأيّ تمرين قد يبلغ بهما الغاية في الكمال. فأشار علينا مشير بهذا التّمرين، وقد ذكر لنا بأنّه لمن الخير للفتى أن يتعلّم الحرب وهو مدجّج بسلاحه؛ ثمّ إنّه قد نوّه بخصال الرّجل الّذي رأيت، ونصحنا بأن نذهب حتّى نراه. لذلك نحن قد استصوبنا أن نأتي بأنفسنا ونشاهد كيف يتمرّن الرّجل، وأن نأخذاكما معنا حتّى تشاهدانه أنتما، ثمّ نستخبر رأيكما، وندعوكما لتشاركاننا فيما ينبغي فعله لأجل أبنائنا.
ذلك ما كنّا نبغي أن نقوله لكما. فما ترون في هذا التّمرين، أهو لازم لأبنائنا أم غير لازم، أم أيوجد أنواع أخرى من التّمرين أو الأعمال، قد تنصحان بها كلّ فتى يافع؟ أأنتما راغبان في مشاركتنا أم غير راغبين؟
نيسياس
إنّي على قصدكما يا ليسيماك وميليساس، وإنّي لراغب في مشاركتما، ولعلّ لاكاس هو أيضا مثلي.
لاكاس
لقد صدقت يا نيسياس. لأنّي أرى أنّ الّذي قاله لسيماك في أبيه وأب ميليساس ليصحّ حقّ الصحّة ليس فيهما فقط بل وفينا وفي كلّ من انشغل بتدبير أمور الدّول. فهؤلاء كما قال ليسيماك،كثيرا ما يتركون أمور أبنائهم، وأمور بيتهم، ولا يهتمّون إلاّ قليلا لها. إنّك في هذا إذن قد صدقت يا ليسيماك؛ أمّا ما جعلني أعجب إنّما أن تستفينا نحن في أمر تربية هؤلاء الفتيان، ولم تستفت سقراط الحاضر هنا، ولا سيّما وأنّكما من دام**واحد، وأنّه دائما ما يوجد في الأمكنة الّتي قد تصيب فيها شيئا ممّا تطلبه، أعني التعلّم، أو التّمرين اللاّئق بالفتيان.
ليسيماك
أو حقّا يا لاكاس أنّ سقراط الواقف قدّامي، كان قد انشغل بهذه الأمور؟
لاكاس
إي نعم يا ليسيماك.
نيسياس
وأنا أيضا لأشهد مع لاكاس بهذا. فسقراط من زمن غير بعيد قد دلّني على معلّم في الموسيقى لأجل ابني، يقال له دامون تلميذ أغطوس، وهذا المعلّم، لعمري، هو ليس فقط لأبرع موسيقيّ في الدّنيا، بل إنّه ليحذق أشياء كثيرة، وله أن ينفع الفتيان اليافعين بدروس عظيمة.
ليسيماك
IV_ إنّك لتعلم يا سقراط، وإنّكما لتعلمان يا نيسياس ولاكاس بأنّ من أسنّ كما أسننت، فهو قليل المعرفة بفتيان هذا الزّمن. إذ لِكِبَرِ أعمارنا فنحن مضطرّون لأن نَقَرَّ في بيوتنا أكثر الوقت. أمّا أنت أيابن سوفرونسك، فإن كانت لك نصيحة نافعة فجد بها على رجل دامه دامك، وهي حقّ لي عليك، إذ أبوك قد كان صاحبا لي فأنت لي صاحب أيضا. لقد كنّا أنا وأبوك صاحبين دائما، ولم نتشاجر قط حتّى اخترمته المنيّة. وإنّي لأذكر أيضا أنّي كنت قد سمعت من زمن قريب هؤلاء الفتيان يذكرون اسم سقراط وهم يتحاورون لديّ، فما آلوا جهدا في مدحه وتقريضه. ولكنّي لم أسألهم قطّ إن كان الّذي يذكرون هو سقراط ابن سوفرونسك. أفأنبئوني، أيّها الفتيان، أسقراط هذا من كنتم تذكرون دائما؟
الفتيان
إنّه هو يا أبانا.
ليسيماك
ما أحقّ أن يفخر بك أكرم الرّجال أبوك، ياسقراط. وإنّ هذا لسبب آخر لكي نهتمّ لك، وتهتمّ لنا.
لاكاس
إيه ! فيا ليسماك، إيّاك وأن ترخي قبضتك عن صاحبنا هذا. بل أنا نفسي كنت قد رأيته يجلب الفخر ليس فقط لأبيه، بل ولأرضه أيضا. ففي هزيمة داليون، كنّا قد تقهقرنا جنبه إلى جنبي، وإنّي لأشهد الله أنّه لو أنّ الآخرين قد فعلوا كما فعل سقراط، لبقيت مدينتنا شامخة ولما تهاوت كما كانت قد تهاوت.
ليسيماك
إنّ هذا، يا سقراط، بحقّ لمَدح جميل، مدحك به رجال صادقون، وصدقهم لأظهر فيما كانوا قد مدحوك فيه. ولتعلم علم اليقين بأنّ معرفتي الآن بأنّك لَحَسَنُ المَخْبَرِ حُسْنًا كبيرا، لمَِمَّا يثلج صدري، ولترض بي صديقا مخلصا لك. فلقد كان حقّك أن تكون قد زرت منزلنا من تلقائك قبل هذا اليوم، فكنّا نتّخذك صاحبا كما أنت أهله. وعلى أيّة حال، وإذ قد تعارفنا هذا اليوم، فلتجب دعوتي، ولنصبح أسرة واحدة، ولتصر صديقا لنا ولهؤلاء الفتيان حتّى تدوم صحبتنا فيك. ذلك ما يجب عليك فعله، وإنّا قد ذكّرناك به هاهنا. أمّا في السّؤال الّذي كنّا قد سألنا ابتداء، فما جوابك؟ أي أيجوز أم لا يجوز أن ندفع الفتيان لأن يتعلّموا الحرب وهم مدجّجون بالسّلاح؟

سقراط
V.- إنّي، يا ليسيماك سوف أشير عليك أوّلا برأيي فيما سألتني فيه، ثمّ سوف أجيبك عمّا دعوتني إليه. ولكن أرى أنّ الأدب يلزم بأنّه عليّ أن أسمع أوّلا لهؤلاء الرّجال وأن أتعلّم منهم، فهم أكبر منّي سنّا، وأكملهم خبرة بالأمور؛ وإن بدا لي أنّه هناك ما يُزَادُ على ما قالوا، فسوف أبسطه عليكم، وسأطلب أن تصدّق به أنت ويصدّقوا به هم. فلولا أن يأخذ أحد منكما بالكلام يا نيسياس.
نيسياس
الأمر كما أمرت يا سقراط. أمّا أنا فأرى أنّ ذلك العلم هو نافع للفتيان لخصال كثيرة. فأوّلا لئن يشغف هؤلاء بمثل ذلك التّمرين الذّي يجعل أبدانهم بحقّ، أشدّ قوّة، لأنّه لا يفوقه أيّ فنّ من فنون الرّياضة الأخرى، وليس يقلّها البتّة طلبا للجهد، لَخير لهم أيّما خير من أن ينهمكوا في اللّهو الّذي عادتهم أن يحبّوا الانهماك فيه أوقات البطالة. وثانيا فليس شيء أليق بكلّ رجل كريم من هذا الفنّ، ومن فنّ الفروسيّة. وذلك لأنّه في المناجزة، وحين يُطْلَبُ منّا أن نحارب، فليس ينفع حينئذ إلاّ فنّ واحد، وهو الفنّ الّذي وسيلته الآلات الحربيّة. وأيضا فهذا التعلّم لجدّ نافع حين تلتحم الصّفوف، وحين يقاتل المرء في صفّ ويقاتل معه آخرون كثير، وبخاصّة حين تنكسر الصّفوف، فيُضْطَرُّ حينئذ لكي يقاتل كلّ قِرْنٍ قِرْنَهُ، وذلك إمّا بالانقضاض عليه وهو يفرّ، وإمّا بدفعه إذا هاجمه وهو يتقهقر. فإذا لاقى قرن قرنه، فليس إلاّ من كان متمرّسا في فنّ المبارزة، لا يمكن أن يهاب عدوّه، وإن كثر عدده: بل هذا العلم الّذي عُلِّمَهُ إنّما يجعله أبدا هو الظّاهر.

ثمّ إنّ للعلم بالسّلاح أن يربّي في النّفس طلب علم آخر جيّد؛ وذلك لأنّ كلّ امرئ تعلّم الحرب وهو مدجّج بالسّلاح، فسوف يطلب معرفة العلم اللاّزم عنه، وهو علم المراوغة؛ وبعد أن يكون قد تعلّم ذينك العلمين، وصار مذكورا فيهما، فسوف ينغمس في معرفة معرفة كاملة لعلم تدبير الحرب. لقد بان إذن بأنّ كلّ العلوم ذات النّسبة إلى الحرب، وكلّ التّمرينات المتعلّقة بها، إنّما هي محمودة، وحقيقة بحقٍّ بأن تُتَعَلَّمَ، ويُطْلَبُ حذقها، وقد بان أيضا بأنّ العلم بالأسلحة لهو الباب لها.

ولنا أن نزيد إيراد منفعة أخرى ذات شأن وهي أنّه في الحرب، هذا العلم من شأنه أن يجعل كلّ من حذقه أكثر جسارة، وأثبت فؤادا ممّا كان من قبل أن يتعلّمه. ولا نزدري كذلك هذه الفائدة الأخرى وإن ظهرت ضئيلة، أي حسن الهيأة، فحسن الهيئة قد تكون لازمة في مواضع حين تبعث الهيبة في نفس العدوّ. فإذن إنّي أكرّر القول، يا ليسيماك، أنّه فيما أرى، لا بدّ أن يُعَلَّمَ هذا الفنّ للفتيان، وقد ذكرت الأسباب. أمّا إن كان لا كاس يرى رأيا آخر، فكلّي آذان صاغية لأسمع ما يقول.
لاكاس
VI- إنّه يعسر جدّا يانسياس أن يُقَالَ في علم من العلوم إنّه يُنْهَى عن تعلّمه؛ لأنّه في كلّ معرفة فهناك فضل، وإن صحّ أنّ معالجة السّلاح هي علم بحقّ كما زعم كثير من النّاس، وزعم نيسياس، فهو أيضا حقيق بأن يُتَعَلَّمَ. أمّا إن تكشّفت أنّها ليست بعلم، وأن لاطائل ممّا يوصف لنا من خصالها، أو بأنّها لعلم غير ذي نفع كبير، فأيّ فائدة في أن ننشغل به؟

فإنّي إذا أردت أن أقضي برأيي في هذا الأمر فسأسلك هذا المسلك، فأقول: إنّ هذا الفنّ لو كان تحته نصيب من المنفعة لما ذهل عنه أهل لاسيديمون الّذين لا همّ لهم في دنياهم إلاّ البحث في المعارف وأنواع التّمرين الّتي إن عملوا بها في الحروب كانت لهم الغلبة والظّهور. وإن قدّرنا أنّهم إنّما قد ذهلوا عنه، فإنّ فحول هذا الفنّ ما كان ليغيب عنهم بأنّ أهل لاسيديمون هم أكثر الأقوام الإغريقيّة طلبا لهذه الأمور، وأنّ كلّ معلّم في هذا الفنّ عُرِفَ عندهم وكان مُعَظَّمًا، فإنّه يكسب أموالا كثيرة عند غيرهم، كحال شعراء المأساة المعظّمين عندنا. فأنت تعلم بأنّ كلّ من آنس في نفسه القدرة على صنع مآسيا جيّدة، فهو لا ينأى بعيدا، أو يظلّ حائما حول أَتِيكَا، حتّى يعرض قصصه في هذه المدينة، وهذه المدينة. بل إنّه يجيئ بها رأسا إلى هنا ويشخّصها عندنا نحن، ورُشْدٌ ما فعل. أمّا المعلّمون المذكورون في فنّ معالجة السّلاح، فإنّي لَأراهم ينحرفون دائما عن لاسيديمون الّتي يعدّونها حمى لا يوطأ أبدا، ولكن يحومون حولها، ويعرضون معرفتهم في كلّ مكان إلاّ في سبرط، بل ويعرضونها خاصّة على ناس قد شهدوا هم أنفسهم بأنّهم لأضعف في الحرب من كثير غيرهم.

VII – ثمّ إنّي، يا ليسماك، قد شاهدت وقت الجدّ، كثيرا من أشباه هؤلاء الرّجال، وإنّي لعارف بحقيقة قدرتهم. ولنا أن نتروّى قليلا لنتبيّن ذلك: إذ قد بان ألاّ أحدا كان قد ثابر على فنّ معالجة السّلاح، قد برع في حرب من الحروب. ومع ذلك فإنّ الّذين عُرِفُوا في فنّ من الفنون الأخرى، كانوا قد ثابروا عليه من قبل وارتاضوا فيه. أمّا الّذين تعلّموا الفنّ المذكور، فعلى عكس هؤلاء، فقد كانوا كالشّؤم على صناعتهم. ولنذكر مثلا ستيلاووس الّذي كنّا قد رأيناه معا يرفل أمام خلق كثير، وكان يُطْرِي نفسه أيّما إطراء، فأنا قد رأيته حين جدّ الجدّ، وقد بانت حقيقته المُخَبَّأَة على كُرْهٍ منه.

إذ ذات يوم دنت سفينته الّتي كان جنديّا عليها، من سفينة حربيّة. لقد كان يحارب بمنجل كان قد شدّه إلى رمح، لِظنّه بأنّه لكونه أشدّ الجنود، فلا بدّ أن يكون سلاحه أقوى الأسلحة. وأنا لن أثقل عليك بذكري ما كانت مآثره الأخرى، بل سأقتصر على ذكر ما كان مآل اختراعه ذاك، أي المنجل المشدّ إلى الرّمح. فلمّا كانت الحرب، نشب المنجل في حبل من حبال سفينة العدوّ وتعلّق به. فأخذ ستيلاووس يحاول نزعه منه فلم يفلح. وحينما تجوارت السّفينتان، جعل ستيلاووس يجري من أقصى السّفينة إلى أقصاها ممسكا بالرّمح؛ ثمّ إنّه لمّا أخذت سفينة العدوّ تفارق سفينته و تجرّه معها وهو ممسك برمحه، جعل الرّمح ينسلّ من يده شيئا فشيئا حتّى صار لا يمسك به إلاّ من طرفه الأخير. حينئذ أخذ الّذين كانوا على سفينة العدوّ بالتّصفيق والقهقهة، ثمّ أخذ واحد منهم حجرا فقذفه به فوقع بين رجليه، وهنالك أطلق ستيلاووس الرّمح من يده؛ فلم يملك ركّاب السّفينة الّتي عليها ذلك الجنديّ أنفسهم من الضّحك لمّا رأوا أنّ الرّمح ومعه المنجل قد بقي معلّقا في سفينة العدوّ. فإنّه قد يكون لهذا الفنّ فائدة من الفوائد كما قد زعم نيسياس، أمّا أنا فقد بسطت رأيي.

VIII- فأعيد عليك ما قلت أوّلا: إنّ هذا الفنّ قد يكون علما ذا منفعة قليلة، وقد لا يكون علما البتّة، فمهما زُعِمَ بكونه علما بحقّ، ومهما اُحْتِيلَ في إثبات ذلك، فلاكبير شأن له حتّى نستفرغ وسعنا في تعلّمه. وأنا لأظنّ ظنّا صادقا بأنّ الرّجل الجبان الّذي يعتقد كبير اعتقاد بمعرفته بهذا الفنّ فلن يظهر لنا منه إلاّ الجبن إذا جدّ الجدّ، وأنّ الرّجل الشّجاع، إذا لاحظه ناس كثير، فسيقدحون فيه كلّما أخطا الخطأ اليسير. وذلك لأنّ كلّ من يتبجّح بمعرفته بهذا العلم يجعل الآخرين يحسدونه حتّى أنّه إذا لم يكن مع زعمه بكونه كذلك ظاهر الشّجاعة عليهم ظهورا كبيرا، فلسوف يتّخذونه هزوّا لامحالة.

ذلك ما كان رأيي يا ليسيماك فيما منفعة هذا العلم. وكما كنت قد أسلفت لك في أوّل الكلام: إنّه لا يجب أن نترك سقراط الموجود بيننا يغادرنا حتّى نترجّاه بأن يُدْلِي هو أيضا بدلوه في هذا الموضوع.

ليسيماك
فلتقبل طلبنا ياسقراط بأبي أنت وأمّي، فأنت ترى بأنّ هذه المباحثة لا بدّ لها من حكم يفصل فيها. إذ لو كان نيسياس ولاكاس قد اجتمعا على رأي واحد، ربّما لم نكن ذا حاجة إلى رأي ثالث، أوكنّا ذا حاجة يسيرة. ولكنّك قد رأيت بنفسك كيف كان لاكاس قد ذهب مذهبا مغايرا كلّ المغايرة للّذي ذهب إليه نيسياس. فإذن لمن الحريّ أن نسمع رأيك حتّى نتبيّن أيّ الرّجلين أحقّ بمبايعتنا لقوله.

سقراط
IX_ واعجبي يا ليسمكاك؛ أفأنت إنّما تريد أن تتّبع الرّأي الّذي يكون معه أكثر النّاس؟
ليسيماك
أوهل لنا من سبيل غيره ياسقراط؟
سقراط
وأنت يا ميليسياس، أ توافقه على ذلك؟ فلو أنّ الكلام كان يدور مثلا في أمر الرّياضة وفي أمر التّمرينات الّتي لابدّ لابنك أن يفعلها، أفكنت ستستفتي أكثر النّاس أم إنّك إنّما تستفتي كلّ من كان قد تعلّم الرّياضة وكان قد علّمه إيّاها معلّم بارع.
ميليسياس
وهل في هذا شك بأنّي إنّما سأستفتي من كان قد تعلّم الرّياضة.
سقراط
وإنّك لسوف تفوّض أمرك إليه أكثر من أنّ تفوّضه إلينا نحن الأربعة.
ميليسياس
غير شكّ.
سقراط
فالرّأي عندي أنّه إذا أردنا أنّ نحكم حكما جيّدا، فليس بالكثرة ننال ذلك، بل بالعلم.
ميليسياس
إنّه بالعلم حقّا.
سقراط
إذن فهاهنا أيضا فلابدّ أن نبدأ بالبحث إن كان فينا من قدمه راسخة في الأمر المفحوص عنه. وإن وجد هذا الخبير، فلزام علينا حينئذ أن نسمع له، ولو لم يكن إلاّ فردا واحدا، وأن نضرب صفحا ونطوي كشحا عن غيره جميعا. وإن لم يوجد، فلابدّ أن نبحث في مكان آخر. ولاجرم أنّك ياليسماك، وأنت يا ليسيماس لتدركان بأنّ الأمر لحقيق بكلّ هذا الاحتراز، إذ هو ليتعلّق بأعزّ الأشياء لديكما. وأنتما لتعلمان بأنّه إذا صلح الابن صلح المنزل، وإن لم يصلح الابن لم يصلح المنزل: وهذا الصّلاح أو الطّلاح في الابن إنّما هو لازم كلّ اللّزوم للتّربية الّتي نالها.
ميليسياس
لقد صدقت.
سقراط
لذلك فلابدّ من الاحتياط احتياطا كبيرا.
ميليسياس
إنّه لابدّ.
سقراط
وحينئذ، إنّنا إذا رجعنا لموضوعنا الأوّل ورغبنا في أن نعرف أيّ رجل من بيننا حقيق أن يستأثر بسماع النّاس له في أمر المصارعة، فغير شكّ أنّ هذا لن يكون إلاّ من كان قد تعلّم المصارعة ومارسها، وكان له معلّمون بارعون فيها.
ميليسياس
الأرجح هو هذا.
سقراط
وقبل أن نبدأ البحث في هذا الرّجل، أليس الأجدر أن نبدأ أوّلا بتبيّن ما هذا الفنّ الّذي إنّما من أجله كان قد طُلِبَ معلّمون له؟
ميليسياس
ما معنى ذلك؟
سقراط
X_ لعلّ بهذا سيصير الأمر أكثر بيانا. إذ نحن لم نصطلح أوّلا في أيّ شيء هو الموضوع الّذي نبحث فيه وكنّا نطلب لأجله معرفة أيّ منّا هو أهل لأن يعلّمه وكان قد اتّخذ معلّمين فيه، وأيّ منّا ليس بأهل.
نيسياس
واعجبي يا سقراط، أليس الموضوع إنّما هو المحاربة بالسّلاح؟ أولم نكن نبحث في إن كان لابدّ للفتيان أن يتعلّموه أو لا؟
سقراط
إنّه لكذلك يا نيسياس. ولكن حين يُسْأَلُ عن مرهم للعين إن كان يجوز أن يداوى به أم لا، أفسنأخذ بالبحث في الدّواء أم في العين؟
نيسياس
بل في العين.
سقراط
وكذلك إن سُئِل إن كان ينبغي أن نضع حَكَمَةً للفرس أو لا نضع، ومتى توضع، فموضوع البحث إنّما هو الفرس، وليس الحكمة.
نيسياس
غير شكّ.
سقراط
فإذن إنّه ينبغي أن ننظر إن كان الّذي يفتينا لهو أهل لأن يقوم على هذا الشّيء الّذي من أجله إنّما نبحث هذا البحث.
نيسياس
إنّه ينبغي حقّا.
سقراط
وأنت تعلم أنّا هاهنا إنّما نبحث في العلم الّذي هو لأجل نفوس الفتيان الشبّان.
نيسياس
إنّي أعلم.
سقراط
حينئذ فينبغي أن نبحث في أيّ منّا لأهل لأن يفحص عن النّفس، ولأن يزكّيها وكان له فيها معلّمون جيّدون.
لاكاس
واعجبي يا سقراط، أما لقيت قطّ رجالا قد بذّوا في صناعات ولم يكن لهم معلّمون فيها؟
سقراط
لقد لقيت يا لاكاس؛ ولكن هؤلاء وإن أقسموا لك بالأيمان المغلّظة بأنّهم لصنّاع بارعون، فإنّك لن تفوّض أمرك لهم إلاّ إن أروك أعمالا لهم جيّدة غاية الجودة.
لاكاس
لقد صدقت يا سقراط.
سقراط
XI_ وعلى هذا، فنحن أيضا، يا لاكاس ويا نيسياس، فلمّا كان ليسيماك وميليساس قد عزما علينا أن نبحث في أمر ابنيهما، وكان يرغبان رغبة شديدة في أن تصير نفسيهما زكيّة غاية الزّكاة، فهو فرض علينا، إن زعمنا لهما أنّا قادرون على ما يطلبون، أن نصف لهما المعلّمين الّذين أفادونا، وأن نبيّن لهم أوّلا كيف هم كانوا أولي فضل، ثمّ كيف زكّوا نفوسا فتيّة كثيرة، ثمّ كيف أورثونا نحن أنفسنا علمهم هذا. أمّا لو قال قائل منّا بأنّه لم يكن له معلّم، وبأنّه لقادر أن يذكر آثارا له زكيّة، فلابدّ حينئذ من أن يرينا في أهل أثينا أو الغرباء، أو العبيد، أو الأحرار، من يُجْمِعُ النّاس فيه بأنّه قد صار فاضلا لتعليمه هو إيّاه. وإن امتنع كلّ هذا، ففرض علينا أن ننصح هذين الصّاحبين بأن يطلبا المشورة ليس منّا بل من غيرنا حتّى لا نحتمل إثم إفساد ابنيهما، وإفساد فلذات أكبادنا.

أمّا عن نفسي، يا ليسيماك ويا ليسياس، فإنّي أوّل المعترفين لكما بأنّه لم يكن لي قط معلّم في هذا الفنّ. ومع ذلك فقد انشغلت كثيرا بالبحث فيه منذ أيّام الشّبيبة. ولكنّي لم أكن ذا كفاية من المال حتّى أتعلّم من أهل السّفسطة الّذين كانوا يزعمون بأنّهم وحدهم هم القادرون على أن يجعلوني رجلا فاضلا. ولم أكن أيضا قادرا على أن أجده بنفسي. أمّا أن يكون نيساس أو لاكاس قد وجدا هذا الفنّ أو تعلّماه، فليس عندي بالعجيب. إذ هما ذوا يسار فلهما المال الّذي يدفعانه لمعلّميهما، وهما يكبراني سنّا، فلاجرم أنّهما قد سبقانني في معرفة هذا الفنّ. كذلك فأنا لا أنازع في أنّهما لقادران على أن يعلّما الفتيان الشبّان. إذ لو لم يكونا واثقين من قدرتهما، ما كانا يتكلّمان بجرأة في الأعمال النّافعة للفتيان، والأعمال الضارّة لهم. إذن فأنا أفوضّ أمري لهما في كلّ الأشياء. لكنّ الّذي حيّرني هو تنازعهما.

لذلك فهذا طلبي إليك يا ليسيماك. فآنفا كان لاكاس قد حضّك على ألاّ تدعني حتّى تسألني. أمّا الآن فأنا من يحضّك على ألاّ تدع أبدا لاكاس ولا نيسياس حتّى تسألهما. وقل لهما بأن سقراط ليقسم بأنّه لادراية له البتّة بهذا الأمر، وأنّه لعاجز على أنّ يتبيّن أيّ الرّجلين كان صدق، لأنّه لا هو معلّم، ولا كان تلميذا لمعلّم من المعلّمين في هذه الأمور. فيا لا كاس ويا نيسياس، هلاّ صدقتماننا القول وأخبرتمانا عن هذا المعلّم الألمعيّ في التّربية الّذي كنتما قد أفدتما منه، أم أنّكما قد حصلتما على هذه المعرفة بنفسيكما. فإن كنتما قد أخذتموها من غيركما، فمن كان معلّمكما إيّاها، وهل تعرفان معلّمين آخرين يعلّمون الفنّ نفسه، إذ أنّه ربّما منعكما انشغالكما بمصالح النّاس بأن ترعيا لنا أو لابنيكما، فنلوذ بهم، ونستلطفهم بأنواع من العطايا والخلع حتّى يهتمّوا لأبنائنا وأبنائكما، فينشأوا كرماء، ولا يُلْحِقُوا العار بأجدادهم أهل المجد، ويكونوا من الرعيّة الطّالحة. أمّا إن كنتما بنفسيكما إنّما وقفتما على هذا الفنّ، فاذكرا لنا أمثلة من الّذين نفعتهم عنايتكما لهم، وكانوا صاروا عبادا صالحين بعد أن قد كانوا طالحين. إذ أنّه إن كنتما إنّما اليوم ستسعيان أوّل سعي في التّربية، فلتعلما بأنّ هذا الفعل العظيم ليس يتعلّق بنفس من سَقَطِ المَتَاعِ، بل بنفوس ابنيكما وأبناء أحبابكما، لذا فلتحذرا من أن تقعا في كما يصف المثل: إنّه لا يُبْدَأ في صناعة الفخّاريّ بصنع جرّة. إذن فأيّ الأمرين تريانهما فيكما.
هذا ما يكون حقّك أن تسألاهما فيه، يا ليسيماك، قبل أن تدعهما يفارقاننا.
ليسيماك
XII_ إنّي أرى يا إخواني أنّه قد صدق سقراط. والأمر أمركما يا نيسياس ويا لاكاس، إن شئتما سُئِلْتُمَا وأجبتما في هذه الأمور الّتي تشغلنا الآن، وإن لم تشاآ، فلا ضير. أمّا أنا وميليسياس، فكم سنكون مغتبطين لو رضيتما بأن تُحَرِّرَا لنا رأيكما في كلّ ما سوف يسألكما عنه سقراط. إذ أنا في أوّل الكلام كنت قد ذكرت لكما بأنّنا ما دعوناكما لهذه المراجعة إلاّ لظنّنا بأنّكما لاجرم أن تكونا قد نظرتما في هذا الأمر لكون ابنيكما كابنينا هما في سنّ التّربية والتّعليم. لذا، فما لم تتحرّجا، فلتفحصا وسقراط في هذا الموضوع، ولتتناظروا فيه. إذ هذه المراجعة لعمري، إنّما تتعلّق بأعظم ما لنا من خير.
نيسياس
إنّه تمّ يقيني الآن، يا ليسيمكاك، بأنّك لم تعرف سقراط بحقّ إلاّ من أبيه، وأنّك لم تلاقه إلاّ لمّا كان صغيرا، حين يعرض لك أن تراه إمّا مع والده بين أهل دامه وقد اقترب منك، أو في المعبد، أو في مجلس آخر من مجالس الدّام الّذي إليه نسبتك. أمّا من حين أن بلغ أشدّه، فبيّن أنّك لم تلاقه قطّ.
ليسيماك
ولأيّ شيء ذكرت هذا يانيسياس؟
نيسياس
XIII_ لأنّي أراك كأنّك تجهل أنّ كلّ امرئ عرف سقراط إمّا بالمحاورة أو بالرّحم، واقترب منه لأجل الحديث في أيّ موضوع قد اختاره هو، فلا مناص له من أن يلفى نفسه وقد ساقه الكلام معه إلى أن يبوح إليه بأسرار نفسه، وبأسرار حياته اليوم، وحياته الماضية؛ ومتى يبلغ به الحديث هذا المقام، فسقراط لن يطلقه أبدا حتّى يبلو كلّ ما كان سيقوله. فأنا قد اعتدت على طريقته تلك وأعلم حقّ العلم أن لا مفرّ لأحد ولا لي أيضا من أن يُسْلَكَ به، معه، هذا المسلك. فأنا لأحبّ الدنوّ من سقراط ياليسيماك، ولا أرى عارا البتّة في أن يحاسب المرء نفسه وينظر فيما كان قد فعل من شرّ، أو فيما مازال يفعل الآن. بل إنّي أرى أنّ المرء ليصبح حتما أكثر تفطّنا لعواقب الأمور ما لم يَقِلْ نفسه عن المحاسبة، وما قرّ عنده، كما يقول سُلُون، أن يتعلّمنّ ماعاش، ولا يتوهمّنّ أن الرّشاد إنّما يكتسبه المرء اكتسابا طبيعيّا حين يزيد سنّه. وفي كلّ الأحوال، فأنا لا أستغرب من أن يبلوني سقراط، ولا أتحرّج منه، وإنّي لأعلم سابق العلم بأنّ هاهنا هو لن يجعل المباحاثات تتعلّق بأمر الفتيان الشبّان، بل هو سيصرفها إلى الحديث عن أنفسنا نحن. فأعاود بالتّذكير: إنّي لا أرى حرجا البتّة في أن يسلك سقراط بحوارنا هذا كما قد يشاء. ولكن لنر أوّلا ما رأي لاكاس في هذا.
لاكاس
إنّ رأيي في هذا الجنس من المحاورات يانيسياس هو بسيط، بل إنّه مركّب. فلك أن تظنّ فيّ أنّي من أنصاره، ولك أن تظنّ فيّ أنّي من أعدائه. فأنا حين أسمع رجلا كريما حقّا يتكلّم في مكارم الأخلاق، أو في علم من العلوم، ولا يكون ممّن أفعاله إنّما تكذّب أقواله، فأنا لَأفرح فرحا كبيرا لِمَا أرى من ملاءمة كلام الخطيب للخطيب. فهذا الرّجل، هو عندي لأبرع موسيقيّ يؤلّف أعظم الألحان، إلاّ أنّ آلتها، ليست القيثارة، ولا آلة أخرى من آلات اللّهو، بل نفس مواظبة هذا الرّجل على أن تكون أقواله دائما تصدّقها أعماله، وإيقاع هذا اللّحن لا يكون على النّمط الأيّونيّ، ولا على النّمط الفيرجيّ، ولا على النّمط اللّيديّ، بل على النّمط الدّوريّ الّذي هو الوحيد النّمط الإغريقيّ القحّ بلا مدافع. فليس على مثل هذا الرّجل إلاّ أن يتكلّم حتّى أطرب طربا شديدا، وتُرى عليّ سيما من يعشق الكلام من فرط ما أكون ألتذّ حديثه. أمّا إن كان المتكلّم على ضدّ صفة هذا الموصوف، فهو يضجرني، ويزداد ضجري منه بقدر ما يزيّن كلامه أكثر، حتّى أنّي قد تُرى عليّ سيما من يكره الحديث.

أمّا سقراط، فلا أعلم كيف حديثه، لكنّه، كما قلت آنفا، كان قد ظهر لي فضله من فَعَاله فثبت عندي أنّه لأهل لأن يقول كلاما طيّبا بصدق تامّ. لذا فلو صحّ أنّ فيه هذه الخصلة أيضا، فلن أنكرها عليه، بل سأسلّم نفسي له حتّى يمتحنني، ولن أجد غضاضة أبدا في أن أتعلّم منه. إذ أنا هنا لأتّبع كذلك نصيحة سولون، بعد بعض التّصحيح لها، فإنّي لا استنكف من أن أتعلّم أمورا كثيرة على الكبر، ولكن إلاّ إذا سمعتها من رجل فاضل فقط. فإمّا أن يكون المعلّم رجلا فاضلا، أو إنّي سأسمعه على كره فيراني النّاس وكأنّي سخيف العقل. وليس يضيرني بعد هذا أن يكون المعلّم أصغر منّي سنّا ، أو أن يكون غير مشتهر بين النّاس، أو أن يكون به نقص آخر. فهلا رضيت إذن، ياسقراط في أن تعلّمني وأن تفحصني، ولك أن تعلم منّي كلّ ما أعلمه. إنّك قد صرت مبجّلا في نفسي منذ ذلك اليوم الّذي ثبتّ فيه معي في ساحة الموت، حيث ظهر فضلك حقّ الظّهور، وحقّقت أنّه لَفَضْلٌ صادق وليس فضلا زورا. فلتتكلّم كما بدا لك، ولا تتحرجنّ أبدا من سنّنا الكبير.
سقراط
XV_ لا جرم أنّكما قد تنزّهتما عن أن توصما بأنّكما لتتواريان من المناظرة، ومن الفحص الّذي نروم إتمامه معكما.
ليسيماك
ذلك ما نحن فاعلوه ياسقراط، فأنا لأعدّك كأحد منّا. فخذ مكاني لتنظر في أمر ذينك الفتيين اليافعين، وحقّق في الأسئلة الّتي لابدّ أن نسألها هذين الرّجلين، وحاورهما وراجعهما. لأنّي اليوم لكبر سنّي، فقد نسيت أكثر الأسئلة الّتي كنت أحبّ أن أسالها، وصرت إذا أكون في حوار، ويُقْطَعُ نسق الحديث بكلام غيره، فإنّي أنسى كلّ ما كنّا فيه آنفا. فالتتراجعوا إذن ولتتحاوروا في الأمر المذكور. أمّا أنا، فسوف أسمعكم، وبعد أن أتمّ سماعي لكم، فإنّي لعامل ومعي ميليساس بما سوف يصحّ عندكم بأَخَرَة.
سقراط
إنّه لابدّ يا نيسياس ويا لاكاس من أن نفعل ما طلبه منّا ليسيماك وميليسياس. لقد كنّا آنفا نخوض في معرفة أيّ معلّمين لنا كانوا قد علّمونا فنّ التّربية، وأيّ تلامذة كنّا قد هذّّبناهم، ونحن لو أتممنا هذا البحث، لكان لامحالة نافعا لنا. لكن هناك طريق آخر غيره، يبلغنا الغاية نفسها، وهو الأفضل في فحص المسألة من أوّلها. فلو فُرِضَ أنّا نعلم بأن شيئا ما إن اتّصف به موضوع ازداد فضيلة، ولو فرض أنّا لقادرون أيضا على جعله متّصفا بذلك الشّيء، فبيّن أنّا نكون نعرف هذا الموضوع الّذي يُطْلَبُ فيه ما أيسر السّبل لاكتسابه. وإذ أنتم قد تكونون لم تتبيّنوا قصدي، فسأزيد الأمر شرحا.

إنّا نعلم بأنّ العينين ليصلح حالهما متى وجد فيهما البصر، فلو كنّا نحن من يقدر على أن يجعل لهما البصر، فبيّن أنّا نكون نعرف ما البصر نفسه الّذي سوف يطلب منّا فيه ما أيسر السّبل لاكتسابه وأحسنها. إذ لو كنّا لا نعلم ما البصر، ولا ما السّمع، فسيعسر علينا جدّا أن نقول بأنّا لأهل معرفة كبيرة، وطبّ عظيم بالعيون والآذان حين يطلب منّا ما أيسر السّبل وأحسنها لاكتساب السّمع والبصر.
لاكاس
لقد صدقت يا سقراط.
سقراط
XVI_ أو ما ترى يا لاكاس أنّ الأمر هنا لهو كذلك؛ فهذان الرّجلان قد طلبا منّا أن نبحث في أيّ السّبل الّتي تجعل ابنيهما صالحين ببذر الفضيلة في نفسيهما.
لاكاس
إنّه لكذلك.
سقراط
إذن فلابدّ أن نحصّل أوّلا حقيقة ما الفضيلة؟ إذ كيف لنا أن ندلّ أيّا كان على أحسن السّبل حتّى يكتسب الفضيلة ونحن لانعرف أيّ معرفة ما حقيقتها؟
لاكاس
بحقّ إنّ هذا لمحال، يا سقراط.
سقراط
لقد قلنا إذن يا لاكاس، بأنّا لنعرف ما الفضيلة.
لاكاس
نعم لقد قلنا.
سقراط
وإن علمنا شيئا استطعنا بالاضطرار أن نقول ما هو؟
لاكاس
بالاضطرار.
سقراط
ألا أيّها الصّديق المخلص، الرّأي عندي ألاّ ننظر الآن في الفضيلة في العامّ، لأنّ ذلك سيكون عملا جدّ عسير. بل لنقتصر أوّلا على جزء من أجزائها، ولنر إن كنّا محصّلين لحقيقته حقّ التّحصيل. ولا ريب بأنّ هذا الفحص سيكون أيسر علينا ممّا لو بحثنا في الفضيلة في العامّ.
لاكاس
لتفعل ما بدا لك يا سقراط.
سقراط
والآن أيّ جزء من الفضيلة لنا أن نختار؟ لا ريب أنّه الجزء الظّاهر نسبته إلى السّلاح. وفي المشهور إنّه الشّجاعة، أم لك حكم آخر؟
لاكاس
بل في المشهور إنّه الشّجاعة.
سقراط
إذن فلنشرع أوّلا يا لاكاس بحدّ الشّجاعة، ثم لنر بعدها كيف يمكن أن نعلّمها الفتيان الشبّان على تقدير أنّ التّمرينات والدّرس يمكن أن تنفع في ذلك. أفلا تجبني عن سؤالي هذا: ما الشّجاعة؟
لاكاس
XVII_ وحقّ الآلهة يا سقراط، إنّ الجواب عن هذا السّؤال لهيّن. فأيّ رجل يوطّن النّفس على أن يثبت لعدوّه ولا يُوَلِّهِ دبره فارّا من الزّحف، فلا ريب إنّه لرجل شجاع.
سقراط
نِعَمَّا ماقلت يا لاكاس، ولكن قد يكون بسبب أنّني قد أسأت بسط المسألة فأنت قد أجبتني عن أمر غير الّذي كنت أقصده بالسّؤال.
لاكاس
و كيف هذا يا سقراط؟
سقراط
هاك بياني لك بقدر الطّاقة. لا ريب أنّ الرّجل الّذي ذكرت لأنّه لا يزول عن موقعه، ويقارع عدوّه فهو رجل شجاع.
لاكاس
إنّه رجل شجاع.
سقراط
إنّه لَرجل شجاع. ولكن ما تقول في رجل قد يقاتل عدوّا من غير أن يثبت في موقعه، و يولّيه دبره؟
لاكاس
أي يقاتله وهو يفرّ؟
سقراط
نعم، كما يفعل السّيتيّون مثلا، إذ يُقال عن هؤلاء أنّهم لبارعون في قتال عدوّهم سواء حين زحفهم أو حين فرارهم. وهوميروس أيضا كان قد امتدح في موضع من شعره، خيول أنّيوس لمعرفتها الجيّدة بالعَدْوِ عَدْوًا سريعا في الجهتين الاثنتين، جهة الاندفاع، وجهة الفرار، وقد رفع كذلك ذكر أنّيوس نفسه لهذه الخصلة وهي براعته في الفرار، وقال إنّه ليعلم متى ينبغي أن نفرّ.
لاكاس
وقد صدق في قوله يا سقراط؛ لأنّه إنّما كان يتكلّم عن العربات، كما أنت قد تكلّمت عن الفرسان السّيتيين. ومعلوم أنّ الفرسان السّيتيين كانت تلك طريقتهم في القتال، أمّا المشاة اليونان فأكثرها إنّما طريقتهم كالّتي ذكرت.
سقراط
ولكن ألا تستثني منهم اللاّسديمونيين، يا لاكاس؟ فقد حُكِي أنّهم حين قابلهم القرّيبيّون في موضع بلاتي، وقضوا بأنّهم لن يقدروا على مناجزتهم مواجهة، ولّوهم الأدبار، فلمّا تبيّنوا أنّ خطوط الفرس قد انتقضت، عطفت عليهم المشاة، وعطفت معها الفرسان، فكان الظّفر لهم.
لاكاس
أعلم بهذه الحادثة.
سقراط
XVIII_ إنّي قد قلت آنفا، إنّك إن أسأت الجابة، فالذّنب ذنبي لأنّي قد أسأت بسط السّؤال. إذ ما أريد أن أعرفه منك إنّما أن تقول لي ما الشّجاعة، ليس فقط عند المشاة، بل وأيضا عند الفرسان، وفي الجملة عند كلّ محارب، بل ليس فقط عند كلّ محارب، بل عند كلّ إنسان ركب خطر البحر، أو بقي رابط الجأش في الفقر، وفي مهالك السّياسة؛ ولي أن أزيد أيضا، بل ليس فقط عند الّذين صبروا صبرا جميلا في الألم والخوف، ولكن أيضا عند الّذين جاهدوا خير المجاهدة شهوات النّفس وأهواءها؛ فأنت يا لاكاس، لا جرم أنّك لا تعارض في أنّ هؤلاء هم أيضا لَشجعان.
لاكاس
بل هؤلاء لعلى الغاية من الشّجاعة.
سقراط
إذن فهؤلاء النّاس جميعا هم شجعان، فمنهم الشّجاع في صبره على اللّذّات، ومنهم الشّجاع في صبره على الألم، ومنهم الشّجاع في مجاهدة الشّهوات، ومنهم الشّجاع في مواضع الخشية والخوف. ولكن أنت لا تنازع في أنّه هناك من في تلك المواطن لَيظهر الجزع و ضعف الفؤاد.
لاكاس
إنّي لا أنازع.
سقراط
وطلبي إنّما معرفة ما كلّ صفة من تينك الصّفتين؟ فلنبدأ بالشّجاعة، ولنرجع بالفحص في بيان أيّ شيء واحد و مشترك في كلّ تلك الأمثلة. أأزيد السّؤال توضيحا، أم إنّك قد تحقّق لك معناه؟
لاكاس
بل زده لي توضيحا.
سقراط
XIX_ إنّي سأشرح مقصودي بطريق آخر. فلو أنا كنت قد سألتك مثلا ما السّرعة الّتي نجدها في العَدْوِ، وفي ضرب القيثار، وفي الكلام، وفي التعلّم، وفي أشياء أخرى كثيرة، و في كلّ عمل ذي معنى، سواء كان عملا بالأيدي، أو بالسّاقين، أو بالفم، أو بالصّوت، أو بالعقل.. فلاجرم أنّ فهمك وفهمي لهذه العبارة سيكونان فهما واحدا.
لاكاس
إنّهما فهم واحد.
سقراط
إذن فأنا لو كنت قد سُئِلْتُ هكذا: أعزّك الله ياسقراط، هلاّ أخبرتنا عمّا تفهمه من عبارة السّرعة الصّادق إطلاقها على كلّ هذه الأمثلة؟ فسأجيب: السّرعة هي القوّة على فعل أشياء كثيرة في زمن قصير، سواء كان الفعل فعلا بالصّوت، أو عدوا، أو أمرا آخر.
لاكاس
وستكون قد أجبت بالصّواب.
سقراط
وهنا أيضا يا لاكاس، لتجتهد حتّى تَحُدَّ الشّجاعة. لتقل لنا أيّ شيء هذه القوّة المطّرد وجودها في اللذّة، وفي الأسى، وفي كلّ الأمثلة الّتي ذكرنا أنّها موجودة فيها، و سمّيناها بالشّجاعة.
لاكاس
إنّا لو طلبنا أن نحدّ طبيعة الشّجاعة في كلّ الأمثلة الموجودة فيها، فلنا أن نقول: إنّها ضرب من الحزم في الفؤاد.
سقراط
نعم ذلك ما ينبغي أن نفعله متى طلب الجواب عن سؤالنا. أمّا أنا فذا رأيي: أفلا ترى أنّه ليس كلّ حزم فهو شجاعة؟ فأنت يا لاكاس لا ريب أنّك إنّما تعدّ الشّجاعة شيئا محمودا.
لاكاس
بل إنّها لمن أحمد الأشياء بلا خلاف.
سقراط
أفلا ترى أنّ الحزم حين يقترن بالرّشد إنّما يكون محمودا وحسنا؟
لاكاس
إنّي أراه.
سقراط
وإذا اقترن الحزم بالخبل، فسيكون ضارّا ومهلكا.

لاكاس
إنّه سيكون ضارّا ومهلكا.
سقراط
وأنت، بلا ريب، لن ترضى بأن ننعت شيئا ضارّا ومهلكا بالمحمود.

لاكاس
فإنّا إذا سنكون نَهجر يا سقراط.
سقراط
وإذ كانت الشّجاعة محمودة، وهذا الضّرب من الحزم مذموم، فأنت إذًا تنكر أن يكون هذا الحزم هو المقصود بعنوان الشّجاعة.

لاكاس
إنّي لأنكر حقّا.
سقراط
فيلزم إذن، على قولك، أنّ الشّجاعة هي الحزم الرّاشد.

لاكاس
هذا ما بدا لي.
سقراط
XX_ ولننظر الآن في أيّ الأمور تكون الشّجاعة راشدة. أفتكون راشدة بالقياس إلى كلّ الأشياء الكبيرة أو الصّغيرة؟ فمثلا إذا رجل أظهر الحزم في انفاق ماله، وهو يعلم أنّه إن أنفقه فسيكسب به مالا أكثر، أفنسمّي هذا الرّجل بالشّجاع؟

لاكاس
وحقّ الآلهة، إنّا لا نسميّه شجاعا.
سقراط
أو إذا طبيب استسقاه أو استطعمه ابن له أو شخص آخر يكون مريضا بالتهاب الرّئة، فلا يفتر حزمه، ولا يجيبه لما طلب، أفنسميّه بالشّجاع؟
لاكاس
ولا هذا الحزم يوصف البتّة بالشّجاعة.
سقراط
ولتحكم الآن في رجلين أيّهما أشجع من الآخر، رجل لم يضعف فؤاده ووطّن العزم على المحاربة لأنّه تبيّن له بعد تقليب الأمور والنّظر فيها بعقله، بأنّ له إخوانا سينصرونه، وبأنّ العدوّ أقلّ منهم جندا وأردأ عُدَّةً، وبأنّ المكان الّذي أقاموا فيه أنفع لهم في الحرب من الّذي أقام فيه العدوّ، أم رجل من جيش العدوّ يكون قد وطّن النّفس على أن يصدّ عدوّه صدّا حازما؟

لاكاس
إني أرى ياسقراط بأنّ الرّجل الّذي من جيش العدوّ هو الأشجع.
سقراط
وأنت تعلم بأنّ حزمه لَأقلّ رشدا من حزم الأوّل.

لاكاس
إنّي أعلم.
سقراط
وحينئذ، فأنت ترى أيضا أنّ الّذي يقاتل فوق فرسه بثبات فإن كان ذا معرفة بالفروسيّة، فهو أقلّ شجاعة ممّن يقاتل بثبات فوق فرسه ولا كثير علم له بالفروسيّة.
لاكاس
ذلك الرّأي عندي.
سقراط
وأنت تطرد هذا في الرّجل الّذي يحذق استعمال المرجام، أو القوس، أو آلة أخرى من الآلات.

لاكاس
بلا ريب إنّي أطرده.
سقراط
وإذا تعلّق الأمر بالنّزول إلى البئر والغوص فيه، فالّذي يرغب في أن يركب هذا المحذور أو غيره من قبل أن يكون قد تمرّن فيه تمرّنا ملائما، فأنت تقول بأنّه لأشجع من الّذي يرضى ركوبه من بعد ما يكون قد تمرّنا تمرّنا لائقا؟

لاكاس
فهل لنا أن نقول قولا آخر، يا سقراط؟
سقراط
بل إنّا متى سلّمنا بما قد سلّمت فلايجوز لنا أن نقول غير هذا القول.

لاكاس
إذن فاليكن الحكم كما قلت.
سقراط
فالحزم الّذي لهؤلاء في أن يلقوا بأنفسهم للتّهلكة هو أقلّ رشدا من حزم الّذين لا يندفعون في شيء إلاّ بحسب أصول صناعيّة.

لاكاس
غير شكّ.
سقراط
ولكن آنفا نحن قد قلنا بأنّ الجراءة، والحزم إذا كانا عاريين من الرّشد، فهما قبيحان وضارّان.
لاكاس
لقد قلناه.
سقراط
فنحن إذن لم نحسن الفحص يا لاكاس.
لاكاس
نعم إنّا لم نحسن الفحص يا سقراط.
سقراط
XXI _ إذن فأنا وأنت، يا لاكاس، قد أخفقنا بلا ريب في أن نجعل ذلك الائتلاف الدّوريّ الّذي ذكرته يصحّ فينا. وذلك لأنّ أفعالنا ماوافقت أقوالنا، إذ قد يُظَنُّ من أفعالنا أنّا لَشجعان حقّا، وإن سُمِعَ كلامنا، فسيُظَنُّ بأنّا لسنا بشجعان.
لاكاس
لقد قلت حقّا.
سقراط
أو ما ترى إِلاَمَ صار أمرنا؟
لاكاس
بلى، لقد صار إلى السّوء.

سقراط
لذا فهلاّ رضيت بأن نعمل بما كنّا قلناه على الأقلّ في أمر ما؟
لاكاس
وما هذا الأمر وهذا الكلام؟
سقراط
إنّه الكلام الّذي يأمرنا بأن نتحلّى بالحزم. لذا فهلاّ رضيت بأن نمضي في فحصنا هذا بحزم قويّ لئلاّ تسخر منّا الشّجاعة نفسها حين ترانا كيف جبنّا عن الفحص فيها، على تقدير صحّة كون الحزم والشّجاعة قد يشتركان في الحقيقة.
لاكاس
أمّا أنا، فإنّي أعدك يا سقراط بالصّبر، وإن لم أعتد على هذا الضّرب من الكلام. بل لقد استأثر بي حبّي الحديث في هذا الأمر وإنّي لضائق صدري من عِيِّي على أن أقول بلساني ما يرى ذهني. فيشبه أنّي إنّما لي صورة أيّما بيّنة في حقيقة الشّجاعة؛ ولكنّي ما أعرف لِمَ كانت قد ذهبت عنّي آنفا حتّى أنّي قد عجزت عن أن أذكرها في عبارة أو أحدّها.
سقراط
أيّها الأخ الكريم، ألا تعلم أن القنّاص الماهر لايجوز له أن يني في طلب طريدته؟
لاكاس
بلى إنّي أعلم.
سقراط
أفترى من حرج لو دعونا نسياس ليشاركنا في القنص؟ فلعلّه كان أعلم منّا.
لاكاس
كلاّ إنّي لا أرى حرجا البتّة.
سقراط
_XXII أي نسياس أما ترى إخوانك كيف تتقاذفهم أمواج الحديث المضطربة، وقد صاروا يجهلون أيّ طريق يتّخذون: فلْتُقْبِلْ لنجدتهم إن كنت ذا قدرة. فأنت ترى أيّ حرج نحن فيه. ألا لتقل لنا ما الشّجاعة عندك حتّى نسلم من هذا الحرج، ولتُفْصِحْ عن رأيك نفسه بعبارة بيّنة.
نيسياس
الرّأي عندي ياسقراط أنّك منذ قليل ما حددت الشّجاعة حدّا مطابقا، لأنّك قد تركت استعمال معنى صحيح كنت قد ذكرته آنفا.
سقراط
وما هو يانيسياس؟
نيسياس
لقد سمعتك مرّات كثيرة تقول إنّما المرء يكون دائما جيّدا في الأشياء الّتي له علم بها، وسيّئا في الأشياء الّتي يكون جاهلا بها.
سقراط
وحقّ الآلهة إنّ هذا لصحيح يانيسياس.
نيسياس
حينئذ فإن صحّ أنّ الرّجل الشّجاع هو جيّد، فهذا الرّجل هو عالم لا محالة.
سقراط
وأنت يا لاكاس، فهل سمعت ما قال؟
لاكاس
نعم إنّي سمعت، ولكنّ غاية هذا الكلام لم تظهر لي حقّ الظّهور.
سقراط
أمّا أنا، فقد ظهرت لي، فكأنّه يريد أن يقول بأنّ الشّجاعة إنّما هي ضرب من العلم.
لاكاس
وأيّ شيء هذا العلم ياسقراط؟
سقراط
إنّما نيسياس من كان حقّك أن تسأل هذا السّؤال.
لاكاس
إنّك صدقت.
سقراط
فهلاّ أنبأته يانيسياس، أيّ علم الشّجاعة عندك. إذ لايجوز، بلا ريب أن تكون، مثلا العلم بالعزف على النّاي.
نيسياس
بلا ريب.
سقراط
ولا أن تكون العلم بالضّرب على القيثارة.
نيسياس
ولا هذا أيضا.
سقراط
حينئذ فأيّ علم هي، وهي علم بأيّ شيء ليت شعري؟
لاكاس
ما أحذقك في السّؤال ياسقراط، ولا مناص لنيسياس من أن يقول لنا أيّ شيء هذا العلم عنده.
نيسياس
إنّ هذا العلم، يا لاكاس، هو العلم بالأشياء الّتي ينبغي أن نخشاها، والأشياء الّتي ينبغي أن نَجْرُأَ عليها، إمّا في زمن الحرب، أو في غير زمن الحرب.
لاكاس
أما ترى يا سقراط بأنّ هذا الحدّ لخَلف محض؟
سقراط
ولم هو خلف محض يالاكاس؟
لاكاس
إنّه خلف محض لأنّه من المعلوم أنّ هناك تفرقة بيّنة بين العلم والشّجاعة.
سقراط
ولكن نيسياس ليس ممّن يرى هذا الرّأي.
نيسياس
نعم يا سقراط، إنّي لست أراه وحقّ الآلهة، ولذلك فلاكاس إنّما يهذي.
سقراط
فأره الحقّ إذن يانيسياس، وتنزّه عن القذف.
نيسياس
إنّي ما قصدته بالقذف ياسقراط؛ ولكن لاكاس، فيما بدا لي، إنّما رام أن يصفني بالمهذار، لأنّه كان قد افتضح آنفا بهذره.
لاكاس
XXIII _ بل إنّك لتهذي يانيسياس، وماقلت هو خلف، وهذا دليلي: فأنت تعلم أنّ في الأمراض، إنّما الطّبيب الّذي له المعرفة بأيّ منها لا بدّ للمرء أن يخشاه. حينئذ فأنت بين خصلتين: إمّا أن تدّعي بأنّ كلّ رجل شجاع فعالم بما يخشى من هذه الأمراض، أوأن تدّعي بأنّ الأطبّاء هم رجال شجعان.
نيسياس
بل كلا الخصلتين كذب إطلاقا.
لاكاس
ولا الفلاّحون أيضا. ومع ذلك فهم ذو معرفة حقّ فيما ينبغي أن يُتَّقَى في صناعة الفلاحة. وكذلك الأمر في سائر الصّناعات كلّها. فأصحابها ليعلمون بما ينبغي أن يُتَّقَى وأن يُفْعل في صناعة صناعة. ومع هذا فلا واحد منهم قد يُسَمَّى بالشّجاع.
سقراط
فما عساك أن تجيب عمّا قال لاكاس يانيسياس. إذ ما اعترض به عليك يبدو وكأنّه اعتراض صواب.
نيسياس
إنّما يبدو أنّه اعتراض صواب، وليس هو اعتراضا صوابا.
سقراط
وكيف؟
نيسياس
وذلك لأنّه قد توهّم بأنّ علم الطّبيب ليس يقتصر فقط على معرفته ما الصّحيح وما العليل في الّذي يعالجه، بل قد يتعدّاها لأشياء أخرى، ولكن هو لا يتعدّاها. فأن تكون الصحّة قد تكون أشدّ وبالا على هذا الرّجل مثلا، من المرض، أكان الطّبيب، يا لاكاس، سيعلمه؟ إذ أنّك قد توافقني في أنّه ليوجد بشر كثير لأنفع لهم أن لا يشفوا من مرضهم من أن يشفوا. فأنت لا تنازع في أنّه ليس دائما من الصّالح لنا أن نحي، بل هناك أحوال كثيرة لَلْموت فيها خير من الحياة.
لاكاس
نعم هناك أحوال كثيرة للموت فيها خير من الحياة.
نيسياس
إذن فالّذين الموت عندهم غنيمة، أفستكون خشيتهم من نفس الأمور الّتي قد يخشاها الّذين الحياة عندهم نعمة؟
لاكاس
إنّهما خشيتان مختلفتان.
نيسياس
فمن الّذي له أن يعرف هذا الفرق بين الخشيتين الاثنين؟ أالطّبيب، أو رجل آخر ذو صناعة أخرى أم هذا الرّجل فقط العارف بما ينبغي أن يتّقى، وبما لاينبغي أن يتّقي، والّذي أنا إنّما أسمّيه بالرّجل الشّجاع؟
سقراط
أفقهت ما قال نيسياس يا لاكاس؟
لاكاس
نعم، وقد ظهر لي ممّا قال أنّه بالشّجعان إنّما يريد الكهّان؛ فمن غيرهم، ليت شعري، قادر على أن يعرف إن كانت الحياة أولى برجل من الموت. وأنت يا نيسياس أتدّعي بأنّك كاهن، أم أنّك تعترف بأنّك لا كاهن ولاشجاع.
نيسياس
واعجبي ! أفعندك هو الكاهن الّذي له العلم بما ينبغي أن يُخْشَى، وبما لا ينبغي أن يُخْشَى؟
لاكاس
نعم، وإلاّ فمن غيره؟
نيسياس
_XXIV بل من قصدته، أيّها الأخ الفاضل، لأعلى مقاما من الكاهن؛ فالكاهن إنّما قُصاراه أن يفرّق في علامات ما سيقع لبشر ما من موت أو مرض أو إفلاس، أو ظفر في الحرب، أو في كلّ جنس آخر من أجناس المنازلة، أو هزيمة. أمّا أيّ من هذه الأمور لأفضل للمرء أن تُقْسَم له، فما بالك تريد أن يكون الكاهن الّذي يقضي فيها، وليس أحدا غيره؟
لاكاس
أمّا أنا يا سقراط، فلم يظهر لي شيء ممّا أراد أن يقول نيسياس؛ فلا الكاهن، ولا الطّبيب ولا غيرهما بقادر على أن يحكم فيمن هو الشّجاع، اللّهم إلاّ إذا كان أبقى هذه القدرة لبعض الآلهة فقط. لذلك فأنا لعلى يقين من أنّ نيسياس إنّما قد جبن عن أن يعترف بأنّه لا يقول شيئا يُعْتَدُّ به، وأنّه ينتقل من وضع إلى غيره بلا هدى لئلاّ تنفضح حيرته. فنحن آنفا، أنا وأنت، كان يمكننا أن نشطح كشطحه، لو كنّا نريد أن نخفي شكوكنا. ونحن إنّما نكون معذورين في أن نفعل كذلك لو كنّا نحاكم عند القاضي؛ ولكن كيف سيليق بنا أن نتشدّق بألفاظ ليس تحتها معنى حتّى يظهر بعضنا على بعض، ونحن كلّنا من أهل الفضل وليس بيننا سفيه؟
سقراط
وأنا، يا لاكاس، ما أستحسن أيضا هذه الطّريقة في الكلام. ولكن لتعلم أنّ نيسياس إنّما يؤمن بما قال وهو بلا ريب ليس لمجرّد أن يتكلّم كان قد انتصر لرأيه المذكور. إذن فلتسأله أن يزيد تحقيقا له، وبعدها، فإمّا أن نعتنقه إن ظهر لنا بأنّه لحقّ، و إن ظهر لنا كذبه، فلابدّ أن نبصّر نيسياس.
لاكاس
بل لتسأله أنت يا سقراط، إن كان هذا لايحرجك. أمّا أنا، فقد بلغت الغاية في سؤاليه.
سقراط
لاضير، فأنا لسوف أسأله بالأصالة عن نفسي، وبالنّيابة عنك.
لاكاس
نعمّا هذا.
سقراط
_XXV إذن فأنت يا نيسياس قد زعمت لي، بل زعمت لنا أنا و لاكاس، فسؤالنا لك واحد، بأنّ الشّجاعة هي علم بما ينبغي خشيته وبما لاينبغي خشيته.
نيسياس
نعم.
سقراط
وقد زعمت أيضا بأنّ هذا العلم ليس من مشمولات أيّ كان من البشر، فما يعرفه لا الطّبيب ولا الكاهن، وهذان لايصيران شجاعين إلاّ إذا اكتسباه باسْتِقْلاَلٍ عن اكتسباهما لِمَا صارا بهما هذا طبييا وهذا كاهنا.
نيسياس
إي نعم.
سقراط
فلاجرم أنّ هذا المثل كان صادقا إذن حين قال "تنزّهت الشّجاعة عن أن يكون علمها شِرْعَةً لكلّ خنزير وارد، أوأن تصير حِلْيَةً لكلّ قرد عارض".
نيسياس
لقد صدق بحقّ.
سقراط
فظاهِرٌ إذن أنّك لتنكر أن تكون خنزيرة كروميون أيضا قد كانت شجاعة، وإيّاك و أن تأخذن كلامي هذا على أنّه فكاهة. بل، بلا ريب، فلو صحّ حكمك للزم بالاضطرار أن نرفع الشّجاعة عن كلّ البهائم، أوأن نثبت لها نصيبا من الفطنة تملك به العلم بعواقب الأمور، فيكون للأسد، وللفهد، أو للخنزير من هذا العلم ماليس لكثير من البشر. ولكن إن صحّ ما قد زعمت، فلا مندوحة لك من أن تسلّم بأنّ الطّبيعة إنّما قد سوّت بين الأسد والأيّل، والقرد في الشّجاعة.
لاكاس
لافُضَّ فوك ياسقراط. وأنت يا نيسياس فلتجب جوابا مستقيما لا روغان فيه؛ فبأيّ القولين أنت قائل، أفستقول بأنّ كلّ البهائم المعروفة كلّها بأنّها شجاعة هي لأعلم منّا نحن البشر، أم ستقول على خلاف المعروف إجماعا، بأنّه لا بهيمة من هذه البهائم بشجاعة؟
نيسياس
الرّأي عندي يا لاكاس أنّه لا يمكن وصف أيّ بهيمة بالشّجاعة، بل إنّ هذا الوصف لمرفوع عن كلّ إنسان يركب المهالك لسفاهته، بل هذا عندي لَرَجُلٌ مجنون وطائش. فليت شعري، أَوَ تكون قد حسبتني سوف أعدّ الأحداث الصّغار شجعانا لكونهم لا يرهبون شيئا لجهلهم بعواقب الأمور؟ بل عندي ألاّ يهاب المرء، وأن يكون شجاعا لأمران مختلفان. لذلك فأنا أرى بأنّ الشّجاعة والنّظر في العواقب لََخصلتان لا توجدان إلاّ في قلّة قليلة من البشر، أمّا التهوّر، والجسارة، وقلّة الخشية للجهل بعواقب الأمور، فإنّما هي من خصال أكثر المخلوقات، أطفال، ونساء، وبهائم. من أجل هذا فالأفعال الّتي نَعَتَّهَا أنت وينعتها العاميّ بالشّجاعة، فأنا إنّما أسمّيها بالأفعال المتهوّرة، أمّا الأفعال المتروّيّة فتلك، لعمري، ما أسمّيها بالشّجاعة.
لاكاس
XXVI _ أما رأيت يا سقراط كيف هو يطري نفسه بهذه الأقوال المظنونة؟ أمّا ما هو معلوم عند الجميع بأنّه لَشجاع، فإنّه يطلب جاهدا رفع هذه الصّفة عنه.
نيسياس
ألا لِتهوّن عليك يا لاكاس، فأنا إنّما أعدّك عالما وكذلك لاماكوس، لأنّك شجاع، وكثيرا من أهل أثينا غيرك أيضا.
لاكاس
إنّي لن أجيبك في هذا، وليس لأنّي لا أجد ما أعارضك فيه، ولكنّي لا أرضى أن يُقال عنيّ بأنّي لمن أهل أيكسنوس بحقّ.
سقراط
صه لا تتكلّم يالاكاس. أفلمَّا تتبيّن بأنّ هذا العلم إنّما كان قد أخذه عن دامون. ودامون قد كان كثير المجالسة لبروديكوس الّذي كان أشدّ السّفاسطة معرفة بوضعه هذه التّفريعات اللّفظيّة.
لاكاس
وبِحَقٍّ ياسقراط، فهذا التَّنَطُّعُ في الكلام لأليق برجل سفسطائي منه برجل قد ترضاه المدينة أن يكون واليا عليها.
سقراط
ولكنّك لا يمكن أن تنازع أيّها الأخ المخلص، بأنّ كلّ رجل تُعْهَد إليه أمور عظام، فالأخلق به أن يكون ذا حكمة كبيرة، ونيسياس إذ يحدّ لفظة الشّجاعة ذلك الحدّ، فهو حقيق بأن ننظر فيما يريد بهذا الحدّ.
لاكاس
فلتنظر فيه أنت بنفسك يا سقراط.
سقراط
وهو ما أنا فاعله أيّها الأخ الفاضل. ولكن لا تتوهمّن يا لاكاس بأنّك خالص الذمّة ممّا اجتمعنا لأجله، بل كن يقظا، ولتنظر معي فيما سوف يقال.
لاكاس
إن كان هذا ضروريّا، فليكن الأمر كما أمرت.
سقراط
XXVII_ نعم إنّ هذا لضروريّ. ألا لتعد، يانيسياس إلى أوّل قولك. فلاريب أنّك تذكر بأنّا حين أخذنا بالبحث في المسألة فقد نظرنا في الشّجاعة من حيث هي جزء من الفضيلة.
نيسياس
إنّي أذكر.
سقراط
ولقد أجبت بالحقّ بِعَدِّكَ الشّجاعة جزء من الفضيلة، إذ أنت تعلم بأنّ هناك أجزاء أخرى غيرها، وكلّها تُنْعَتُ بالفضيلة.
نيسياس
إنّي لأعلم بلا ريب.
سقراط
وأنت ألا ترى معي بأنّ هذه الأجزاء الأخرى هي العفّة، والعدل، وغيرهما من الخصال الشّبيهة؟
نيسياس
إي نعم إنّها هي.
سقراط
وإذ قد تقرّر هذا، فلننظر الآن في أيّ الأشياء الّتي تُخْشَى، وأيّها الّتي لا تُخْشَى، ولنفحص عنها معا لئلاّ يختلف رأيينا فيها. فأنا سوف أعرض عليك أيّا منها تخشى، وإذا بدا لك الأمر على غير ما أقول، فنبّهني إليه.
إنّه من المعلوم أنّ الأشياء الّتي تُخْشَى إنّما هي الأشياء الّتي تبعث الخشية في النّفس، والأشياء الّتي لا تُخْشَى، فهي الأشياء الّتي لا تبعث الخوف في النّفس. وبلا ريب، فليست الشّرور الماضية، ولا الشّرور الحاضرة هي التّى تخشى، وإنّما الشّرور الّتي نترقّبها، إذ حدّ الخشية هو ترقّب شرّ نازل. وأنت يا لاكاس، فما تقول؟
لاكاس
أقول كما قلت يا سقراط.
سقراط
وإذ قد عرفت رأينا يا نيسياس فأنت لاتنازع في أنّ ما يُخْشَى إنّما هو الفوادح المترقّبة، وما لا يخشى فهو الأمور المترقّبة الّتي لا تكون شرّا أو الّتي تكون خيرا.
نيسياس
إنّي لا أنازع.
سقراط
وهل أنت تسمّي الشّجاعة العلم بهذه الأمور الّتي تُخْشَى ولا تُخْشَى؟
نيسياس
إنّه العلم بهذه الأمور الّذي أسمّيه شجاعة.
سقراط
XXVIII _ وهناك أمر ثالث لابدّ أن نرى إن كان رأيك فيه كرأينا.
نيسياس
وأيّه؟
سقراط
فلتسمع ما سأقول. لقد بدا للاكاس ولي، أنّه إذا نُظِرَ إلى مواضيع العلم المختلفة، فلا نجد أبدا أنّه هناك علم شأنه أن يعرف الموضوع كيف كان في الماضي، وعلم آخر شأنه أن يعرف الموضوع كيف هو في الحاضر، وعلم ثالث شأنه أن يعرف كيف يمكن أن يكون الموضوع في المستقبل وما أحسن وجوه كونه. بل إنّه لِِعِلْمٍ واحد المعرفة بالموضوع في أحواله كلّها. فمثلا لا يوجد للصحّة إلاّ علم واحد وهو الطبّ ينظر فيها نظرا واحدا كيف كانت وكيف هي الآن، وكيف ستكون. ولا يوجد إلاّ علم واحد لما تثمر الأرض وهو الفلاحة. كذلك في أمر الحرب، فأنت نفسك قد لاتنازع، بلا ريب، بأنّ علم القائد إنّما يرعى حقّ الرّعاية إلى كلّ كبيرة وصغيرة، وإلى كلّ ما يجب فعله فيها. وقد لاتنازع أيضا بأنّ هذا العلم لايمكن أن يرضى بأن يدخل تحت حكم الكِهَانة، بل إنّ الكِهَانة الّتي ينبغي أن تدخل تحت حكمه، لأنّه هو العلم الوحيد الّذي له أحسن المعرفة بما يقع في الحرب وسيقع فيها؛ والأصول تقضي بأنّه ليس الكاهن الّذي له أن يَتَأَمَّرَ على القائد، بل القائد الّذي له أن يتأمّر على الكاهن. أليس هذا ما كنت ستجزم به معي يا لاكاس؟
لاكاس
بلى يا سقراط.
سقراط
و يا نيسياس أأنت موافقنا على أنّه لِموْضُوعٍ واحد علم واحد يعرف أحواله كلّها في الماضي والحاضر والمستقبل؟
نيسياس
نعم إنّي موافقما يا سقراط.
سقراط
ولكنّ الشّجاعة، كما قد أسلفت نفسك بالقول، أيّها الفاضل نيسياس، إنّما هي العلم بما يُخْشَى وما لايُخْشَى.
نيسياس
وهي لكذلك.
سقراط
ولقد تواطأنا جميعا على أنّ المُراد بما يخشى ولا يخشى إنّما هو الشّر المتوقّع و الخير المتوقّع.
نيسياس
لقد تواطأنا.
سقراط
ولقد تواطأنا أيضا على أنّه لِعِلْمٍ واحد النّظر في موضوع واحد في أحواله كلّها في المستقبل وفي غير المستقبل.
نيسياس
لقد تواطأنا.
سقراط
فالشّجاعة إذن ليست بعلم ما يخشى ولا يخشى فحسب؛ وذلك لأنّها مثلها مثل سائر العلوم، فهي لا تشتمل فقط على المعرفة بالشرّ المتوقّع، بل وأيضا على المعرفة بالشرّ الحاضر، والشرّ المتصرّم، أي على المعرفة بالشرّ في عمومه.
نيسياس
لكأنّ الأمر كما وصفت يا سقراط.
سقراط
XXIX _ لذا أفرأيت يا نيسياس كيف أنّك ما كنت قد أجبتنا إلاّ في ثُلُثِ الشّجاعة، ونحن إنّما قد استفهمناك طبيعة الشّجاعة كلّها. أمّا وقد أقررت بما أقررت به الآن، فسيلزم أنّ الشجاعة ليست العلم بما يخشى ولا يخشى فحسب، بل هي العلم بكلّ شرّ وخير في الأحوال جميعا. أم لك رأي آخر يا نيسياس؟
نيسياس
كلاّ، بل ما قلت يشبه أن يكون هو الواجب.
سقراط
حِينَئِذٍ، فلا جرم أيّها الأخ الفاضل، أنّ كلّ رجل قد علم بالخير كلّه، وعلم كيف يوجد، وكيف قد وجد، وكيف سيوجد، وعلم بالشرّ أيضا نحو هذا العلم، فسيكون عندك الرّجل الّذي قد حوى الفضيلة كلّها. ولا جرم أنّ كلّ رجل أُوتِيَ الهمّة في أن يحتاط لنفسه ممّا يخشى ولا يخشى من الآلهة والنّاس، وأوتي السّداد في أن ينعموا عليه بالخير العميم لكونه قد عمل بما يرضيهم، فسيكون عندك الرّجل الوافر الحكمة، والعدل والتّقوى.
نيسياس
ليس لي ما أنازع فيما قلت ياسقراط.
سقراط
إذن فأنت يانيسياس إنّما تتكلّم الآن في الفضيلة كلّها، وليس في جزء من الفضيلة فحسب.
نيسياس
لكأنّ الأمر كما قلت.
سقراط
ولكن نحن قد أسلفنا بأنّ الشّجاعة هي جزء من الفضيلة.
نيسياس
لقد أسلفنا هذا بِحَقٍّ.
سقراط
أمّا الآن فقد ظهر بيّن الظّهور بأنّ الأمر ليس كذلك.
نيسياس
إنّه قد ظهر.
سقراط
وعلى هذا فنحن لمّا نظفر يا نيسياس بحدّ الشّجاعة.
نيسياس
إنّا لمّا نظفر قطعا.
لاكاس
وأنا كنت إِخَالُكَ، يانيسياس، أنّك ستظفر به لا محالة، لِمَا رأيتك تهزأ من أجوبتي لسقراط، وكنت أَأْمل أَمْلاً عظيما أن تُنْجِحَ في طلبك لِمَا لديك من علم كنت قد أخذته عن دامون.
نيسياس
XXX _ فهنيئا لك، يا لاكاس، تماديك في توهّمك أنّه ما كان أمرا عظيما أن يكون آنفا قد تكشّف لنا جهلك جهلا مطبقا بما الشّجاعة. بل إنّك غاية ما تطلب هو أن أُرَى جاهلا كجهلك، ولست تَأْسَى، فيما أرى، على أن نكون نحن الاثنين صفري المعرفة بأمور إنّما فرض على كلّ رجل كريم أن يكون عارفا بها. وبلا ريب ففيما فعلت لا شيء البتّة حقيق بالفخر: بل قصاراك أنّك تنظر في عيوب غيرك، ولا تنظر في عيوب نفسك. أمّا أنا، فحسبي أنّي قد استفرغت الطّاقة اليوم في بيان هذه المسألة، وإن وقع منّي بعض الغلط، فعسى أن يعينني على تصحيحه دامون الّّذي ما فتأت تهزأ به، من غير معرفة به، وغَيْرُهُ آخرون كثير. وحين تقوى معارفي فسأبسطها عليك، ولن أكتمك واحدة منها أبدا. فأنا لَأَراك فقيرا غاية الفقر لأن تُعَلَّمَ.
لاكاس
لَأَنت العالم النّحرير يا لاكاس. ومع هذا فأنا لَأنصح لليسيماك وميليساس بألاّ يعهدا لي ولا لك أمر تربية أبنائهما، بل ليطلباه من سقراط كما قد أسلفت أوّلا، وأنا لو كان لي أولاد قد راهقوا الحلم لفعلت ما نصحتكما به الآن.
نيسياس
إنّي في هذا لَعلى رأيك يا لاكاس. فلو يرضى سقراط بأن يرعى إلى هؤلاء الفتيان اليافعين، فلا ضرورة البتّة في أن نلتمس معلّما غيره. وأنا أيضا لسوف أعهد إليه بصدر منشرح تربية ابني نكراتوس، إذا رغب فيه. ولكن قد كان كلّما طلبت منه هذا قدّم لي أحدا غيره، وتوارى هو عنّي. فلتنشاده أنت يا ليسيماك لعلّه يجيبك بأحسن ممّا أجابني به.
ليسيماك
طلبت رُشْدًا، يا نيسياس. فأنا لأرضى أن أفعل من أجل سقراط أشياء كثيرة ما كنت لِأفعلها لأحد غيره. فهلاّ سمعت طلبنا يا سقراط، وقبلت بأن تعيننا في أن نجعل هؤلاء الفتيان على غاية من الصّلاح؟
سقراط
XXXI. _ سيكون من السّفاهة يا ليسيماك لو منعنا معونتنا رجلا يبتغي تحصيل الصّلاح والكمال. إذن فأنا لو كنت في محاورتنا الآنفة قد ظهر أنّ لي علما حقّا، وأنّ صاحبيك لجَاهلين حقّا، لكنت مُحِقًّا في دعوتك إلى ما دعوتني إليه. ولكن إذا كنّا كلّنا قد لفّه الشكّ وأخذته الحيرة على السَّوَاءِ، فما موجب أن تميل إلى أحدنا دون غيره؟ فالرّأي عندي ألاّ تختارنّ أيّ واحد فينا. ثمّ إنّه متى تقرّر هذا فلتسمع لهذه النّصيحة الجيّدة: أيّها الملأ، لنجتهد جميعا في التماس أحسن المعلّمين لأجلنا نحن أوّلا، فما أحوجنا كلّنا له، ولأجل أبنائنا ثانيا، ولا يدّخرنّ أحد فينا لهذا ماله ولا غيره. وإيّاكم ثمّ إيّاكم و أن تبقوا فيما أنتم فيه من جهل. وإن اسْتُهْزِأَ بنا لأنّنا على الكبر قد رمنا أن نتعلّم، فلنا أن نردّ بقول هوميروس: "من كان في ضنك فعليه خلع شعار الحشمة". لذلك فلنرع إلى أنفسنا وإلى هؤلاء الفتيان ولا تأخذنا في هذا لوم اللاّئمين ولا عذل العاذلين.
ليسيماك
ما أحسن نصيحتك ياسقراط، وأنا وإن كنت أكبركم سنّا، فأريد أن أكون أحرصكم جميعا على أن أتعلّم وهَؤُلاَءَ الفتيانَ. ولكنّك ألا لِتقبل دعوتي لك آنفا: ولا تنس بأن تغشانا غدا في بيتي حتّى نتشاور في هذا الأمر. أمّا الآن فقد أزف الفراق.
سقراط
لَأُجِيبَنَّ دعوتك غدا إن شاء الله يا ليسيمكاك.

تمّ تعريب محاورة لاكاس لأفلاطون في التّاسع من ربيع الأوّل 1426 الموافق ل17 أفريل 2005، ولواهب العقل الحمد والمنّة.


** اسم لما كان قد قسّم إليه سكّان أثينا تقسيما يسمّى في لغة اليوم بالتّقسيم الإداريّ.

*PLATON, LACHES, Traduction française par Emile Chambry, FLAMMARION 1967.

http://membres.multimania.fr/philosophie15/