الأحد، 8 أغسطس 2010

افلاطون محاورة لاكاس (في الشجاعة)

أفلاطون
محاورة لاكاس*
( في الشّجاعة)
تعريب لطفي خيرالله

ليسيماك و ميليسياس و نيسياس و لاكاس، وولد ليسيماك، وولد ميليسياس، وسقراط.

ليسيماك
_.I لقد شاهدتما يا نسياس، ويا لاكاس ذلك الرّجل يحارب وهو مدجّج بسلاحه. وكلانا أنا وماليسياس لم يذكر لكما ما السرّ في عزيمتنا عليكما بمصاحبتنا لنا حتّى تروه؛ أمّا الآن فسنذكره. لأنّا نرى أنّ الصّدق مع رجال أمثالكما واجب ومؤكّد. فأنتما تعلمان أنّه لَمِنِ النّاس من يتّخذ من تلك التّمرينات هُزُوا، وإذا ما اُسْتُفْتُوا فيها أمسكوا عن الجواب بما في ضمائرهم، ونظروا فيما هوى المستفتي حتّى أنّهم قد يجيبون بخلاف رأيهم. أمّا أنتما فلقد كنّا نراكما لَأَهلا لأن تقضيا في هذا الأمر، وأنّكما بعد أن تروّيّا فيه، فلسوف تذكران لنا رأيكما ذكرا ممحّضا صدقا. ذلك ما كان سرّ أخذنا لكما معنا: إنّه لكي نتناجى فيما نحن باسطوه عليكما. فلتسمعا إذن لهذا الأمر الّذي أنا قد وطّأت له هذه التّوطئة الطّويلة.

إنّه كلانا له ابن هما هذا وهذا، فأمّا ابن ميليساس فاسمه كجدّه، أي تِيسِيدِدْ، وأمّا ابني هذا فاسمه كجدّه أبي، أي أَرِيسْتِدْ. وكلانا قد وطّن العزم على أن يستفرغ الوسع في أن يهتمّ بابنه، وألاّ يفعل كفعل أكثر النّاس الّذين إذا بلغ أبناءهم الحلم تركوهم يحيون على سجيّتهم، بل نحن نروم أن نُخْلِصَ لهما كلّ همّنا الممكن من الآن. وأنتما أيضا لكما أبناء، فلاجرم أن تكونا قد نظرتما فيما ينبغي فعله لصلاحهما أكثر من كلّ امرئ آخر. أمّا ما لو لم تكونا قد نظرتما في هذا الأمر قط، فإنّا لنا أن نذكّركما إذن بأنّكما إنّما قد تركتما أمرا عظيما، وإنّا لندعوكما لأن تشرعا معنا في أن ترعيا لابنيكما.
_.II ولا بدّ يا نيسياس، ويا لاكاس أن أذكر لكما أيّ شيء كان قد بعث فينا هذا العزم، وان احتجت لتطويل الكلام في بيانه. وإنّي وكما قد أسلفت لكما، فلسوف أصدقكما القول كلّ الصدق. إنّ عادتنا أن نأكل أنا وميليساس معا، ومعنا ابنانا هذان. وكلّما أخذ أحدنا في الحديث عن أبيه فهو يجد له مآثر كثيرة حقيقة بأن تُرْوَى لذينك الفتيين، كان قد فعلها إمّا زمن الحرب أو زمن السّلم كتولّيه أمور الحُلفاء، أو أمور المدينة؛ ولكن مآثر لنا في الحرب أو السّلم، فلا نجد إطلاقا ما نقصّه عليهما. فكنّا نخجل عندهما، وكنّا نعاتب في أنفسنا أبوينا الّذين كانا قد انشغلا بتدبير أمور الغير وتركانا نحيا على سجيّتنا لمّا كنّا قد بلغنا الحلم. لذلك فنحن نعظ ذينك الفتيين، ونقولا لهما إنّكما إن كسلتما، وصممتما آذنكما عن قولنا، فلسوف تحيون حياة المغمورين، و إن جاهدتما نفسيكما، فعسى أن تصبحا حقيقين باسميكما.
فوعدانا بأن يتّعظا. أمّا نحن فقد أخذنا نطلب أيّ علم وأيّ تمرين قد يبلغ بهما الغاية في الكمال. فأشار علينا مشير بهذا التّمرين، وقد ذكر لنا بأنّه لمن الخير للفتى أن يتعلّم الحرب وهو مدجّج بسلاحه؛ ثمّ إنّه قد نوّه بخصال الرّجل الّذي رأيت، ونصحنا بأن نذهب حتّى نراه. لذلك نحن قد استصوبنا أن نأتي بأنفسنا ونشاهد كيف يتمرّن الرّجل، وأن نأخذاكما معنا حتّى تشاهدانه أنتما، ثمّ نستخبر رأيكما، وندعوكما لتشاركاننا فيما ينبغي فعله لأجل أبنائنا.
ذلك ما كنّا نبغي أن نقوله لكما. فما ترون في هذا التّمرين، أهو لازم لأبنائنا أم غير لازم، أم أيوجد أنواع أخرى من التّمرين أو الأعمال، قد تنصحان بها كلّ فتى يافع؟ أأنتما راغبان في مشاركتنا أم غير راغبين؟
نيسياس
إنّي على قصدكما يا ليسيماك وميليساس، وإنّي لراغب في مشاركتما، ولعلّ لاكاس هو أيضا مثلي.
لاكاس
لقد صدقت يا نيسياس. لأنّي أرى أنّ الّذي قاله لسيماك في أبيه وأب ميليساس ليصحّ حقّ الصحّة ليس فيهما فقط بل وفينا وفي كلّ من انشغل بتدبير أمور الدّول. فهؤلاء كما قال ليسيماك،كثيرا ما يتركون أمور أبنائهم، وأمور بيتهم، ولا يهتمّون إلاّ قليلا لها. إنّك في هذا إذن قد صدقت يا ليسيماك؛ أمّا ما جعلني أعجب إنّما أن تستفينا نحن في أمر تربية هؤلاء الفتيان، ولم تستفت سقراط الحاضر هنا، ولا سيّما وأنّكما من دام**واحد، وأنّه دائما ما يوجد في الأمكنة الّتي قد تصيب فيها شيئا ممّا تطلبه، أعني التعلّم، أو التّمرين اللاّئق بالفتيان.
ليسيماك
أو حقّا يا لاكاس أنّ سقراط الواقف قدّامي، كان قد انشغل بهذه الأمور؟
لاكاس
إي نعم يا ليسيماك.
نيسياس
وأنا أيضا لأشهد مع لاكاس بهذا. فسقراط من زمن غير بعيد قد دلّني على معلّم في الموسيقى لأجل ابني، يقال له دامون تلميذ أغطوس، وهذا المعلّم، لعمري، هو ليس فقط لأبرع موسيقيّ في الدّنيا، بل إنّه ليحذق أشياء كثيرة، وله أن ينفع الفتيان اليافعين بدروس عظيمة.
ليسيماك
IV_ إنّك لتعلم يا سقراط، وإنّكما لتعلمان يا نيسياس ولاكاس بأنّ من أسنّ كما أسننت، فهو قليل المعرفة بفتيان هذا الزّمن. إذ لِكِبَرِ أعمارنا فنحن مضطرّون لأن نَقَرَّ في بيوتنا أكثر الوقت. أمّا أنت أيابن سوفرونسك، فإن كانت لك نصيحة نافعة فجد بها على رجل دامه دامك، وهي حقّ لي عليك، إذ أبوك قد كان صاحبا لي فأنت لي صاحب أيضا. لقد كنّا أنا وأبوك صاحبين دائما، ولم نتشاجر قط حتّى اخترمته المنيّة. وإنّي لأذكر أيضا أنّي كنت قد سمعت من زمن قريب هؤلاء الفتيان يذكرون اسم سقراط وهم يتحاورون لديّ، فما آلوا جهدا في مدحه وتقريضه. ولكنّي لم أسألهم قطّ إن كان الّذي يذكرون هو سقراط ابن سوفرونسك. أفأنبئوني، أيّها الفتيان، أسقراط هذا من كنتم تذكرون دائما؟
الفتيان
إنّه هو يا أبانا.
ليسيماك
ما أحقّ أن يفخر بك أكرم الرّجال أبوك، ياسقراط. وإنّ هذا لسبب آخر لكي نهتمّ لك، وتهتمّ لنا.
لاكاس
إيه ! فيا ليسماك، إيّاك وأن ترخي قبضتك عن صاحبنا هذا. بل أنا نفسي كنت قد رأيته يجلب الفخر ليس فقط لأبيه، بل ولأرضه أيضا. ففي هزيمة داليون، كنّا قد تقهقرنا جنبه إلى جنبي، وإنّي لأشهد الله أنّه لو أنّ الآخرين قد فعلوا كما فعل سقراط، لبقيت مدينتنا شامخة ولما تهاوت كما كانت قد تهاوت.
ليسيماك
إنّ هذا، يا سقراط، بحقّ لمَدح جميل، مدحك به رجال صادقون، وصدقهم لأظهر فيما كانوا قد مدحوك فيه. ولتعلم علم اليقين بأنّ معرفتي الآن بأنّك لَحَسَنُ المَخْبَرِ حُسْنًا كبيرا، لمَِمَّا يثلج صدري، ولترض بي صديقا مخلصا لك. فلقد كان حقّك أن تكون قد زرت منزلنا من تلقائك قبل هذا اليوم، فكنّا نتّخذك صاحبا كما أنت أهله. وعلى أيّة حال، وإذ قد تعارفنا هذا اليوم، فلتجب دعوتي، ولنصبح أسرة واحدة، ولتصر صديقا لنا ولهؤلاء الفتيان حتّى تدوم صحبتنا فيك. ذلك ما يجب عليك فعله، وإنّا قد ذكّرناك به هاهنا. أمّا في السّؤال الّذي كنّا قد سألنا ابتداء، فما جوابك؟ أي أيجوز أم لا يجوز أن ندفع الفتيان لأن يتعلّموا الحرب وهم مدجّجون بالسّلاح؟

سقراط
V.- إنّي، يا ليسيماك سوف أشير عليك أوّلا برأيي فيما سألتني فيه، ثمّ سوف أجيبك عمّا دعوتني إليه. ولكن أرى أنّ الأدب يلزم بأنّه عليّ أن أسمع أوّلا لهؤلاء الرّجال وأن أتعلّم منهم، فهم أكبر منّي سنّا، وأكملهم خبرة بالأمور؛ وإن بدا لي أنّه هناك ما يُزَادُ على ما قالوا، فسوف أبسطه عليكم، وسأطلب أن تصدّق به أنت ويصدّقوا به هم. فلولا أن يأخذ أحد منكما بالكلام يا نيسياس.
نيسياس
الأمر كما أمرت يا سقراط. أمّا أنا فأرى أنّ ذلك العلم هو نافع للفتيان لخصال كثيرة. فأوّلا لئن يشغف هؤلاء بمثل ذلك التّمرين الذّي يجعل أبدانهم بحقّ، أشدّ قوّة، لأنّه لا يفوقه أيّ فنّ من فنون الرّياضة الأخرى، وليس يقلّها البتّة طلبا للجهد، لَخير لهم أيّما خير من أن ينهمكوا في اللّهو الّذي عادتهم أن يحبّوا الانهماك فيه أوقات البطالة. وثانيا فليس شيء أليق بكلّ رجل كريم من هذا الفنّ، ومن فنّ الفروسيّة. وذلك لأنّه في المناجزة، وحين يُطْلَبُ منّا أن نحارب، فليس ينفع حينئذ إلاّ فنّ واحد، وهو الفنّ الّذي وسيلته الآلات الحربيّة. وأيضا فهذا التعلّم لجدّ نافع حين تلتحم الصّفوف، وحين يقاتل المرء في صفّ ويقاتل معه آخرون كثير، وبخاصّة حين تنكسر الصّفوف، فيُضْطَرُّ حينئذ لكي يقاتل كلّ قِرْنٍ قِرْنَهُ، وذلك إمّا بالانقضاض عليه وهو يفرّ، وإمّا بدفعه إذا هاجمه وهو يتقهقر. فإذا لاقى قرن قرنه، فليس إلاّ من كان متمرّسا في فنّ المبارزة، لا يمكن أن يهاب عدوّه، وإن كثر عدده: بل هذا العلم الّذي عُلِّمَهُ إنّما يجعله أبدا هو الظّاهر.

ثمّ إنّ للعلم بالسّلاح أن يربّي في النّفس طلب علم آخر جيّد؛ وذلك لأنّ كلّ امرئ تعلّم الحرب وهو مدجّج بالسّلاح، فسوف يطلب معرفة العلم اللاّزم عنه، وهو علم المراوغة؛ وبعد أن يكون قد تعلّم ذينك العلمين، وصار مذكورا فيهما، فسوف ينغمس في معرفة معرفة كاملة لعلم تدبير الحرب. لقد بان إذن بأنّ كلّ العلوم ذات النّسبة إلى الحرب، وكلّ التّمرينات المتعلّقة بها، إنّما هي محمودة، وحقيقة بحقٍّ بأن تُتَعَلَّمَ، ويُطْلَبُ حذقها، وقد بان أيضا بأنّ العلم بالأسلحة لهو الباب لها.

ولنا أن نزيد إيراد منفعة أخرى ذات شأن وهي أنّه في الحرب، هذا العلم من شأنه أن يجعل كلّ من حذقه أكثر جسارة، وأثبت فؤادا ممّا كان من قبل أن يتعلّمه. ولا نزدري كذلك هذه الفائدة الأخرى وإن ظهرت ضئيلة، أي حسن الهيأة، فحسن الهيئة قد تكون لازمة في مواضع حين تبعث الهيبة في نفس العدوّ. فإذن إنّي أكرّر القول، يا ليسيماك، أنّه فيما أرى، لا بدّ أن يُعَلَّمَ هذا الفنّ للفتيان، وقد ذكرت الأسباب. أمّا إن كان لا كاس يرى رأيا آخر، فكلّي آذان صاغية لأسمع ما يقول.
لاكاس
VI- إنّه يعسر جدّا يانسياس أن يُقَالَ في علم من العلوم إنّه يُنْهَى عن تعلّمه؛ لأنّه في كلّ معرفة فهناك فضل، وإن صحّ أنّ معالجة السّلاح هي علم بحقّ كما زعم كثير من النّاس، وزعم نيسياس، فهو أيضا حقيق بأن يُتَعَلَّمَ. أمّا إن تكشّفت أنّها ليست بعلم، وأن لاطائل ممّا يوصف لنا من خصالها، أو بأنّها لعلم غير ذي نفع كبير، فأيّ فائدة في أن ننشغل به؟

فإنّي إذا أردت أن أقضي برأيي في هذا الأمر فسأسلك هذا المسلك، فأقول: إنّ هذا الفنّ لو كان تحته نصيب من المنفعة لما ذهل عنه أهل لاسيديمون الّذين لا همّ لهم في دنياهم إلاّ البحث في المعارف وأنواع التّمرين الّتي إن عملوا بها في الحروب كانت لهم الغلبة والظّهور. وإن قدّرنا أنّهم إنّما قد ذهلوا عنه، فإنّ فحول هذا الفنّ ما كان ليغيب عنهم بأنّ أهل لاسيديمون هم أكثر الأقوام الإغريقيّة طلبا لهذه الأمور، وأنّ كلّ معلّم في هذا الفنّ عُرِفَ عندهم وكان مُعَظَّمًا، فإنّه يكسب أموالا كثيرة عند غيرهم، كحال شعراء المأساة المعظّمين عندنا. فأنت تعلم بأنّ كلّ من آنس في نفسه القدرة على صنع مآسيا جيّدة، فهو لا ينأى بعيدا، أو يظلّ حائما حول أَتِيكَا، حتّى يعرض قصصه في هذه المدينة، وهذه المدينة. بل إنّه يجيئ بها رأسا إلى هنا ويشخّصها عندنا نحن، ورُشْدٌ ما فعل. أمّا المعلّمون المذكورون في فنّ معالجة السّلاح، فإنّي لَأراهم ينحرفون دائما عن لاسيديمون الّتي يعدّونها حمى لا يوطأ أبدا، ولكن يحومون حولها، ويعرضون معرفتهم في كلّ مكان إلاّ في سبرط، بل ويعرضونها خاصّة على ناس قد شهدوا هم أنفسهم بأنّهم لأضعف في الحرب من كثير غيرهم.

VII – ثمّ إنّي، يا ليسماك، قد شاهدت وقت الجدّ، كثيرا من أشباه هؤلاء الرّجال، وإنّي لعارف بحقيقة قدرتهم. ولنا أن نتروّى قليلا لنتبيّن ذلك: إذ قد بان ألاّ أحدا كان قد ثابر على فنّ معالجة السّلاح، قد برع في حرب من الحروب. ومع ذلك فإنّ الّذين عُرِفُوا في فنّ من الفنون الأخرى، كانوا قد ثابروا عليه من قبل وارتاضوا فيه. أمّا الّذين تعلّموا الفنّ المذكور، فعلى عكس هؤلاء، فقد كانوا كالشّؤم على صناعتهم. ولنذكر مثلا ستيلاووس الّذي كنّا قد رأيناه معا يرفل أمام خلق كثير، وكان يُطْرِي نفسه أيّما إطراء، فأنا قد رأيته حين جدّ الجدّ، وقد بانت حقيقته المُخَبَّأَة على كُرْهٍ منه.

إذ ذات يوم دنت سفينته الّتي كان جنديّا عليها، من سفينة حربيّة. لقد كان يحارب بمنجل كان قد شدّه إلى رمح، لِظنّه بأنّه لكونه أشدّ الجنود، فلا بدّ أن يكون سلاحه أقوى الأسلحة. وأنا لن أثقل عليك بذكري ما كانت مآثره الأخرى، بل سأقتصر على ذكر ما كان مآل اختراعه ذاك، أي المنجل المشدّ إلى الرّمح. فلمّا كانت الحرب، نشب المنجل في حبل من حبال سفينة العدوّ وتعلّق به. فأخذ ستيلاووس يحاول نزعه منه فلم يفلح. وحينما تجوارت السّفينتان، جعل ستيلاووس يجري من أقصى السّفينة إلى أقصاها ممسكا بالرّمح؛ ثمّ إنّه لمّا أخذت سفينة العدوّ تفارق سفينته و تجرّه معها وهو ممسك برمحه، جعل الرّمح ينسلّ من يده شيئا فشيئا حتّى صار لا يمسك به إلاّ من طرفه الأخير. حينئذ أخذ الّذين كانوا على سفينة العدوّ بالتّصفيق والقهقهة، ثمّ أخذ واحد منهم حجرا فقذفه به فوقع بين رجليه، وهنالك أطلق ستيلاووس الرّمح من يده؛ فلم يملك ركّاب السّفينة الّتي عليها ذلك الجنديّ أنفسهم من الضّحك لمّا رأوا أنّ الرّمح ومعه المنجل قد بقي معلّقا في سفينة العدوّ. فإنّه قد يكون لهذا الفنّ فائدة من الفوائد كما قد زعم نيسياس، أمّا أنا فقد بسطت رأيي.

VIII- فأعيد عليك ما قلت أوّلا: إنّ هذا الفنّ قد يكون علما ذا منفعة قليلة، وقد لا يكون علما البتّة، فمهما زُعِمَ بكونه علما بحقّ، ومهما اُحْتِيلَ في إثبات ذلك، فلاكبير شأن له حتّى نستفرغ وسعنا في تعلّمه. وأنا لأظنّ ظنّا صادقا بأنّ الرّجل الجبان الّذي يعتقد كبير اعتقاد بمعرفته بهذا الفنّ فلن يظهر لنا منه إلاّ الجبن إذا جدّ الجدّ، وأنّ الرّجل الشّجاع، إذا لاحظه ناس كثير، فسيقدحون فيه كلّما أخطا الخطأ اليسير. وذلك لأنّ كلّ من يتبجّح بمعرفته بهذا العلم يجعل الآخرين يحسدونه حتّى أنّه إذا لم يكن مع زعمه بكونه كذلك ظاهر الشّجاعة عليهم ظهورا كبيرا، فلسوف يتّخذونه هزوّا لامحالة.

ذلك ما كان رأيي يا ليسيماك فيما منفعة هذا العلم. وكما كنت قد أسلفت لك في أوّل الكلام: إنّه لا يجب أن نترك سقراط الموجود بيننا يغادرنا حتّى نترجّاه بأن يُدْلِي هو أيضا بدلوه في هذا الموضوع.

ليسيماك
فلتقبل طلبنا ياسقراط بأبي أنت وأمّي، فأنت ترى بأنّ هذه المباحثة لا بدّ لها من حكم يفصل فيها. إذ لو كان نيسياس ولاكاس قد اجتمعا على رأي واحد، ربّما لم نكن ذا حاجة إلى رأي ثالث، أوكنّا ذا حاجة يسيرة. ولكنّك قد رأيت بنفسك كيف كان لاكاس قد ذهب مذهبا مغايرا كلّ المغايرة للّذي ذهب إليه نيسياس. فإذن لمن الحريّ أن نسمع رأيك حتّى نتبيّن أيّ الرّجلين أحقّ بمبايعتنا لقوله.

سقراط
IX_ واعجبي يا ليسمكاك؛ أفأنت إنّما تريد أن تتّبع الرّأي الّذي يكون معه أكثر النّاس؟
ليسيماك
أوهل لنا من سبيل غيره ياسقراط؟
سقراط
وأنت يا ميليسياس، أ توافقه على ذلك؟ فلو أنّ الكلام كان يدور مثلا في أمر الرّياضة وفي أمر التّمرينات الّتي لابدّ لابنك أن يفعلها، أفكنت ستستفتي أكثر النّاس أم إنّك إنّما تستفتي كلّ من كان قد تعلّم الرّياضة وكان قد علّمه إيّاها معلّم بارع.
ميليسياس
وهل في هذا شك بأنّي إنّما سأستفتي من كان قد تعلّم الرّياضة.
سقراط
وإنّك لسوف تفوّض أمرك إليه أكثر من أنّ تفوّضه إلينا نحن الأربعة.
ميليسياس
غير شكّ.
سقراط
فالرّأي عندي أنّه إذا أردنا أنّ نحكم حكما جيّدا، فليس بالكثرة ننال ذلك، بل بالعلم.
ميليسياس
إنّه بالعلم حقّا.
سقراط
إذن فهاهنا أيضا فلابدّ أن نبدأ بالبحث إن كان فينا من قدمه راسخة في الأمر المفحوص عنه. وإن وجد هذا الخبير، فلزام علينا حينئذ أن نسمع له، ولو لم يكن إلاّ فردا واحدا، وأن نضرب صفحا ونطوي كشحا عن غيره جميعا. وإن لم يوجد، فلابدّ أن نبحث في مكان آخر. ولاجرم أنّك ياليسماك، وأنت يا ليسيماس لتدركان بأنّ الأمر لحقيق بكلّ هذا الاحتراز، إذ هو ليتعلّق بأعزّ الأشياء لديكما. وأنتما لتعلمان بأنّه إذا صلح الابن صلح المنزل، وإن لم يصلح الابن لم يصلح المنزل: وهذا الصّلاح أو الطّلاح في الابن إنّما هو لازم كلّ اللّزوم للتّربية الّتي نالها.
ميليسياس
لقد صدقت.
سقراط
لذلك فلابدّ من الاحتياط احتياطا كبيرا.
ميليسياس
إنّه لابدّ.
سقراط
وحينئذ، إنّنا إذا رجعنا لموضوعنا الأوّل ورغبنا في أن نعرف أيّ رجل من بيننا حقيق أن يستأثر بسماع النّاس له في أمر المصارعة، فغير شكّ أنّ هذا لن يكون إلاّ من كان قد تعلّم المصارعة ومارسها، وكان له معلّمون بارعون فيها.
ميليسياس
الأرجح هو هذا.
سقراط
وقبل أن نبدأ البحث في هذا الرّجل، أليس الأجدر أن نبدأ أوّلا بتبيّن ما هذا الفنّ الّذي إنّما من أجله كان قد طُلِبَ معلّمون له؟
ميليسياس
ما معنى ذلك؟
سقراط
X_ لعلّ بهذا سيصير الأمر أكثر بيانا. إذ نحن لم نصطلح أوّلا في أيّ شيء هو الموضوع الّذي نبحث فيه وكنّا نطلب لأجله معرفة أيّ منّا هو أهل لأن يعلّمه وكان قد اتّخذ معلّمين فيه، وأيّ منّا ليس بأهل.
نيسياس
واعجبي يا سقراط، أليس الموضوع إنّما هو المحاربة بالسّلاح؟ أولم نكن نبحث في إن كان لابدّ للفتيان أن يتعلّموه أو لا؟
سقراط
إنّه لكذلك يا نيسياس. ولكن حين يُسْأَلُ عن مرهم للعين إن كان يجوز أن يداوى به أم لا، أفسنأخذ بالبحث في الدّواء أم في العين؟
نيسياس
بل في العين.
سقراط
وكذلك إن سُئِل إن كان ينبغي أن نضع حَكَمَةً للفرس أو لا نضع، ومتى توضع، فموضوع البحث إنّما هو الفرس، وليس الحكمة.
نيسياس
غير شكّ.
سقراط
فإذن إنّه ينبغي أن ننظر إن كان الّذي يفتينا لهو أهل لأن يقوم على هذا الشّيء الّذي من أجله إنّما نبحث هذا البحث.
نيسياس
إنّه ينبغي حقّا.
سقراط
وأنت تعلم أنّا هاهنا إنّما نبحث في العلم الّذي هو لأجل نفوس الفتيان الشبّان.
نيسياس
إنّي أعلم.
سقراط
حينئذ فينبغي أن نبحث في أيّ منّا لأهل لأن يفحص عن النّفس، ولأن يزكّيها وكان له فيها معلّمون جيّدون.
لاكاس
واعجبي يا سقراط، أما لقيت قطّ رجالا قد بذّوا في صناعات ولم يكن لهم معلّمون فيها؟
سقراط
لقد لقيت يا لاكاس؛ ولكن هؤلاء وإن أقسموا لك بالأيمان المغلّظة بأنّهم لصنّاع بارعون، فإنّك لن تفوّض أمرك لهم إلاّ إن أروك أعمالا لهم جيّدة غاية الجودة.
لاكاس
لقد صدقت يا سقراط.
سقراط
XI_ وعلى هذا، فنحن أيضا، يا لاكاس ويا نيسياس، فلمّا كان ليسيماك وميليساس قد عزما علينا أن نبحث في أمر ابنيهما، وكان يرغبان رغبة شديدة في أن تصير نفسيهما زكيّة غاية الزّكاة، فهو فرض علينا، إن زعمنا لهما أنّا قادرون على ما يطلبون، أن نصف لهما المعلّمين الّذين أفادونا، وأن نبيّن لهم أوّلا كيف هم كانوا أولي فضل، ثمّ كيف زكّوا نفوسا فتيّة كثيرة، ثمّ كيف أورثونا نحن أنفسنا علمهم هذا. أمّا لو قال قائل منّا بأنّه لم يكن له معلّم، وبأنّه لقادر أن يذكر آثارا له زكيّة، فلابدّ حينئذ من أن يرينا في أهل أثينا أو الغرباء، أو العبيد، أو الأحرار، من يُجْمِعُ النّاس فيه بأنّه قد صار فاضلا لتعليمه هو إيّاه. وإن امتنع كلّ هذا، ففرض علينا أن ننصح هذين الصّاحبين بأن يطلبا المشورة ليس منّا بل من غيرنا حتّى لا نحتمل إثم إفساد ابنيهما، وإفساد فلذات أكبادنا.

أمّا عن نفسي، يا ليسيماك ويا ليسياس، فإنّي أوّل المعترفين لكما بأنّه لم يكن لي قط معلّم في هذا الفنّ. ومع ذلك فقد انشغلت كثيرا بالبحث فيه منذ أيّام الشّبيبة. ولكنّي لم أكن ذا كفاية من المال حتّى أتعلّم من أهل السّفسطة الّذين كانوا يزعمون بأنّهم وحدهم هم القادرون على أن يجعلوني رجلا فاضلا. ولم أكن أيضا قادرا على أن أجده بنفسي. أمّا أن يكون نيساس أو لاكاس قد وجدا هذا الفنّ أو تعلّماه، فليس عندي بالعجيب. إذ هما ذوا يسار فلهما المال الّذي يدفعانه لمعلّميهما، وهما يكبراني سنّا، فلاجرم أنّهما قد سبقانني في معرفة هذا الفنّ. كذلك فأنا لا أنازع في أنّهما لقادران على أن يعلّما الفتيان الشبّان. إذ لو لم يكونا واثقين من قدرتهما، ما كانا يتكلّمان بجرأة في الأعمال النّافعة للفتيان، والأعمال الضارّة لهم. إذن فأنا أفوضّ أمري لهما في كلّ الأشياء. لكنّ الّذي حيّرني هو تنازعهما.

لذلك فهذا طلبي إليك يا ليسيماك. فآنفا كان لاكاس قد حضّك على ألاّ تدعني حتّى تسألني. أمّا الآن فأنا من يحضّك على ألاّ تدع أبدا لاكاس ولا نيسياس حتّى تسألهما. وقل لهما بأن سقراط ليقسم بأنّه لادراية له البتّة بهذا الأمر، وأنّه لعاجز على أنّ يتبيّن أيّ الرّجلين كان صدق، لأنّه لا هو معلّم، ولا كان تلميذا لمعلّم من المعلّمين في هذه الأمور. فيا لا كاس ويا نيسياس، هلاّ صدقتماننا القول وأخبرتمانا عن هذا المعلّم الألمعيّ في التّربية الّذي كنتما قد أفدتما منه، أم أنّكما قد حصلتما على هذه المعرفة بنفسيكما. فإن كنتما قد أخذتموها من غيركما، فمن كان معلّمكما إيّاها، وهل تعرفان معلّمين آخرين يعلّمون الفنّ نفسه، إذ أنّه ربّما منعكما انشغالكما بمصالح النّاس بأن ترعيا لنا أو لابنيكما، فنلوذ بهم، ونستلطفهم بأنواع من العطايا والخلع حتّى يهتمّوا لأبنائنا وأبنائكما، فينشأوا كرماء، ولا يُلْحِقُوا العار بأجدادهم أهل المجد، ويكونوا من الرعيّة الطّالحة. أمّا إن كنتما بنفسيكما إنّما وقفتما على هذا الفنّ، فاذكرا لنا أمثلة من الّذين نفعتهم عنايتكما لهم، وكانوا صاروا عبادا صالحين بعد أن قد كانوا طالحين. إذ أنّه إن كنتما إنّما اليوم ستسعيان أوّل سعي في التّربية، فلتعلما بأنّ هذا الفعل العظيم ليس يتعلّق بنفس من سَقَطِ المَتَاعِ، بل بنفوس ابنيكما وأبناء أحبابكما، لذا فلتحذرا من أن تقعا في كما يصف المثل: إنّه لا يُبْدَأ في صناعة الفخّاريّ بصنع جرّة. إذن فأيّ الأمرين تريانهما فيكما.
هذا ما يكون حقّك أن تسألاهما فيه، يا ليسيماك، قبل أن تدعهما يفارقاننا.
ليسيماك
XII_ إنّي أرى يا إخواني أنّه قد صدق سقراط. والأمر أمركما يا نيسياس ويا لاكاس، إن شئتما سُئِلْتُمَا وأجبتما في هذه الأمور الّتي تشغلنا الآن، وإن لم تشاآ، فلا ضير. أمّا أنا وميليسياس، فكم سنكون مغتبطين لو رضيتما بأن تُحَرِّرَا لنا رأيكما في كلّ ما سوف يسألكما عنه سقراط. إذ أنا في أوّل الكلام كنت قد ذكرت لكما بأنّنا ما دعوناكما لهذه المراجعة إلاّ لظنّنا بأنّكما لاجرم أن تكونا قد نظرتما في هذا الأمر لكون ابنيكما كابنينا هما في سنّ التّربية والتّعليم. لذا، فما لم تتحرّجا، فلتفحصا وسقراط في هذا الموضوع، ولتتناظروا فيه. إذ هذه المراجعة لعمري، إنّما تتعلّق بأعظم ما لنا من خير.
نيسياس
إنّه تمّ يقيني الآن، يا ليسيمكاك، بأنّك لم تعرف سقراط بحقّ إلاّ من أبيه، وأنّك لم تلاقه إلاّ لمّا كان صغيرا، حين يعرض لك أن تراه إمّا مع والده بين أهل دامه وقد اقترب منك، أو في المعبد، أو في مجلس آخر من مجالس الدّام الّذي إليه نسبتك. أمّا من حين أن بلغ أشدّه، فبيّن أنّك لم تلاقه قطّ.
ليسيماك
ولأيّ شيء ذكرت هذا يانيسياس؟
نيسياس
XIII_ لأنّي أراك كأنّك تجهل أنّ كلّ امرئ عرف سقراط إمّا بالمحاورة أو بالرّحم، واقترب منه لأجل الحديث في أيّ موضوع قد اختاره هو، فلا مناص له من أن يلفى نفسه وقد ساقه الكلام معه إلى أن يبوح إليه بأسرار نفسه، وبأسرار حياته اليوم، وحياته الماضية؛ ومتى يبلغ به الحديث هذا المقام، فسقراط لن يطلقه أبدا حتّى يبلو كلّ ما كان سيقوله. فأنا قد اعتدت على طريقته تلك وأعلم حقّ العلم أن لا مفرّ لأحد ولا لي أيضا من أن يُسْلَكَ به، معه، هذا المسلك. فأنا لأحبّ الدنوّ من سقراط ياليسيماك، ولا أرى عارا البتّة في أن يحاسب المرء نفسه وينظر فيما كان قد فعل من شرّ، أو فيما مازال يفعل الآن. بل إنّي أرى أنّ المرء ليصبح حتما أكثر تفطّنا لعواقب الأمور ما لم يَقِلْ نفسه عن المحاسبة، وما قرّ عنده، كما يقول سُلُون، أن يتعلّمنّ ماعاش، ولا يتوهمّنّ أن الرّشاد إنّما يكتسبه المرء اكتسابا طبيعيّا حين يزيد سنّه. وفي كلّ الأحوال، فأنا لا أستغرب من أن يبلوني سقراط، ولا أتحرّج منه، وإنّي لأعلم سابق العلم بأنّ هاهنا هو لن يجعل المباحاثات تتعلّق بأمر الفتيان الشبّان، بل هو سيصرفها إلى الحديث عن أنفسنا نحن. فأعاود بالتّذكير: إنّي لا أرى حرجا البتّة في أن يسلك سقراط بحوارنا هذا كما قد يشاء. ولكن لنر أوّلا ما رأي لاكاس في هذا.
لاكاس
إنّ رأيي في هذا الجنس من المحاورات يانيسياس هو بسيط، بل إنّه مركّب. فلك أن تظنّ فيّ أنّي من أنصاره، ولك أن تظنّ فيّ أنّي من أعدائه. فأنا حين أسمع رجلا كريما حقّا يتكلّم في مكارم الأخلاق، أو في علم من العلوم، ولا يكون ممّن أفعاله إنّما تكذّب أقواله، فأنا لَأفرح فرحا كبيرا لِمَا أرى من ملاءمة كلام الخطيب للخطيب. فهذا الرّجل، هو عندي لأبرع موسيقيّ يؤلّف أعظم الألحان، إلاّ أنّ آلتها، ليست القيثارة، ولا آلة أخرى من آلات اللّهو، بل نفس مواظبة هذا الرّجل على أن تكون أقواله دائما تصدّقها أعماله، وإيقاع هذا اللّحن لا يكون على النّمط الأيّونيّ، ولا على النّمط الفيرجيّ، ولا على النّمط اللّيديّ، بل على النّمط الدّوريّ الّذي هو الوحيد النّمط الإغريقيّ القحّ بلا مدافع. فليس على مثل هذا الرّجل إلاّ أن يتكلّم حتّى أطرب طربا شديدا، وتُرى عليّ سيما من يعشق الكلام من فرط ما أكون ألتذّ حديثه. أمّا إن كان المتكلّم على ضدّ صفة هذا الموصوف، فهو يضجرني، ويزداد ضجري منه بقدر ما يزيّن كلامه أكثر، حتّى أنّي قد تُرى عليّ سيما من يكره الحديث.

أمّا سقراط، فلا أعلم كيف حديثه، لكنّه، كما قلت آنفا، كان قد ظهر لي فضله من فَعَاله فثبت عندي أنّه لأهل لأن يقول كلاما طيّبا بصدق تامّ. لذا فلو صحّ أنّ فيه هذه الخصلة أيضا، فلن أنكرها عليه، بل سأسلّم نفسي له حتّى يمتحنني، ولن أجد غضاضة أبدا في أن أتعلّم منه. إذ أنا هنا لأتّبع كذلك نصيحة سولون، بعد بعض التّصحيح لها، فإنّي لا استنكف من أن أتعلّم أمورا كثيرة على الكبر، ولكن إلاّ إذا سمعتها من رجل فاضل فقط. فإمّا أن يكون المعلّم رجلا فاضلا، أو إنّي سأسمعه على كره فيراني النّاس وكأنّي سخيف العقل. وليس يضيرني بعد هذا أن يكون المعلّم أصغر منّي سنّا ، أو أن يكون غير مشتهر بين النّاس، أو أن يكون به نقص آخر. فهلا رضيت إذن، ياسقراط في أن تعلّمني وأن تفحصني، ولك أن تعلم منّي كلّ ما أعلمه. إنّك قد صرت مبجّلا في نفسي منذ ذلك اليوم الّذي ثبتّ فيه معي في ساحة الموت، حيث ظهر فضلك حقّ الظّهور، وحقّقت أنّه لَفَضْلٌ صادق وليس فضلا زورا. فلتتكلّم كما بدا لك، ولا تتحرجنّ أبدا من سنّنا الكبير.
سقراط
XV_ لا جرم أنّكما قد تنزّهتما عن أن توصما بأنّكما لتتواريان من المناظرة، ومن الفحص الّذي نروم إتمامه معكما.
ليسيماك
ذلك ما نحن فاعلوه ياسقراط، فأنا لأعدّك كأحد منّا. فخذ مكاني لتنظر في أمر ذينك الفتيين اليافعين، وحقّق في الأسئلة الّتي لابدّ أن نسألها هذين الرّجلين، وحاورهما وراجعهما. لأنّي اليوم لكبر سنّي، فقد نسيت أكثر الأسئلة الّتي كنت أحبّ أن أسالها، وصرت إذا أكون في حوار، ويُقْطَعُ نسق الحديث بكلام غيره، فإنّي أنسى كلّ ما كنّا فيه آنفا. فالتتراجعوا إذن ولتتحاوروا في الأمر المذكور. أمّا أنا، فسوف أسمعكم، وبعد أن أتمّ سماعي لكم، فإنّي لعامل ومعي ميليساس بما سوف يصحّ عندكم بأَخَرَة.
سقراط
إنّه لابدّ يا نيسياس ويا لاكاس من أن نفعل ما طلبه منّا ليسيماك وميليسياس. لقد كنّا آنفا نخوض في معرفة أيّ معلّمين لنا كانوا قد علّمونا فنّ التّربية، وأيّ تلامذة كنّا قد هذّّبناهم، ونحن لو أتممنا هذا البحث، لكان لامحالة نافعا لنا. لكن هناك طريق آخر غيره، يبلغنا الغاية نفسها، وهو الأفضل في فحص المسألة من أوّلها. فلو فُرِضَ أنّا نعلم بأن شيئا ما إن اتّصف به موضوع ازداد فضيلة، ولو فرض أنّا لقادرون أيضا على جعله متّصفا بذلك الشّيء، فبيّن أنّا نكون نعرف هذا الموضوع الّذي يُطْلَبُ فيه ما أيسر السّبل لاكتسابه. وإذ أنتم قد تكونون لم تتبيّنوا قصدي، فسأزيد الأمر شرحا.

إنّا نعلم بأنّ العينين ليصلح حالهما متى وجد فيهما البصر، فلو كنّا نحن من يقدر على أن يجعل لهما البصر، فبيّن أنّا نكون نعرف ما البصر نفسه الّذي سوف يطلب منّا فيه ما أيسر السّبل لاكتسابه وأحسنها. إذ لو كنّا لا نعلم ما البصر، ولا ما السّمع، فسيعسر علينا جدّا أن نقول بأنّا لأهل معرفة كبيرة، وطبّ عظيم بالعيون والآذان حين يطلب منّا ما أيسر السّبل وأحسنها لاكتساب السّمع والبصر.
لاكاس
لقد صدقت يا سقراط.
سقراط
XVI_ أو ما ترى يا لاكاس أنّ الأمر هنا لهو كذلك؛ فهذان الرّجلان قد طلبا منّا أن نبحث في أيّ السّبل الّتي تجعل ابنيهما صالحين ببذر الفضيلة في نفسيهما.
لاكاس
إنّه لكذلك.
سقراط
إذن فلابدّ أن نحصّل أوّلا حقيقة ما الفضيلة؟ إذ كيف لنا أن ندلّ أيّا كان على أحسن السّبل حتّى يكتسب الفضيلة ونحن لانعرف أيّ معرفة ما حقيقتها؟
لاكاس
بحقّ إنّ هذا لمحال، يا سقراط.
سقراط
لقد قلنا إذن يا لاكاس، بأنّا لنعرف ما الفضيلة.
لاكاس
نعم لقد قلنا.
سقراط
وإن علمنا شيئا استطعنا بالاضطرار أن نقول ما هو؟
لاكاس
بالاضطرار.
سقراط
ألا أيّها الصّديق المخلص، الرّأي عندي ألاّ ننظر الآن في الفضيلة في العامّ، لأنّ ذلك سيكون عملا جدّ عسير. بل لنقتصر أوّلا على جزء من أجزائها، ولنر إن كنّا محصّلين لحقيقته حقّ التّحصيل. ولا ريب بأنّ هذا الفحص سيكون أيسر علينا ممّا لو بحثنا في الفضيلة في العامّ.
لاكاس
لتفعل ما بدا لك يا سقراط.
سقراط
والآن أيّ جزء من الفضيلة لنا أن نختار؟ لا ريب أنّه الجزء الظّاهر نسبته إلى السّلاح. وفي المشهور إنّه الشّجاعة، أم لك حكم آخر؟
لاكاس
بل في المشهور إنّه الشّجاعة.
سقراط
إذن فلنشرع أوّلا يا لاكاس بحدّ الشّجاعة، ثم لنر بعدها كيف يمكن أن نعلّمها الفتيان الشبّان على تقدير أنّ التّمرينات والدّرس يمكن أن تنفع في ذلك. أفلا تجبني عن سؤالي هذا: ما الشّجاعة؟
لاكاس
XVII_ وحقّ الآلهة يا سقراط، إنّ الجواب عن هذا السّؤال لهيّن. فأيّ رجل يوطّن النّفس على أن يثبت لعدوّه ولا يُوَلِّهِ دبره فارّا من الزّحف، فلا ريب إنّه لرجل شجاع.
سقراط
نِعَمَّا ماقلت يا لاكاس، ولكن قد يكون بسبب أنّني قد أسأت بسط المسألة فأنت قد أجبتني عن أمر غير الّذي كنت أقصده بالسّؤال.
لاكاس
و كيف هذا يا سقراط؟
سقراط
هاك بياني لك بقدر الطّاقة. لا ريب أنّ الرّجل الّذي ذكرت لأنّه لا يزول عن موقعه، ويقارع عدوّه فهو رجل شجاع.
لاكاس
إنّه رجل شجاع.
سقراط
إنّه لَرجل شجاع. ولكن ما تقول في رجل قد يقاتل عدوّا من غير أن يثبت في موقعه، و يولّيه دبره؟
لاكاس
أي يقاتله وهو يفرّ؟
سقراط
نعم، كما يفعل السّيتيّون مثلا، إذ يُقال عن هؤلاء أنّهم لبارعون في قتال عدوّهم سواء حين زحفهم أو حين فرارهم. وهوميروس أيضا كان قد امتدح في موضع من شعره، خيول أنّيوس لمعرفتها الجيّدة بالعَدْوِ عَدْوًا سريعا في الجهتين الاثنتين، جهة الاندفاع، وجهة الفرار، وقد رفع كذلك ذكر أنّيوس نفسه لهذه الخصلة وهي براعته في الفرار، وقال إنّه ليعلم متى ينبغي أن نفرّ.
لاكاس
وقد صدق في قوله يا سقراط؛ لأنّه إنّما كان يتكلّم عن العربات، كما أنت قد تكلّمت عن الفرسان السّيتيين. ومعلوم أنّ الفرسان السّيتيين كانت تلك طريقتهم في القتال، أمّا المشاة اليونان فأكثرها إنّما طريقتهم كالّتي ذكرت.
سقراط
ولكن ألا تستثني منهم اللاّسديمونيين، يا لاكاس؟ فقد حُكِي أنّهم حين قابلهم القرّيبيّون في موضع بلاتي، وقضوا بأنّهم لن يقدروا على مناجزتهم مواجهة، ولّوهم الأدبار، فلمّا تبيّنوا أنّ خطوط الفرس قد انتقضت، عطفت عليهم المشاة، وعطفت معها الفرسان، فكان الظّفر لهم.
لاكاس
أعلم بهذه الحادثة.
سقراط
XVIII_ إنّي قد قلت آنفا، إنّك إن أسأت الجابة، فالذّنب ذنبي لأنّي قد أسأت بسط السّؤال. إذ ما أريد أن أعرفه منك إنّما أن تقول لي ما الشّجاعة، ليس فقط عند المشاة، بل وأيضا عند الفرسان، وفي الجملة عند كلّ محارب، بل ليس فقط عند كلّ محارب، بل عند كلّ إنسان ركب خطر البحر، أو بقي رابط الجأش في الفقر، وفي مهالك السّياسة؛ ولي أن أزيد أيضا، بل ليس فقط عند الّذين صبروا صبرا جميلا في الألم والخوف، ولكن أيضا عند الّذين جاهدوا خير المجاهدة شهوات النّفس وأهواءها؛ فأنت يا لاكاس، لا جرم أنّك لا تعارض في أنّ هؤلاء هم أيضا لَشجعان.
لاكاس
بل هؤلاء لعلى الغاية من الشّجاعة.
سقراط
إذن فهؤلاء النّاس جميعا هم شجعان، فمنهم الشّجاع في صبره على اللّذّات، ومنهم الشّجاع في صبره على الألم، ومنهم الشّجاع في مجاهدة الشّهوات، ومنهم الشّجاع في مواضع الخشية والخوف. ولكن أنت لا تنازع في أنّه هناك من في تلك المواطن لَيظهر الجزع و ضعف الفؤاد.
لاكاس
إنّي لا أنازع.
سقراط
وطلبي إنّما معرفة ما كلّ صفة من تينك الصّفتين؟ فلنبدأ بالشّجاعة، ولنرجع بالفحص في بيان أيّ شيء واحد و مشترك في كلّ تلك الأمثلة. أأزيد السّؤال توضيحا، أم إنّك قد تحقّق لك معناه؟
لاكاس
بل زده لي توضيحا.
سقراط
XIX_ إنّي سأشرح مقصودي بطريق آخر. فلو أنا كنت قد سألتك مثلا ما السّرعة الّتي نجدها في العَدْوِ، وفي ضرب القيثار، وفي الكلام، وفي التعلّم، وفي أشياء أخرى كثيرة، و في كلّ عمل ذي معنى، سواء كان عملا بالأيدي، أو بالسّاقين، أو بالفم، أو بالصّوت، أو بالعقل.. فلاجرم أنّ فهمك وفهمي لهذه العبارة سيكونان فهما واحدا.
لاكاس
إنّهما فهم واحد.
سقراط
إذن فأنا لو كنت قد سُئِلْتُ هكذا: أعزّك الله ياسقراط، هلاّ أخبرتنا عمّا تفهمه من عبارة السّرعة الصّادق إطلاقها على كلّ هذه الأمثلة؟ فسأجيب: السّرعة هي القوّة على فعل أشياء كثيرة في زمن قصير، سواء كان الفعل فعلا بالصّوت، أو عدوا، أو أمرا آخر.
لاكاس
وستكون قد أجبت بالصّواب.
سقراط
وهنا أيضا يا لاكاس، لتجتهد حتّى تَحُدَّ الشّجاعة. لتقل لنا أيّ شيء هذه القوّة المطّرد وجودها في اللذّة، وفي الأسى، وفي كلّ الأمثلة الّتي ذكرنا أنّها موجودة فيها، و سمّيناها بالشّجاعة.
لاكاس
إنّا لو طلبنا أن نحدّ طبيعة الشّجاعة في كلّ الأمثلة الموجودة فيها، فلنا أن نقول: إنّها ضرب من الحزم في الفؤاد.
سقراط
نعم ذلك ما ينبغي أن نفعله متى طلب الجواب عن سؤالنا. أمّا أنا فذا رأيي: أفلا ترى أنّه ليس كلّ حزم فهو شجاعة؟ فأنت يا لاكاس لا ريب أنّك إنّما تعدّ الشّجاعة شيئا محمودا.
لاكاس
بل إنّها لمن أحمد الأشياء بلا خلاف.
سقراط
أفلا ترى أنّ الحزم حين يقترن بالرّشد إنّما يكون محمودا وحسنا؟
لاكاس
إنّي أراه.
سقراط
وإذا اقترن الحزم بالخبل، فسيكون ضارّا ومهلكا.

لاكاس
إنّه سيكون ضارّا ومهلكا.
سقراط
وأنت، بلا ريب، لن ترضى بأن ننعت شيئا ضارّا ومهلكا بالمحمود.

لاكاس
فإنّا إذا سنكون نَهجر يا سقراط.
سقراط
وإذ كانت الشّجاعة محمودة، وهذا الضّرب من الحزم مذموم، فأنت إذًا تنكر أن يكون هذا الحزم هو المقصود بعنوان الشّجاعة.

لاكاس
إنّي لأنكر حقّا.
سقراط
فيلزم إذن، على قولك، أنّ الشّجاعة هي الحزم الرّاشد.

لاكاس
هذا ما بدا لي.
سقراط
XX_ ولننظر الآن في أيّ الأمور تكون الشّجاعة راشدة. أفتكون راشدة بالقياس إلى كلّ الأشياء الكبيرة أو الصّغيرة؟ فمثلا إذا رجل أظهر الحزم في انفاق ماله، وهو يعلم أنّه إن أنفقه فسيكسب به مالا أكثر، أفنسمّي هذا الرّجل بالشّجاع؟

لاكاس
وحقّ الآلهة، إنّا لا نسميّه شجاعا.
سقراط
أو إذا طبيب استسقاه أو استطعمه ابن له أو شخص آخر يكون مريضا بالتهاب الرّئة، فلا يفتر حزمه، ولا يجيبه لما طلب، أفنسميّه بالشّجاع؟
لاكاس
ولا هذا الحزم يوصف البتّة بالشّجاعة.
سقراط
ولتحكم الآن في رجلين أيّهما أشجع من الآخر، رجل لم يضعف فؤاده ووطّن العزم على المحاربة لأنّه تبيّن له بعد تقليب الأمور والنّظر فيها بعقله، بأنّ له إخوانا سينصرونه، وبأنّ العدوّ أقلّ منهم جندا وأردأ عُدَّةً، وبأنّ المكان الّذي أقاموا فيه أنفع لهم في الحرب من الّذي أقام فيه العدوّ، أم رجل من جيش العدوّ يكون قد وطّن النّفس على أن يصدّ عدوّه صدّا حازما؟

لاكاس
إني أرى ياسقراط بأنّ الرّجل الّذي من جيش العدوّ هو الأشجع.
سقراط
وأنت تعلم بأنّ حزمه لَأقلّ رشدا من حزم الأوّل.

لاكاس
إنّي أعلم.
سقراط
وحينئذ، فأنت ترى أيضا أنّ الّذي يقاتل فوق فرسه بثبات فإن كان ذا معرفة بالفروسيّة، فهو أقلّ شجاعة ممّن يقاتل بثبات فوق فرسه ولا كثير علم له بالفروسيّة.
لاكاس
ذلك الرّأي عندي.
سقراط
وأنت تطرد هذا في الرّجل الّذي يحذق استعمال المرجام، أو القوس، أو آلة أخرى من الآلات.

لاكاس
بلا ريب إنّي أطرده.
سقراط
وإذا تعلّق الأمر بالنّزول إلى البئر والغوص فيه، فالّذي يرغب في أن يركب هذا المحذور أو غيره من قبل أن يكون قد تمرّن فيه تمرّنا ملائما، فأنت تقول بأنّه لأشجع من الّذي يرضى ركوبه من بعد ما يكون قد تمرّنا تمرّنا لائقا؟

لاكاس
فهل لنا أن نقول قولا آخر، يا سقراط؟
سقراط
بل إنّا متى سلّمنا بما قد سلّمت فلايجوز لنا أن نقول غير هذا القول.

لاكاس
إذن فاليكن الحكم كما قلت.
سقراط
فالحزم الّذي لهؤلاء في أن يلقوا بأنفسهم للتّهلكة هو أقلّ رشدا من حزم الّذين لا يندفعون في شيء إلاّ بحسب أصول صناعيّة.

لاكاس
غير شكّ.
سقراط
ولكن آنفا نحن قد قلنا بأنّ الجراءة، والحزم إذا كانا عاريين من الرّشد، فهما قبيحان وضارّان.
لاكاس
لقد قلناه.
سقراط
فنحن إذن لم نحسن الفحص يا لاكاس.
لاكاس
نعم إنّا لم نحسن الفحص يا سقراط.
سقراط
XXI _ إذن فأنا وأنت، يا لاكاس، قد أخفقنا بلا ريب في أن نجعل ذلك الائتلاف الدّوريّ الّذي ذكرته يصحّ فينا. وذلك لأنّ أفعالنا ماوافقت أقوالنا، إذ قد يُظَنُّ من أفعالنا أنّا لَشجعان حقّا، وإن سُمِعَ كلامنا، فسيُظَنُّ بأنّا لسنا بشجعان.
لاكاس
لقد قلت حقّا.
سقراط
أو ما ترى إِلاَمَ صار أمرنا؟
لاكاس
بلى، لقد صار إلى السّوء.

سقراط
لذا فهلاّ رضيت بأن نعمل بما كنّا قلناه على الأقلّ في أمر ما؟
لاكاس
وما هذا الأمر وهذا الكلام؟
سقراط
إنّه الكلام الّذي يأمرنا بأن نتحلّى بالحزم. لذا فهلاّ رضيت بأن نمضي في فحصنا هذا بحزم قويّ لئلاّ تسخر منّا الشّجاعة نفسها حين ترانا كيف جبنّا عن الفحص فيها، على تقدير صحّة كون الحزم والشّجاعة قد يشتركان في الحقيقة.
لاكاس
أمّا أنا، فإنّي أعدك يا سقراط بالصّبر، وإن لم أعتد على هذا الضّرب من الكلام. بل لقد استأثر بي حبّي الحديث في هذا الأمر وإنّي لضائق صدري من عِيِّي على أن أقول بلساني ما يرى ذهني. فيشبه أنّي إنّما لي صورة أيّما بيّنة في حقيقة الشّجاعة؛ ولكنّي ما أعرف لِمَ كانت قد ذهبت عنّي آنفا حتّى أنّي قد عجزت عن أن أذكرها في عبارة أو أحدّها.
سقراط
أيّها الأخ الكريم، ألا تعلم أن القنّاص الماهر لايجوز له أن يني في طلب طريدته؟
لاكاس
بلى إنّي أعلم.
سقراط
أفترى من حرج لو دعونا نسياس ليشاركنا في القنص؟ فلعلّه كان أعلم منّا.
لاكاس
كلاّ إنّي لا أرى حرجا البتّة.
سقراط
_XXII أي نسياس أما ترى إخوانك كيف تتقاذفهم أمواج الحديث المضطربة، وقد صاروا يجهلون أيّ طريق يتّخذون: فلْتُقْبِلْ لنجدتهم إن كنت ذا قدرة. فأنت ترى أيّ حرج نحن فيه. ألا لتقل لنا ما الشّجاعة عندك حتّى نسلم من هذا الحرج، ولتُفْصِحْ عن رأيك نفسه بعبارة بيّنة.
نيسياس
الرّأي عندي ياسقراط أنّك منذ قليل ما حددت الشّجاعة حدّا مطابقا، لأنّك قد تركت استعمال معنى صحيح كنت قد ذكرته آنفا.
سقراط
وما هو يانيسياس؟
نيسياس
لقد سمعتك مرّات كثيرة تقول إنّما المرء يكون دائما جيّدا في الأشياء الّتي له علم بها، وسيّئا في الأشياء الّتي يكون جاهلا بها.
سقراط
وحقّ الآلهة إنّ هذا لصحيح يانيسياس.
نيسياس
حينئذ فإن صحّ أنّ الرّجل الشّجاع هو جيّد، فهذا الرّجل هو عالم لا محالة.
سقراط
وأنت يا لاكاس، فهل سمعت ما قال؟
لاكاس
نعم إنّي سمعت، ولكنّ غاية هذا الكلام لم تظهر لي حقّ الظّهور.
سقراط
أمّا أنا، فقد ظهرت لي، فكأنّه يريد أن يقول بأنّ الشّجاعة إنّما هي ضرب من العلم.
لاكاس
وأيّ شيء هذا العلم ياسقراط؟
سقراط
إنّما نيسياس من كان حقّك أن تسأل هذا السّؤال.
لاكاس
إنّك صدقت.
سقراط
فهلاّ أنبأته يانيسياس، أيّ علم الشّجاعة عندك. إذ لايجوز، بلا ريب أن تكون، مثلا العلم بالعزف على النّاي.
نيسياس
بلا ريب.
سقراط
ولا أن تكون العلم بالضّرب على القيثارة.
نيسياس
ولا هذا أيضا.
سقراط
حينئذ فأيّ علم هي، وهي علم بأيّ شيء ليت شعري؟
لاكاس
ما أحذقك في السّؤال ياسقراط، ولا مناص لنيسياس من أن يقول لنا أيّ شيء هذا العلم عنده.
نيسياس
إنّ هذا العلم، يا لاكاس، هو العلم بالأشياء الّتي ينبغي أن نخشاها، والأشياء الّتي ينبغي أن نَجْرُأَ عليها، إمّا في زمن الحرب، أو في غير زمن الحرب.
لاكاس
أما ترى يا سقراط بأنّ هذا الحدّ لخَلف محض؟
سقراط
ولم هو خلف محض يالاكاس؟
لاكاس
إنّه خلف محض لأنّه من المعلوم أنّ هناك تفرقة بيّنة بين العلم والشّجاعة.
سقراط
ولكن نيسياس ليس ممّن يرى هذا الرّأي.
نيسياس
نعم يا سقراط، إنّي لست أراه وحقّ الآلهة، ولذلك فلاكاس إنّما يهذي.
سقراط
فأره الحقّ إذن يانيسياس، وتنزّه عن القذف.
نيسياس
إنّي ما قصدته بالقذف ياسقراط؛ ولكن لاكاس، فيما بدا لي، إنّما رام أن يصفني بالمهذار، لأنّه كان قد افتضح آنفا بهذره.
لاكاس
XXIII _ بل إنّك لتهذي يانيسياس، وماقلت هو خلف، وهذا دليلي: فأنت تعلم أنّ في الأمراض، إنّما الطّبيب الّذي له المعرفة بأيّ منها لا بدّ للمرء أن يخشاه. حينئذ فأنت بين خصلتين: إمّا أن تدّعي بأنّ كلّ رجل شجاع فعالم بما يخشى من هذه الأمراض، أوأن تدّعي بأنّ الأطبّاء هم رجال شجعان.
نيسياس
بل كلا الخصلتين كذب إطلاقا.
لاكاس
ولا الفلاّحون أيضا. ومع ذلك فهم ذو معرفة حقّ فيما ينبغي أن يُتَّقَى في صناعة الفلاحة. وكذلك الأمر في سائر الصّناعات كلّها. فأصحابها ليعلمون بما ينبغي أن يُتَّقَى وأن يُفْعل في صناعة صناعة. ومع هذا فلا واحد منهم قد يُسَمَّى بالشّجاع.
سقراط
فما عساك أن تجيب عمّا قال لاكاس يانيسياس. إذ ما اعترض به عليك يبدو وكأنّه اعتراض صواب.
نيسياس
إنّما يبدو أنّه اعتراض صواب، وليس هو اعتراضا صوابا.
سقراط
وكيف؟
نيسياس
وذلك لأنّه قد توهّم بأنّ علم الطّبيب ليس يقتصر فقط على معرفته ما الصّحيح وما العليل في الّذي يعالجه، بل قد يتعدّاها لأشياء أخرى، ولكن هو لا يتعدّاها. فأن تكون الصحّة قد تكون أشدّ وبالا على هذا الرّجل مثلا، من المرض، أكان الطّبيب، يا لاكاس، سيعلمه؟ إذ أنّك قد توافقني في أنّه ليوجد بشر كثير لأنفع لهم أن لا يشفوا من مرضهم من أن يشفوا. فأنت لا تنازع في أنّه ليس دائما من الصّالح لنا أن نحي، بل هناك أحوال كثيرة لَلْموت فيها خير من الحياة.
لاكاس
نعم هناك أحوال كثيرة للموت فيها خير من الحياة.
نيسياس
إذن فالّذين الموت عندهم غنيمة، أفستكون خشيتهم من نفس الأمور الّتي قد يخشاها الّذين الحياة عندهم نعمة؟
لاكاس
إنّهما خشيتان مختلفتان.
نيسياس
فمن الّذي له أن يعرف هذا الفرق بين الخشيتين الاثنين؟ أالطّبيب، أو رجل آخر ذو صناعة أخرى أم هذا الرّجل فقط العارف بما ينبغي أن يتّقى، وبما لاينبغي أن يتّقي، والّذي أنا إنّما أسمّيه بالرّجل الشّجاع؟
سقراط
أفقهت ما قال نيسياس يا لاكاس؟
لاكاس
نعم، وقد ظهر لي ممّا قال أنّه بالشّجعان إنّما يريد الكهّان؛ فمن غيرهم، ليت شعري، قادر على أن يعرف إن كانت الحياة أولى برجل من الموت. وأنت يا نيسياس أتدّعي بأنّك كاهن، أم أنّك تعترف بأنّك لا كاهن ولاشجاع.
نيسياس
واعجبي ! أفعندك هو الكاهن الّذي له العلم بما ينبغي أن يُخْشَى، وبما لا ينبغي أن يُخْشَى؟
لاكاس
نعم، وإلاّ فمن غيره؟
نيسياس
_XXIV بل من قصدته، أيّها الأخ الفاضل، لأعلى مقاما من الكاهن؛ فالكاهن إنّما قُصاراه أن يفرّق في علامات ما سيقع لبشر ما من موت أو مرض أو إفلاس، أو ظفر في الحرب، أو في كلّ جنس آخر من أجناس المنازلة، أو هزيمة. أمّا أيّ من هذه الأمور لأفضل للمرء أن تُقْسَم له، فما بالك تريد أن يكون الكاهن الّذي يقضي فيها، وليس أحدا غيره؟
لاكاس
أمّا أنا يا سقراط، فلم يظهر لي شيء ممّا أراد أن يقول نيسياس؛ فلا الكاهن، ولا الطّبيب ولا غيرهما بقادر على أن يحكم فيمن هو الشّجاع، اللّهم إلاّ إذا كان أبقى هذه القدرة لبعض الآلهة فقط. لذلك فأنا لعلى يقين من أنّ نيسياس إنّما قد جبن عن أن يعترف بأنّه لا يقول شيئا يُعْتَدُّ به، وأنّه ينتقل من وضع إلى غيره بلا هدى لئلاّ تنفضح حيرته. فنحن آنفا، أنا وأنت، كان يمكننا أن نشطح كشطحه، لو كنّا نريد أن نخفي شكوكنا. ونحن إنّما نكون معذورين في أن نفعل كذلك لو كنّا نحاكم عند القاضي؛ ولكن كيف سيليق بنا أن نتشدّق بألفاظ ليس تحتها معنى حتّى يظهر بعضنا على بعض، ونحن كلّنا من أهل الفضل وليس بيننا سفيه؟
سقراط
وأنا، يا لاكاس، ما أستحسن أيضا هذه الطّريقة في الكلام. ولكن لتعلم أنّ نيسياس إنّما يؤمن بما قال وهو بلا ريب ليس لمجرّد أن يتكلّم كان قد انتصر لرأيه المذكور. إذن فلتسأله أن يزيد تحقيقا له، وبعدها، فإمّا أن نعتنقه إن ظهر لنا بأنّه لحقّ، و إن ظهر لنا كذبه، فلابدّ أن نبصّر نيسياس.
لاكاس
بل لتسأله أنت يا سقراط، إن كان هذا لايحرجك. أمّا أنا، فقد بلغت الغاية في سؤاليه.
سقراط
لاضير، فأنا لسوف أسأله بالأصالة عن نفسي، وبالنّيابة عنك.
لاكاس
نعمّا هذا.
سقراط
_XXV إذن فأنت يا نيسياس قد زعمت لي، بل زعمت لنا أنا و لاكاس، فسؤالنا لك واحد، بأنّ الشّجاعة هي علم بما ينبغي خشيته وبما لاينبغي خشيته.
نيسياس
نعم.
سقراط
وقد زعمت أيضا بأنّ هذا العلم ليس من مشمولات أيّ كان من البشر، فما يعرفه لا الطّبيب ولا الكاهن، وهذان لايصيران شجاعين إلاّ إذا اكتسباه باسْتِقْلاَلٍ عن اكتسباهما لِمَا صارا بهما هذا طبييا وهذا كاهنا.
نيسياس
إي نعم.
سقراط
فلاجرم أنّ هذا المثل كان صادقا إذن حين قال "تنزّهت الشّجاعة عن أن يكون علمها شِرْعَةً لكلّ خنزير وارد، أوأن تصير حِلْيَةً لكلّ قرد عارض".
نيسياس
لقد صدق بحقّ.
سقراط
فظاهِرٌ إذن أنّك لتنكر أن تكون خنزيرة كروميون أيضا قد كانت شجاعة، وإيّاك و أن تأخذن كلامي هذا على أنّه فكاهة. بل، بلا ريب، فلو صحّ حكمك للزم بالاضطرار أن نرفع الشّجاعة عن كلّ البهائم، أوأن نثبت لها نصيبا من الفطنة تملك به العلم بعواقب الأمور، فيكون للأسد، وللفهد، أو للخنزير من هذا العلم ماليس لكثير من البشر. ولكن إن صحّ ما قد زعمت، فلا مندوحة لك من أن تسلّم بأنّ الطّبيعة إنّما قد سوّت بين الأسد والأيّل، والقرد في الشّجاعة.
لاكاس
لافُضَّ فوك ياسقراط. وأنت يا نيسياس فلتجب جوابا مستقيما لا روغان فيه؛ فبأيّ القولين أنت قائل، أفستقول بأنّ كلّ البهائم المعروفة كلّها بأنّها شجاعة هي لأعلم منّا نحن البشر، أم ستقول على خلاف المعروف إجماعا، بأنّه لا بهيمة من هذه البهائم بشجاعة؟
نيسياس
الرّأي عندي يا لاكاس أنّه لا يمكن وصف أيّ بهيمة بالشّجاعة، بل إنّ هذا الوصف لمرفوع عن كلّ إنسان يركب المهالك لسفاهته، بل هذا عندي لَرَجُلٌ مجنون وطائش. فليت شعري، أَوَ تكون قد حسبتني سوف أعدّ الأحداث الصّغار شجعانا لكونهم لا يرهبون شيئا لجهلهم بعواقب الأمور؟ بل عندي ألاّ يهاب المرء، وأن يكون شجاعا لأمران مختلفان. لذلك فأنا أرى بأنّ الشّجاعة والنّظر في العواقب لََخصلتان لا توجدان إلاّ في قلّة قليلة من البشر، أمّا التهوّر، والجسارة، وقلّة الخشية للجهل بعواقب الأمور، فإنّما هي من خصال أكثر المخلوقات، أطفال، ونساء، وبهائم. من أجل هذا فالأفعال الّتي نَعَتَّهَا أنت وينعتها العاميّ بالشّجاعة، فأنا إنّما أسمّيها بالأفعال المتهوّرة، أمّا الأفعال المتروّيّة فتلك، لعمري، ما أسمّيها بالشّجاعة.
لاكاس
XXVI _ أما رأيت يا سقراط كيف هو يطري نفسه بهذه الأقوال المظنونة؟ أمّا ما هو معلوم عند الجميع بأنّه لَشجاع، فإنّه يطلب جاهدا رفع هذه الصّفة عنه.
نيسياس
ألا لِتهوّن عليك يا لاكاس، فأنا إنّما أعدّك عالما وكذلك لاماكوس، لأنّك شجاع، وكثيرا من أهل أثينا غيرك أيضا.
لاكاس
إنّي لن أجيبك في هذا، وليس لأنّي لا أجد ما أعارضك فيه، ولكنّي لا أرضى أن يُقال عنيّ بأنّي لمن أهل أيكسنوس بحقّ.
سقراط
صه لا تتكلّم يالاكاس. أفلمَّا تتبيّن بأنّ هذا العلم إنّما كان قد أخذه عن دامون. ودامون قد كان كثير المجالسة لبروديكوس الّذي كان أشدّ السّفاسطة معرفة بوضعه هذه التّفريعات اللّفظيّة.
لاكاس
وبِحَقٍّ ياسقراط، فهذا التَّنَطُّعُ في الكلام لأليق برجل سفسطائي منه برجل قد ترضاه المدينة أن يكون واليا عليها.
سقراط
ولكنّك لا يمكن أن تنازع أيّها الأخ المخلص، بأنّ كلّ رجل تُعْهَد إليه أمور عظام، فالأخلق به أن يكون ذا حكمة كبيرة، ونيسياس إذ يحدّ لفظة الشّجاعة ذلك الحدّ، فهو حقيق بأن ننظر فيما يريد بهذا الحدّ.
لاكاس
فلتنظر فيه أنت بنفسك يا سقراط.
سقراط
وهو ما أنا فاعله أيّها الأخ الفاضل. ولكن لا تتوهمّن يا لاكاس بأنّك خالص الذمّة ممّا اجتمعنا لأجله، بل كن يقظا، ولتنظر معي فيما سوف يقال.
لاكاس
إن كان هذا ضروريّا، فليكن الأمر كما أمرت.
سقراط
XXVII_ نعم إنّ هذا لضروريّ. ألا لتعد، يانيسياس إلى أوّل قولك. فلاريب أنّك تذكر بأنّا حين أخذنا بالبحث في المسألة فقد نظرنا في الشّجاعة من حيث هي جزء من الفضيلة.
نيسياس
إنّي أذكر.
سقراط
ولقد أجبت بالحقّ بِعَدِّكَ الشّجاعة جزء من الفضيلة، إذ أنت تعلم بأنّ هناك أجزاء أخرى غيرها، وكلّها تُنْعَتُ بالفضيلة.
نيسياس
إنّي لأعلم بلا ريب.
سقراط
وأنت ألا ترى معي بأنّ هذه الأجزاء الأخرى هي العفّة، والعدل، وغيرهما من الخصال الشّبيهة؟
نيسياس
إي نعم إنّها هي.
سقراط
وإذ قد تقرّر هذا، فلننظر الآن في أيّ الأشياء الّتي تُخْشَى، وأيّها الّتي لا تُخْشَى، ولنفحص عنها معا لئلاّ يختلف رأيينا فيها. فأنا سوف أعرض عليك أيّا منها تخشى، وإذا بدا لك الأمر على غير ما أقول، فنبّهني إليه.
إنّه من المعلوم أنّ الأشياء الّتي تُخْشَى إنّما هي الأشياء الّتي تبعث الخشية في النّفس، والأشياء الّتي لا تُخْشَى، فهي الأشياء الّتي لا تبعث الخوف في النّفس. وبلا ريب، فليست الشّرور الماضية، ولا الشّرور الحاضرة هي التّى تخشى، وإنّما الشّرور الّتي نترقّبها، إذ حدّ الخشية هو ترقّب شرّ نازل. وأنت يا لاكاس، فما تقول؟
لاكاس
أقول كما قلت يا سقراط.
سقراط
وإذ قد عرفت رأينا يا نيسياس فأنت لاتنازع في أنّ ما يُخْشَى إنّما هو الفوادح المترقّبة، وما لا يخشى فهو الأمور المترقّبة الّتي لا تكون شرّا أو الّتي تكون خيرا.
نيسياس
إنّي لا أنازع.
سقراط
وهل أنت تسمّي الشّجاعة العلم بهذه الأمور الّتي تُخْشَى ولا تُخْشَى؟
نيسياس
إنّه العلم بهذه الأمور الّذي أسمّيه شجاعة.
سقراط
XXVIII _ وهناك أمر ثالث لابدّ أن نرى إن كان رأيك فيه كرأينا.
نيسياس
وأيّه؟
سقراط
فلتسمع ما سأقول. لقد بدا للاكاس ولي، أنّه إذا نُظِرَ إلى مواضيع العلم المختلفة، فلا نجد أبدا أنّه هناك علم شأنه أن يعرف الموضوع كيف كان في الماضي، وعلم آخر شأنه أن يعرف الموضوع كيف هو في الحاضر، وعلم ثالث شأنه أن يعرف كيف يمكن أن يكون الموضوع في المستقبل وما أحسن وجوه كونه. بل إنّه لِِعِلْمٍ واحد المعرفة بالموضوع في أحواله كلّها. فمثلا لا يوجد للصحّة إلاّ علم واحد وهو الطبّ ينظر فيها نظرا واحدا كيف كانت وكيف هي الآن، وكيف ستكون. ولا يوجد إلاّ علم واحد لما تثمر الأرض وهو الفلاحة. كذلك في أمر الحرب، فأنت نفسك قد لاتنازع، بلا ريب، بأنّ علم القائد إنّما يرعى حقّ الرّعاية إلى كلّ كبيرة وصغيرة، وإلى كلّ ما يجب فعله فيها. وقد لاتنازع أيضا بأنّ هذا العلم لايمكن أن يرضى بأن يدخل تحت حكم الكِهَانة، بل إنّ الكِهَانة الّتي ينبغي أن تدخل تحت حكمه، لأنّه هو العلم الوحيد الّذي له أحسن المعرفة بما يقع في الحرب وسيقع فيها؛ والأصول تقضي بأنّه ليس الكاهن الّذي له أن يَتَأَمَّرَ على القائد، بل القائد الّذي له أن يتأمّر على الكاهن. أليس هذا ما كنت ستجزم به معي يا لاكاس؟
لاكاس
بلى يا سقراط.
سقراط
و يا نيسياس أأنت موافقنا على أنّه لِموْضُوعٍ واحد علم واحد يعرف أحواله كلّها في الماضي والحاضر والمستقبل؟
نيسياس
نعم إنّي موافقما يا سقراط.
سقراط
ولكنّ الشّجاعة، كما قد أسلفت نفسك بالقول، أيّها الفاضل نيسياس، إنّما هي العلم بما يُخْشَى وما لايُخْشَى.
نيسياس
وهي لكذلك.
سقراط
ولقد تواطأنا جميعا على أنّ المُراد بما يخشى ولا يخشى إنّما هو الشّر المتوقّع و الخير المتوقّع.
نيسياس
لقد تواطأنا.
سقراط
ولقد تواطأنا أيضا على أنّه لِعِلْمٍ واحد النّظر في موضوع واحد في أحواله كلّها في المستقبل وفي غير المستقبل.
نيسياس
لقد تواطأنا.
سقراط
فالشّجاعة إذن ليست بعلم ما يخشى ولا يخشى فحسب؛ وذلك لأنّها مثلها مثل سائر العلوم، فهي لا تشتمل فقط على المعرفة بالشرّ المتوقّع، بل وأيضا على المعرفة بالشرّ الحاضر، والشرّ المتصرّم، أي على المعرفة بالشرّ في عمومه.
نيسياس
لكأنّ الأمر كما وصفت يا سقراط.
سقراط
XXIX _ لذا أفرأيت يا نيسياس كيف أنّك ما كنت قد أجبتنا إلاّ في ثُلُثِ الشّجاعة، ونحن إنّما قد استفهمناك طبيعة الشّجاعة كلّها. أمّا وقد أقررت بما أقررت به الآن، فسيلزم أنّ الشجاعة ليست العلم بما يخشى ولا يخشى فحسب، بل هي العلم بكلّ شرّ وخير في الأحوال جميعا. أم لك رأي آخر يا نيسياس؟
نيسياس
كلاّ، بل ما قلت يشبه أن يكون هو الواجب.
سقراط
حِينَئِذٍ، فلا جرم أيّها الأخ الفاضل، أنّ كلّ رجل قد علم بالخير كلّه، وعلم كيف يوجد، وكيف قد وجد، وكيف سيوجد، وعلم بالشرّ أيضا نحو هذا العلم، فسيكون عندك الرّجل الّذي قد حوى الفضيلة كلّها. ولا جرم أنّ كلّ رجل أُوتِيَ الهمّة في أن يحتاط لنفسه ممّا يخشى ولا يخشى من الآلهة والنّاس، وأوتي السّداد في أن ينعموا عليه بالخير العميم لكونه قد عمل بما يرضيهم، فسيكون عندك الرّجل الوافر الحكمة، والعدل والتّقوى.
نيسياس
ليس لي ما أنازع فيما قلت ياسقراط.
سقراط
إذن فأنت يانيسياس إنّما تتكلّم الآن في الفضيلة كلّها، وليس في جزء من الفضيلة فحسب.
نيسياس
لكأنّ الأمر كما قلت.
سقراط
ولكن نحن قد أسلفنا بأنّ الشّجاعة هي جزء من الفضيلة.
نيسياس
لقد أسلفنا هذا بِحَقٍّ.
سقراط
أمّا الآن فقد ظهر بيّن الظّهور بأنّ الأمر ليس كذلك.
نيسياس
إنّه قد ظهر.
سقراط
وعلى هذا فنحن لمّا نظفر يا نيسياس بحدّ الشّجاعة.
نيسياس
إنّا لمّا نظفر قطعا.
لاكاس
وأنا كنت إِخَالُكَ، يانيسياس، أنّك ستظفر به لا محالة، لِمَا رأيتك تهزأ من أجوبتي لسقراط، وكنت أَأْمل أَمْلاً عظيما أن تُنْجِحَ في طلبك لِمَا لديك من علم كنت قد أخذته عن دامون.
نيسياس
XXX _ فهنيئا لك، يا لاكاس، تماديك في توهّمك أنّه ما كان أمرا عظيما أن يكون آنفا قد تكشّف لنا جهلك جهلا مطبقا بما الشّجاعة. بل إنّك غاية ما تطلب هو أن أُرَى جاهلا كجهلك، ولست تَأْسَى، فيما أرى، على أن نكون نحن الاثنين صفري المعرفة بأمور إنّما فرض على كلّ رجل كريم أن يكون عارفا بها. وبلا ريب ففيما فعلت لا شيء البتّة حقيق بالفخر: بل قصاراك أنّك تنظر في عيوب غيرك، ولا تنظر في عيوب نفسك. أمّا أنا، فحسبي أنّي قد استفرغت الطّاقة اليوم في بيان هذه المسألة، وإن وقع منّي بعض الغلط، فعسى أن يعينني على تصحيحه دامون الّّذي ما فتأت تهزأ به، من غير معرفة به، وغَيْرُهُ آخرون كثير. وحين تقوى معارفي فسأبسطها عليك، ولن أكتمك واحدة منها أبدا. فأنا لَأَراك فقيرا غاية الفقر لأن تُعَلَّمَ.
لاكاس
لَأَنت العالم النّحرير يا لاكاس. ومع هذا فأنا لَأنصح لليسيماك وميليساس بألاّ يعهدا لي ولا لك أمر تربية أبنائهما، بل ليطلباه من سقراط كما قد أسلفت أوّلا، وأنا لو كان لي أولاد قد راهقوا الحلم لفعلت ما نصحتكما به الآن.
نيسياس
إنّي في هذا لَعلى رأيك يا لاكاس. فلو يرضى سقراط بأن يرعى إلى هؤلاء الفتيان اليافعين، فلا ضرورة البتّة في أن نلتمس معلّما غيره. وأنا أيضا لسوف أعهد إليه بصدر منشرح تربية ابني نكراتوس، إذا رغب فيه. ولكن قد كان كلّما طلبت منه هذا قدّم لي أحدا غيره، وتوارى هو عنّي. فلتنشاده أنت يا ليسيماك لعلّه يجيبك بأحسن ممّا أجابني به.
ليسيماك
طلبت رُشْدًا، يا نيسياس. فأنا لأرضى أن أفعل من أجل سقراط أشياء كثيرة ما كنت لِأفعلها لأحد غيره. فهلاّ سمعت طلبنا يا سقراط، وقبلت بأن تعيننا في أن نجعل هؤلاء الفتيان على غاية من الصّلاح؟
سقراط
XXXI. _ سيكون من السّفاهة يا ليسيماك لو منعنا معونتنا رجلا يبتغي تحصيل الصّلاح والكمال. إذن فأنا لو كنت في محاورتنا الآنفة قد ظهر أنّ لي علما حقّا، وأنّ صاحبيك لجَاهلين حقّا، لكنت مُحِقًّا في دعوتك إلى ما دعوتني إليه. ولكن إذا كنّا كلّنا قد لفّه الشكّ وأخذته الحيرة على السَّوَاءِ، فما موجب أن تميل إلى أحدنا دون غيره؟ فالرّأي عندي ألاّ تختارنّ أيّ واحد فينا. ثمّ إنّه متى تقرّر هذا فلتسمع لهذه النّصيحة الجيّدة: أيّها الملأ، لنجتهد جميعا في التماس أحسن المعلّمين لأجلنا نحن أوّلا، فما أحوجنا كلّنا له، ولأجل أبنائنا ثانيا، ولا يدّخرنّ أحد فينا لهذا ماله ولا غيره. وإيّاكم ثمّ إيّاكم و أن تبقوا فيما أنتم فيه من جهل. وإن اسْتُهْزِأَ بنا لأنّنا على الكبر قد رمنا أن نتعلّم، فلنا أن نردّ بقول هوميروس: "من كان في ضنك فعليه خلع شعار الحشمة". لذلك فلنرع إلى أنفسنا وإلى هؤلاء الفتيان ولا تأخذنا في هذا لوم اللاّئمين ولا عذل العاذلين.
ليسيماك
ما أحسن نصيحتك ياسقراط، وأنا وإن كنت أكبركم سنّا، فأريد أن أكون أحرصكم جميعا على أن أتعلّم وهَؤُلاَءَ الفتيانَ. ولكنّك ألا لِتقبل دعوتي لك آنفا: ولا تنس بأن تغشانا غدا في بيتي حتّى نتشاور في هذا الأمر. أمّا الآن فقد أزف الفراق.
سقراط
لَأُجِيبَنَّ دعوتك غدا إن شاء الله يا ليسيمكاك.

تمّ تعريب محاورة لاكاس لأفلاطون في التّاسع من ربيع الأوّل 1426 الموافق ل17 أفريل 2005، ولواهب العقل الحمد والمنّة.


** اسم لما كان قد قسّم إليه سكّان أثينا تقسيما يسمّى في لغة اليوم بالتّقسيم الإداريّ.

*PLATON, LACHES, Traduction française par Emile Chambry, FLAMMARION 1967.

http://membres.multimania.fr/philosophie15/

هناك تعليق واحد: