الأحد، 8 أغسطس 2010

افلاطون السفسطائي

تعريب محاورة أفلاطون المسمّاة السّوفسطائيّ*

تعريب لطفي خيرالله

المتحاورون: تيودوراس، وسقراط، والغريب الإيليّ، وتياتيتوس.

تيودوراس

I- لقد صدقناك ما وعدناك أمس ياسقراط إذ جئنا في الميقات الّذي ضربنا لأن نتلاقى، ويصحبني هذا الغريب. إنّه من أهل إيلاء، وهو من تلاميذ بارمينيدس وزينون، وهو فيلسوف حقّا وصدقا.
سقراط
بل ربّما، يا تيودوراس، إنّما قد جئتنا ببعض الآلهة، وأنت لا تشعر، على عبارة هوميروس الّذي كان يقول بأنّ الآلهة، ولا سيّما الإلاه الموكّل بأمر القِرَى، إنّما يصحب أهل الحياء والعدل حتّى يعلم من يتّبع الشّريعة ممّن يعصيها. فما أدراك أنّ هذا الغريب المصاحب لك ليس هو أيضا أحد هذه الموجودات العالية، وقد جاء ليطلّع على متكلّمين بائسين كأمثالنا، فيدحضهم؛ أي ما أدراك أنّه ليس بإلاه الدّحض.
تيودوراس
كلاّ، ياسقراط، ليست هذه صفة الغريب البتّة. وهو أرجح عقلا من أولائك الّذين ديدنهم الخصومة. أمّا أنا فلا أرى أنّ هذا الرّجل هو إلاه إطلاقا، وإن كنت أعدّه إلاهيّا، لأنّ الفلاسفة كلّهم هم حقيقون عندي بهذا الاسم.
سقراط
ونِعَمَّ ما عددت أيّها الصّديق. ومع ذلك، أفما ترى بأنّ معرفة أيّ شيء الفلاسفة هي في الصّعوبة كصعوبة طلب معرفة أيّ شيء الآلهة؟ فهؤلاء النّاس، أعني الفلاسفة الحقيقيّين، لا الّذين يُرَاؤُون بكونهم فلاسفة، والذّين تراهم أعين الجهّال على صور كثيرة غاية الكثرة، إنّما يطوفون البلدان وهم ينظرون إلى الحياة الدّنيا من عُلُوٍّ. فمن النّاس من يقول بأنّهم لَأهل لكلّ ازداراء، ومنهم من يقول بل هم أهل لكلّ تكريم. فتارة نعدّهم سياسيّين، وتارة نعدّهم سوفسطائيّين، وتارة أخرى قد نعدّهم أيضا مجذوبين كلّ الجذب. أمّا أنا، فلَشَدَّ ما أودّ لو يخبرني الغريب، إن لم يجد حرجا، عمّا يراه قومه في هؤلاء، وكيف هم يسمّونهم؟
تيودوراس
وأيّهم تعني؟
سقراط
أعني السّوفسطائيّ، والسّياسيّ، والفيلسوف.
تيودوراس
وما الّذي تبغي أن تعرفه فيهم على الخصوص، وأيّ شيء كان قد شغلك منهم كلّ هذا الشّغل، وجعلك تسأل هذا السّؤال؟
سقراط
سَمَاعِ. فهل قومه يرون أنّ ثلاثتهم كلّهم إنّما هم نوع واحد، أو نوعان، أم هم إنّما يضعون لكلّ اسم من الأسماء الثّلاثة نوعا منحازا.
تيودوراس
ظنّي أنّ الغريب لن يضنّ عليك ببيان ما طلبت. فيا أيّها الغريب هلاّ أفدتنا بما اُلْتُمِسَ منك؟
الغريب
حُبًّا وكَرَامَةً، يا تيودوراس. فمن السّهل جدّا القول بأنّ قومي إنّما يرون في هؤلاء، ثلاثة أنواعا منحازة. أمّا ما حقيقة واحد واحد منهم، وكيف يمكن أن يُحَدَّ حدّا بيّنا، فأمر صعب، وليس بالهيّن.
تيودوراس
والشّيء بالشّيء يذكر، يا سقراط. فالمبحث الّذي أومأت إليه لَشديد الشّبه بالّذي كنّا نسأل فيه الغريب قُبَيْلَ أن نصل إليكم، والصّعوبات الّتي أنت قد نبّهت إليها كان قد نَبَّهَنَا إليها أيضا، وهو قد صرّح لنا بأنّه كان قد حضر مناظرات قد تقصّت هذه المسائل غاية التقصّي، وهو ما زال يذكرها.
سقراط
II_ فلا تبخل علينا أيّها الغريب بما سألناكه، وهذا أوّل فضل نطلبه منك. ألا أجبني أوّلا: أإنّك لتُؤْثِرُ عَادَةً أن تبسط ما تروم أن تحاجج به أحدا، في كلام واحد، ومتّصل، ووحدك، أم أنّك تؤثر طريقة السّؤال والجواب، كما كان يصنع سالفا بارمنيدس الّذي كنت قد حظرت له أيّام غَضَاضَتِي، و قد طعن في السنّ، أقوالا حجاجيّة أيّما عظيمة.
الغريب
إن كان المحاور ليّنا وسهل الخليقة، فالطّريقة الأمثل هي طريقة الحوار. وإلاّ، فالأمثل أن يُبسط الكلام بسطا واحدا.
سقراط
فلك أن تختار من هذه الرُّفقة أيّهم شئت. فجميعهم سيسمعون لك بأذن واعية. وإن تسمع مشورتي، فخذ واحدا من هؤلاء الفتيان، كتياتيتوس، أو غيره ممّن ترضاه.
الغريب
فأنا، ياسقراط، إنّما أرى أنّه من سوء الأدب أن أقابلك في أوّل ملاقاة لي بك، بكلام واحد متّصل، سواء قصدت به غيري أو لم أقصد، وكأنّي أقول خطبة على الملأ، ولا يكون كلامي متقطّعا، تُقَابَلُ فيه كلّ جملة بأختها. والمسألة الّتي سألت كما سألت، هي بحقّ ليست بالسّهولة الّتي قد تُتَوَهَّمُ، بل إنّها لَتحتاج إلى كلام طويل غاية الطّول. ومع ذلك، فسيكون لؤما يشين ما قابلتني به من حسن القِرَى، وخاصّة بعد ما سمعت منك ما سمعت، ألاّ نرضيك فيما طلبت، ونرضي هؤلاء السّادة الأفاضل. كذلك، فأنا قد رضيت غاية الرّضى أن يكون محاوري تياتيتوس، ففوق أنّه لأنّك أنت قد أشرت به عليّ، فأنا قد حاورته ذات يوم فيما مضى.
تياتيتوس
فافعل، أيّها الغريب، كما رغب منك سقراط، فكما بيّنه لك، إنّك إن فعلته، فسوف يُسَرُّ له كلّ الجمع الحاضرين.
الغريب
لَكأنّه لا مُعَقِّبَ لما قلت يا تياتيتوس. لذا، فالكلام، كما أُرَى سيكون معك. فإن أنت أصبت حديثي ثقيلا، ومضجرا، فلا تلمنني، بل لم هؤلاء السّادة، أي صحبك.
تياتيتوس
إن شاء الله، إنّ همّتي لن تفتر عن قرب. وإن فترت، فسوف أضمّ إليّ سقراط هذا الّذي هو سَمِيٌّ لسقراط. فهو تِرْبِي، وكان صاحبي في المدرسة، وكان دائما شديد الرّغبة في العمل معي.
الغريب
III_ نِعَمَّا ما قلت، والرّأي ما تراه في أثناء الكلام. أمّا الآن فلابدّ أن تنضمّ إليّ حتّى نبحث معا، وعندي أنّ الأصحّ هو أن نبدأ بالفحص عن السّوفسطائي فنعرف أيّ شيء هو بيّن المعرفة. وإلى السّاعة، فكلانا أنا وأنت، فلم نجتمع إلاّ على اسمه، أمّا ما عسى أن يكون الشّيء الّذي يُدَلُّ عليه بهذا الاسم، فربّما لكلّ واحد منّا صورة عنه في ذهنه تخالف الأخرى. إذ أنّه في أيّ شيء من الأشياء، فلابدّ أن يكون الاجتماع أبدا إنّما على الشّيء نفسه في حدّه، وليس بأن يكون على اسمه فقط، وليس على حدّه. وقد لا تنازع بأنّ الطّائفة الّتي نلتمس معرفتها، أعني طائفة السّفاسطة، ليس بالهّين إطلاقا حدّها. وأنت تحفظ، بلا ريب، ذلك الحكم الشّائع والقديم الذّي ينصح بأنّه في أيّما عمل عظيم، إذا ما رمنا أن نُتِمَّهُ على وجهه، فلا بدّ أن نرتاض أوّلا في أشياء يسيرة، وصغيرة قبل أن نمضي إلى الأشياء العظيمة والكبيرة. كذلك، يا تياتيتوس، إنّما ينبغي أن نفعل في أمرنا هذا، إذ، وقد حكمنا بأنّ طائفة السّفسطائيّين هي صعب معرفة كنهها، فالرّأي عندي أن نأخذ في البحث أوّلا في جنس سهل غيره، اللّهمّ إلاّ إذا كنت ترى طريقا آخر أصحّ.
تياتيتوس
كلاّ إنّي لا أرى طريقا آخر أصحّ.
الغريب
إنّك إذًا لَتوافق بأن يكون فحصنا أوّلا في أمر يسير، ثمّ نتّخذ ذلك مثالا نحتذي عليه حينما نبحث في الأمر الكبير؟
تياتيتوس
إنّي لَأوافق.
الغريب
فهل تجد من شيء هيّن المعرفة، وبيّنا، ولكن الصّعوبة في حدّه كالصّعوبة في حدّ الأمور الكبيرة؟ أفما ترى مثلا أنّ الصيّاد بالشصّ هو يدركه كلّ النّاس، ولا يلزم لمعرفة كنهه عناء كبير؟
تياتيتوس
بلى، إنّي أرى.
الغريب
فعسى أن نجرّد من نظرنا فيه طريقة، ونجد حدّا ينفعنا في مطلبنا الأوّل.
تياتيتوس
إذًا، فسنكون من المغبوطين.
الغريب
IV _ فلنأخذ إذًا في النّظر في الصّيّاد بالشّصّ. ألا أخبرتني: هل الصيّاد بالشصّ هو رجل ذو صناعة أم غير ذي صناعة، بل إنّه موصوف بصفة أخرى؟
تياتيتوس
إنّه ليس برجل غير ذي صناعة.
الغريب
وأنت تعلم بأنّ كلّ الصّناعات إنّما ترجع كلّها تقريبا إلى أن تكون نوعين اثنين.
تياتيتوس
وكيف هذا؟
الغريب
فالفلاحة، وكلّ الأعمال الّتي تتعلّق بالأبدان الفانية، وكلّ الأشياء المركّبة والمصنوعة الّتي نسمّيها بالأدوات، وأفعال المحاكاة، أليس حقّا غاية الحقّ أن نطلق عليها اسما واحدا؟
تياتيتوس
وأيّ اسم ؟
الغريب
إنّه حين يُؤْتَ بشيء إلى الوجود لم يكن موجودا من ذي قبل، فقد جرت العادة بأن نسمّي الّذي يأتي بالشّيء إلى الوجود بالّذي يصنع، وبالشّيء الّذي أُوتِيَ به إلى الوجود بالمصنوع.
تياتيتوس
صدقت
الغريب
والصّناعات الّتي أحصينا آنفا إنّما قوّتها في الصّنع.
تياتيتوس
إنّما قوّتها في الصّنع.
الغريب
فلنا أن نسمّيها كلّها جميعا باسم واحد بالصّناعات الصّانعة.
تياتيتوس
ليكن الأمر كما قلت.
الغريب
ومع هذه، فهناك صنف آخر من الصّناعات وهي العلوم، وصناعة الكسب، والمنازلة، والقنص، وكلّ صناعة لا تصنع، بل تتملّك الأشياء الموجودة والحاصلة من قبل بالقول والفعل، أو تنازع عليها من يروم تملّكها. لذلك كان الاسم الحقيق بكلّ هذه الصّناعات أن تسمّى بصناعة الاقتناء.
تياتيتوس
إنّه الاسم الحقيق بها.
الغريب
V_ وإذ قد بان بأنّ كلّ الصّناعات تترتّب تحت أحد النّوعين من الصّناعة، إمّا صناعة الاقتناء، أو صناعة الصّنع، فصناعة الصّيد بالشصّ، تحت أيّ من النّوعين تترتّب؟
تياتيتوس
بيّن أنّها تترتّب تحت صناعة الاقتناء.
الغريب
وقد لا تنازع في أنّ صناعة الاقتناء إنّما تنقسم إلى قسمين، قسم أوّل يكون بالمبادلة عن تراض، وهو الصّلات، والإجارات، والشّراء والبيع. وقسم ثان يشتمل على كلّ صناعة صناعة سَبْيِيَّةٍ إمّا بالفعل، أو بالقول، وهو صناعة السَّبْيِ.
تياتيتوس
إنّ هذا لَلازم ممّا سَلَفَ لزوما حقّا.
الغريب
وصناعة السّبي إنّما تنقسم أيضا إلى قسمين اثنين.
تياتيتوس
وكيف ذلك؟
الغريب
فكلّ ما يُفْعَلُ من السّبي جهرا نرتّبه تحت جنس المنازلة، وكلّ ما يفعل بالتخفّي فنرتّبه تحت جنس الصّيد.
تياتيتوس
صدقت.
الغريب
والصّيد، هو يُقَسُّمُ بالضّرورة إلى قسمين.
تياتيتوس
وكيف ذلك؟
الغريب
إذ منه المتعلّق بجنس الجوامد، ومنه المتعلّق بجنس الأحياء.
تياتيتوس
إنّ هذين الجنسين حقيقيّان، فالقسمة إذًا صحيحة بلا ريب.
الغريب
وإنّهما لَجنسان حقيقيّان. فلنسقط القسم الّذي يشتمل على الموجودات الجوامد والّذي لا اسم له، إلاّ بعض الأجزاء من صناعة الغوص، وما أشبهها من أعمال أخر حقيرة. أمّا القسم الثّاني الّذي يشتمل على الموجودات الحيّة المطلوبة بالصّيد، فلنا أن نسمّيه بصيد الموجودات الحيّة.
تياتيتوس
لنا أن نسمّيه كذلك.
الغريب
وفي صيد الموجودات الحيّة، أما ترى أنّه يجوز بأنّ نقسّم هذا الجنس إلى نوعين اثنين، فنوع أوّل يشتمل على الحيوانات الّتي تمشي على الأرجل، وهذا النّوع ينقسم أيضا إلى أقسام أخرى كثيرة، لكلّ قسم اسم مخصوص، ويسمّى بصيد الحيوانات الماشية. ونوع ثان يشتمل على كلّ الحيوانات السّابحة، ويسمّى بصيد الصّيد المائيّ؟
تياتيتوس
إنّ الأمر لَكما وصفت حقّا.
الغريب
و جنس الحيوانات السّابحة، فمنه الطّائر، ومنه المائيّ.
تياتيتوس
بلا ريب.
الغريب
وأنت تعلم بأنّ الصّيد المتعلّق بجنس الحيوانات الطّائرة كلّه يسمّى بصيد الطّيور.
تياتيتوس
إنّه لَيسمّىكذلك.
الغريب
والصّيد المتعلّق بكلّ جنس الحيوانات المائيّة تقريبا، فيسمّى بالصّيد البحريّ.
تياتيتوس
إنّه ليسمّىكذلك.
الغريب
وهذا الجنس، هو يمكن أيضا أن نقسّمه إلى قسمين كبيرين.
تياتيتوس
وأيّهما؟
الغريب
إنّهما قسم أوّل يشتمل على جنس الحيوانات الّتي لا تُقْتَنَصُ إلاّ بالشَّرَكِ، و قسم ثان يشتمل على جنس الحيوانات الّتي لا تُقْتَنَصُ إلاّ بالضّرب.
تياتيتوس
وكيف فرّقت بين القسمين، فهلاّ زدتني بيانا.
الغريب
لأنّه في القسم الأوّل، فكلّ ما ينشب به شيء ويمنعه عن الفرار، فبيّن أنّه يسمّى بالشَّرَكَةِ.
تياتيتوس
إنّه بيّن جدّا.
الغريب
وأنت تعلم بأنّ الحبال، والشّباك، وسِلاَلَ القصب، وما أشبهها من أدوات أخر، كلّها ضروب من الشَّرَكِ.
تياتيتوس
كلّها ضروب من الشَّرَكِ.
الغريب
فلنا إذًا أن نطلق على هذا القسم الأوّل اسم الصّيد بالشَّرَكِ، أو اسما آخر قد يشبهه.
تياتيتوس
لنا ذلك.
الغريب
أمّا الصّيد الّذي يكون بالشصّ، والرُّفش، فيختلف عن الأوّل، ولنا أن نطلق عليه اسم الصّيد بالضّرب؛ أم ربّما هو لديك، يا تياتيوس، اسم أفضل من هذا.
تياتيتوس
إنّه لا مشاحة في الأسماء، أيّها الغريب، والاسم الّذي اخترته لَيُجْزِي.
الغريب
وقد أحسن الصيّادون حين سمّوا بأنفسهم، إن صحّ علمي، الصّيد بالضّرب الّذي يكون في اللّيل، تُضِيئَهُمُ النّار، بالصّيد النّاريّ.
تياتيتوس
صدقت.
الغريب
أمّا إذا كان الصّيد بالنّهار، فقد جرت عادتهم أن يسمّوا هذا الصّيد بالصّيد بالشصّ، لأنّهم كانوا يرّكبون الشّصوص في أطراف الرّفش.
تياتيتوس
إنّه الاسم الّذي جرت عادتهم أن يسمّوه.
الغريب
VI _ وحين الصّيد بالشصّ بالضّرب يكون من أعلى إلى أسفل، فهو يسمّى، إن صحّ علمي، بالصّيد بالرّفش، لأنّه في ذلك الضّرب من الصّيد، إنّما نستعمل خاصّة الرّفش.
تياتيتوس
إنّك لا تعدم من يسمّي هذا الصّيد بهذا الاسم.
الغريب
فما بقي، إن صحّ علمي، إلاّ نوع واحد من الصّيد.
تياتيتوس
وأيّه؟
الغريب
إنّه الّذي يضرب بعكس الأوّل، فهو يستعمل الشصّ، ولا ينفذه في أيّ موضع من جسم السّمكة، كما يُفْعَلُ بالرّفش، بل لا ينفذه أبدا إلاّ في فمها، ورأسها، ويرفع السّمكة من الأسفل إلى الأعلى، بعكس الأوّل، ويتوسّل في ذلك العصيّ والقصب. فبأيّ اسم قد نسميّ هذا الضّرب من الصّيد البحريّ، يا تياتيتوس؟
تياتيتوس
لعمري، وهل هو غير ذلك الاسم الّذي وضعناه آنفا حتّى نبحث له عن حدّ. أو ما ترى بأنّ الأمر قد تمّ؟
الغريب
فها نحن أولائك، يا تياتيتوس، قد اجتمعنا على اسم الصيّاد بالشصّ، وقد وجدنا معا حدّا مرضيّا لعين المسمّى. إذ قد تبيّنّا أوّلا بأنّ عامّة الصّناعة نصفها صناعة بالاقتناء، ونصف صناعة الاقتناء الاقتناء بالسّبي، ونصف السّبي هو الصّيد، ونصف الصّيد هو صيد الحيوانات، ونصف صيد الحيوانات هو صيد الصّيد المائيّ. ثمّ تبينّا بأنّ النّوع الأخير في صيد الصّيد المائيّ هو كلّه الصّيد البحريّ، وأنّ النّوع الأخير في الصّيد البحريّ هو الصّيد بالضّرب، والنّوع الأخير في الصّيد بالضّرب هو الصّيد بالشصّ. لذلك فإنّ هذا النّوع الأخير من الصّيد البحريّ الّذي يكون برفع السّمكة من أسفل إلى أعلى، فقد سُمِّيَ باسم هذ الفعل، أي الصّيد بالشصّ، وذلك نفس الاسم الّذي كنّا قد طلبنا حدّه.
تياتيتوس
إنّ هذا البيان لجليّ جدّا.
الغريب

VII _ إذًا، فلنتّخذ ذلك مثالا نحتذي عليه، ولنلتمس بعين الفعل معرفة ما السّوفسطائيّ.
تياتيتوس
لنفعل.
الغريب
لقد كنّا طلبنا أوّلا إن كان الصيّاد بالشصّ ذا صناعة أم غير ذي صناعة.
تياتيتوس
لقد طلبنا.
الغريب
والسّوفسطائيّ، يا تياتيتوس، أيّ القولين فيه أصدق، إنّه جاهل أمّ إنّه عالم حقّا وصدقا.
تياتيتوس
ليس البتّة إنّه جاهل؛ فأنا قد تبيّنت مقصود كلامك، إذ من البعيد الممتنع أن نعدّه جاهلا، وهو يوسم بالسّوفسطائيّ (وذلك لأنّ عبارة السّوفسطائي في اليونانيّة هي مشتقّة من اسم الفاعل سوفوس σοφος ، أي العالم. ملاحظة المترجم الفرنسيّ).
الغريب
فهو إذًا، على ما ظهر لنا، إنّما يملك صناعة مخصوصة.
تياتيتوس
وأيّ شيء هذه الصّناعة؟
الغريب
عسى ألاّ نكون ياتياتيوس قد غفلنا عن أنّ هذا الرّجل هو ذو نسبة بالأوّل.
تياتيتوس
وبمن؟
الغريب
أي أنّ السّوفسطائيّ هو ذو نسبة بالصيّاد بالشصّ.
تياتيتوس
وكيف ذلك؟
الغريب
فكلاهما، عندي، هما لَصائدان.
تياتيتوس
وما صيده؟ أمّا صيد الأوّل فقد علمناه.
الغريب
لقد كنّا آنفا قد قسّمنا عامّة الصّيد إلى صيد الحيوانات السّابحة، وصيد الحيوانات الماشية.
تياتيتوس
نعم.
الغريب
وقد كنّا قد سبرنا في القسم الأوّل كلّ أنواع السّوابح الّتي تحي في الماء، وأهملنا قسمة جنس الحيوانات الماشية، قائلين بأنّه لَيشتمل على أنواع كثيرة.
تياتيتوس
نعم.
الغريب
فالسّوفسطائيّ، والصيّاد بالشصّ إنّما يترتّبان تحت أجناس واحدة من أوّل جنس، أي صناعة الاقتناء، حتّى صيدِ الحيوانات الماشية، وصيدِ الحيوانات السّابحة.
تياتيتوس
يشبه أن يكون أمرهما كما وصفت.
الغريب
وهما يفترقان عند صيد الحيوانات. فالأوّل وجهته البحر، والأنهار، والبحيرات، حيث الحيوانات الّتي يُطْلَبُ صيدها.
تياتيتوس
بلا ريب.
الغريب
والثّاني وجهته الأرض، وأنهار من ضرب آخر، والسّهول حيث تكثر الأمور الّتي يُطْلَبُ ثمرتها.
تياتيتوس
أيّ شيء تعني؟
الغريب
إنّ صيد الحيوانات الماشية هو ينقسم إلى قسمين كبيرين.
تياتيتوس
وما هما؟
الغريب
فنوع أوّل يشتمل على الحيوانات الأوالف، ونوع ثان يشتمل على الحيوانات المتوحّشة.
تياتيتوس
IX_ أَوَ يوجد صيد للحيوانات الأوالف؟
الغريب
نعم، إنّه يوجد، متى ما عددنا الإنسان بأنّه حيوان آلف. وأنت لك أن تقبل بواحدة من هذه المصادرات، فإمّا أن تقول بأنّه لا يوجد حيوان آلف، أو أنّه يوجد ولكن الإنسان ليس منها، بل هو حيوان متوحّش، أو أن تقول بأنّ الإنسان حيوان آلف، ولكن لا يوجد صيد للإنسان. فمَيْلُكَ لأَيٍّ من هذه المصادرات؟
تياتيتوس
بل إنّي أرى بأنّنا حيوانات أوالف، وأجزم بأنّ هناك صيدا للإنسان.
الغريب
فلتجزم أيضا بأنّ صيد الحيوانات الأوالف ينقسم كذلك إلى نوعين.
تياتيتوس
وما دليلك؟
الغريب
فأفعال كقطع الطّريق، وسبي العبيد، والغلبة والحرب، إنّما تترتّب كلّها تحت نوع واحد نسميّه بالصّيد بالقهر.
تياتيتوس
نعم.
الغريب
أمّا أفعال كالكلام الذّي يُقَال لدفع مظلمة، ومخاطبة النّاس، ومناجاة واحد لواحد، فهذه كلّها تترتّب تحت نوع واحد قد نسمّيه بصناعة الإقناع.
تياتيتوس
نعم.
الغريب
فلنقسّم الآن صناعة الإقناع إلى نوعيها.
تياتيتوس
وأيّهما؟
الغريب
فنوع أوّل يكون موضوعه الأفراد، ونوع ثان يكون موضوعه الجمهور.
تياتيتوس
إنّ هذين النّوعين لَحقيقيّان.
الغريب
وأنت تعلم بأنّه في صيد الأفراد، فمن النّاس من يطلب أجرة، ومنه من يُجْزِلُ العطايا.
تياتيتوس
لم يظهر لي قصدك.
الغريب
أو تكون ما تبيّنت قطّ كيف يصطاد العشّاق معشوقيهم؟
تياتيتوس
وما معنى هذا؟
الغريب
إنّ العشّاق إنّما يتلطّفون أبدا معشوقيهم بالعطايا في طلبهم لهم.
تياتيتوس
لقد صدقت حقّا.
الغريب
فلنسمّ هذا النّوع من الصّيد بصناعة المحبّة.
تياتيتوس
فلنسمّه بصناعة المحبّة.
الغريب
أمّا الصّيد الّذي غايته الأجرة، والّذي يتوسّل الكلام من أجل نيل الاستحسان، ولا يكون مبدأه إلاّ اللذّة، و لا فائدة من ورائه إلاّ سدّ الخَلَّة، فقد لا تنازع في أنّ الاسم الحقيق به أن يقال إنّه صناعة التملّق، أو صناعة الاسترضاء.
تياتيتوس
إنّه الاسم الحقيق به، بلا ريب.
الغريب
أمّا إن زعمنا بأنّنا لا نتكلّم إلاّ لأجل أن نعلّم الفضيلة، ونكون نأخذ أجرة نَقْدًا على ذلك، فبالواجب أن نسمّي هذا الضّرب من الصّيد باسم آخر.
تياتيتوس
بلا ريب.
الغريب
وهذا الاسم، أيّه؟
تياتيتوس
أفي هذا لَبْسٌ، فهذا الّذي انتهينا إليه هو السّوفسطائيّ. وإن سمّيناه بهذا الاسم، فإنّما نطلق عليه الاسم الحقيق به حقّا.
الغريب
X_ فيلزم ممّا قيل، يا تياتيتوس، وبحثنا فيه بأنّ هذا الجزء من صناعة الاقتناء، أي من صناعة الصّيد، أي من صيد الحيوانات الحيّة، أي من صيد صيد الأرض، أي من صيد الحيوانات الأوالف، أي من صيد الإنسان، أي من صيد الأفراد، أي من صيد الأفراد بأجرة، أي هذا الجزء من الصّناعة الّذي يزعم بأنّه يعلّم، فهو حين يكون غايته أن يصطاد فتيان أهل الثّروة والبيوتات الكريمة، فالاسم الّذي يليق به إنّما هو السّفسطة.
تياتيتوس
صدقت.
الغريب
ثمّ لننظر للأمر هذا النّظر. إذ أنّ الصّناعة الّتي نبحث فيها ليست حقيقتها بالبسيطة، بل هي مركّبة غاية التّركيب. كذلك فما قلناه قد يجعلنا نظنّ بأنّ السّوفسطائيّ ليس هو كما وصفنا، بل إنّه لَيترتّب تحت جنس آخر.
تياتيتوس
وكيف هذا؟
الغريب
لقد كنّا ذكرنا بأنّ صناعة الاقتناء تنقسم إلى قسمين، قسم أوّل هو صناعة الصّيد، وقسم ثان هو صناعة المبادلة.
تياتيتوس
لقد ذكرنا ذلك حقّا.
الغريب
وهل لنا أن نقول بأنّ صناعة المبادلة هي ذات نوعين، فنوع أوّل هي المبادلة بالهبة، ونوع ثان هي المبادلة بالمتاجرة؟
تياتيتوس
لنا أن نقول.
الغريب
و المبادلة بالمتاجرة هي تنقسم أيضا إلى قسمين اثنين.
تياتيتوس
وأيّهما؟
الغريب
فنوع أوّل هو البيع يدا بيد لما نكون قد أثمرناه بأنفسنا، ونوع ثان هو مبادلة أشياء أثمرها غيرنا، وهذا يسمّى بصناعة المبادلة.
تياتيتوس
حقّا.
الغريب
والمبادلة الّتي مكانها المدينة والّتي هي نصف عامّة المبادلات على التّقريب، فتسمّى بيع التّفصيل.
تياتيتوس
نعم.
الغريب
والمبادلة الأخرى الّتي تكون من مدينة إلى مدينة بالبيع والشّراء، فهي تسمّى تجارة.
تياتيتوس
إنّها لَتسمّى كذلك.
الغريب
ولقد كنّا تبينّا في هذه التّجارة أنّ هناك جزء أوّلا ذا تعلّق بالمتاجرة في الطّعام وحاجات البدن ومبادلتها بالدّراهم، وهناك جزء آخر ذو تعلّق بالمتاجرة في حاجات النّفس ومبادلتها بالدّراهم.
تياتيتوس
ما معنى هذا؟
الغريب
إنّه لاصعوبة في معرفة أمور البدن، أمّا أمور النّفس فربّما هي ممّا يصعب معرفتها.
تياتيتوس
نعم.
الغريب
فلنقل إذًا بأنّ عامّة الموسيقى متى حُمِلَت من مدينة إلى مدينة، فاشْتُرِيَتْ في واحدة، ثمّ بيعت في أخرى، والرّسوم، وصناعة العجائب، وأمور أخرى كثيرة ذات تعلّق بالنّفس، والّتي نحملها ونبيعها على أنّها أشياء للمتعة واللّهو، أو للنّظر الرّصين، فإنّ من يحملها ويبيعها لَيَصِحُّ أن يُسَمَّى بالتّاجر مثله مثل من يحمل ويبيع الطّعام والشّراب سواء بسواء.
تياتيتوس
إنّه عين الصّدق.
الغريب
ليت شعري، وكلّ من يشتري المعارف، ويطوف من مدينة إلى أخرى، ليبيعها بالدّراهم، ألا تسمّيه تاجرا أيضا؟
تياتيتوس
بلى، إنّي لأسمّيه تاجرا بلا ريب.
الغريب
XI _ ولكن قسم من هذه التّجارة النّفسيّة يمكن أن يسمّى بحقّ صناعة العرض، وقسم ثان ليس بدون الأوّل في السّخف، سوى أنّ بيعه هو المعارف، فينبغي أن نسميّه باسم يلائم عمله.
تياتيتوس
بلا ريب.
الغريب
وأنت لا تنازع بأنّ الجزء من هذه التّجارة في المعارف المتعلّق بسائر العلوم فينبغي أن يكون له اسم، أمّا الجزء الآخر المتعلّق بالفضيلة فلا بدّ أن يكون له اسم مغاير للأولّ.
تياتيتوس
بل لا أنازع.
الغريب
وعندي أنّ الاسم اللاّئق بالجزء الأوّل من التّجارة في المعارف هو تجارة الفنون. أمّا الجزء الثّاني، فهل لك أنت نفسك أن تسميّه؟
تياتيتوس
وأيّ اسم هو يقال عليه بصواب غير ذلك الّذي نفحص عنه الآن، أي السّفسطة.
الغريب
إنّه السّفسطة ولا غيره. ولنلخّص ما قيل: فالسّفسطة قد بانت إذًا بأنّها جزء من صناعة الاقتناء، أي من صناعة المبادلة، أي من صناعة التّجارة، أي من تجارة الأمور النّفسيّة المتعلّقة بالكلام ومعرفة الفضيلة.
تياتيتوس
إطلاقا.
الغريب
ووجه ثالث: إذا ما رجل أقام بمدينة، ورام أن يعيش من بيعه إمّا معارف يكون قد اشتراها، أو معارف أخرى متعلّقة بعين الأشياء، يكون هو الّذي أثمرها، فلا ريب إنّك لن تسمّيه إلاّ بذلك الاسم الّذي أطلقته آنفا.
تياتيتوس
بلا ريب.
الغريب
وعلى ذلك، فهذا الجزء من صناعة الاقتناء الّذي يُبَادَلُ فيه، ويُتَاجَرُ إمّا بالبيع، أو ببيع ثمار ما عملته أيدينا، فما تعلّقت هذه التّجارة بالمعارف الّتي ذكرنا، فأبدا، إنّما هي الّتي تسمّى بالسّفسطة.
تياتيتوس
إنّ هذه النّتيجة لَلاَزمة لزوما ضروريّا عمّا قد قيل.
الغريب
XII_ ولننظر الآن إن كان هذا الجنس الّذي نبحث فيه ليس يشبه أيضا هذا الشّيء؟
تياتيتوس
و أيّ شيء؟
الغريب
لقد كنّا قلنا بأنّ جزء من صناعة الاقتناء هي المنازلة.
تياتيتوس
لقد قلناه حقّا.
الغريب
فمن الجائز أن نقسّم صناعة المنازلة إلى جزئين.
تياتيتوس
وأيّهما؟
الغريب
جزء منها هو المنافسة، والجزء الآخر هو المقارعة.
تياتيتوس
صدقت.
الغريب
والمقارعة الّتي تكون بملاقاة بدن لبدن، فالحقيق، عندي، أن تسمّى بالمنازلة القهريّة.
تياتيتوس
نعم.
الغريب
والتّي تكون بمقابلة كلام بكلام، فهل لنا أن نسمّيها، يا تياتيتوس، بغير اسم المجادلة؟
تياتيتوس
كلاّ، بل الاسم اللاّئق بها هو المجادلة فحسب.
الغريب
والمجادلة أيضا هي قسمان.
تياتيتوس
وكيف؟
الغريب
فالّتي تكون بكلام طويل يقابل كلاما آخر طويلا، والّتي يكون غرضها الفصل في الحقّ والباطل على ملأ من النّاس، فهي المجادلة القضائيّة.
تياتيتوس
إنّها المجادلة القضائيّة.
الغريب
أمّا الّتي تكون بين أفراد، وتكون مقطّعة إلى أجزاء من أسئلة وأجوبة، أفلم تجر العادة بأنّ نسميّها بالخصومة.
تياتيتوس
بلى، إنّا نسمّيها بالخصومة.
الغريب
وفي المجادلة، فحين الخصومة إنّما تتعلّق بالعقود، ولا تتّبع قاعدة ولا صناعة، فنوع منحاز، إلاّ أنّ السّلف ما وضعوا له اسما، وهو غير حقيق بأنّ نضع له اسما اليوم.
تياتيتوس
لقد صدقت، فهذا النّوع هو ينقسم إلى أجزاء كثيرة في غاية الصّغر.
الغريب
أمّا الخصومة الّتي تتّبع صناعة، والّتي تشاغب في العدل القائم بذاته، وفي الظّلم، وفي سائر المبادئ العامّة، أفلم تجر العادة بأنّ نسمّيها بصناعة التّشغيب؟
تياتيتوس
إنّا لنسمّيها كذلك حقّا.
الغريب
وأنت تعلم أنّ من التّشغيب ما يهدّم، ومنه ما يبني.
تياتيتوس
إنّي أعلم حقّا.
الغريب
لنر الآن أيّ اسم يليق بكلّ نوع من ذينك النّوعين.
تياتيتوس
لنر.
الغريب
إنّي أرى أنّه حين ننصرف إلى هذه الأشياء، وننشغل بها بشغف حتّى ننسى أمورنا، ونتكلّم فيها كلاما لا يَسْتَطِيبُهُ جلّ من يسمعنا، فالاسم الحقيق بذلك هو الهذر.
تياتيتوس
إنّه الاسم الّذي جرت العادة بأن نسمّي به، في الجملة، هذا الضّرب من التّشغيب.
الغريب
وهل لك أن تدلّنا على الاسم الّذي يُقَالُ على النّوع المقابل للأوّل المذكور، والّذي هو يتكسّب من الخصومات الّتي تكون بين أفراد.
تياتيتوس
وهل لي من جواب، إن أنا رمت الصّدق، إلاّ أن أقول: ها نحن أولاء قد أفضينا للمرّة الرّابعة إلى هذا الرّجل العجيب الّذي نستكنهه، أي السّفسطائيّ.
الغريب
نعم، فالسّفسطائيّ قد بان لنا، بأنّه من الّذين يطلبون النّقود، وهو منحدر من صناعة التّشغيب، أي من صناعة المجادلة، أي من صناعة المنازلة، أي من صناعة الاقتناء. ذلك ما ظهر لنا من كلامنا ظهورا آخر.
تياتيتوس
حقّا.
الغريب
XIII_ أفليس حقّا أن يقال بأنّ هذا الحيوان لذو اختلاف، وأنّه يصحّ فيه المثل القائل، إنّه لا يُأْخَذُ بيد واحدة.
تياتيتوس
لابدّ إذًا أن نستعمل كلتا يدينا حتّى نأخذه.
الغريب
نعم، لا بدّ ذلك، ولا بدّ أيضا أن نستفرغ جميع وسعنا حتّى نتعقّبه في هذا الموضع. أإنّك لتعلم بأنّه قد نستعمل بعض الألفاظ لندلّ بها على أعمال المنزل؟
تياتيتوس
بل إنّي لأعلم لها أسماء كثيرة. ولكن أنت تقصد أيّ الأسماء؟
الغريب
إنّي أقصد أسماء كهذه: التّصفية، والنّخل، والتّذرية، والفرز.
تياتيتوس
وماذا أيضا ؟
الغريب
وأيضا أسماء كهذه: المشط، واللفّ، والدّبغ، وما أشبهها من الألفاظ الّتي تطلق على صناعات منزليّة كثيرة.
تياتيتوس
وما تريد بهذه الأسماء، وما بالك ذكرتها لي، وسألتني في كلّ ذلك؟
الغريب
فعندي أنّ هذه الأسماء المذكورة إنّما تدلّ كلّها على معنى الفصل.
تياتيتوس
إنّها تدلّ على معنى الفصل.
الغريب
لذلك، فالرّأي عندي، أنّه لمّا لم يكن من فعل في كلّ هذه الأعمال إلاّ فعل واحد، فالصّواب أن نطلق عليها كلّها اسما واحدا.
تياتيتوس
وأيّه؟
الغريب
إنّه صناعة الفرز.
تياتيتوس
نعم.
الغريب
ولننظر الآن إن كان من سبيل لأن نتبيّن في هذه الصّناعة نوعين اثنين.
تياتيتوس
إنّ هذا النّظر الّذي سألتنيه لا تطيقه نفسي.
الغريب
ومع ذلك، فأنت تعلم بأنّه في ضروب الفرز المذكورة، فمنه ما يكون بفصل الجيّد عن الرّديء، ومنه ما يكون بفصل الشّبيه عن الشّبيه.
تياتيتوس
إنّه بعد هذا الكلام، قد صار الأمر بيّنا.
الغريب
أمّا في النّوع الأخير من الفرز، فلا أعلم له من اسم مستعمل مخصوص يُدَلُّ به عليه؛ أمّا في النّوع الآخر الّذي يمسك الجيّد، وينفي الرّديء، فأعلم له اسما.
تياتيتوس
وأيّه؟
الغريب
إن صحّ علمي، فإنّ كلّ فصل يكون على هذا النّمط، فيسمّى، باتّفاق النّاس جميعا، تنقية.
تياتيتوس
لَيُسمّى تنقية.
الغريب
وأنت أفما تعلم بأنّ كلّ النّاس إنّما يقسّمون التّنقية إلى نوعين؟
تياتيتوس
إنّه بعد النّظر، فقد يظهر هذان القسمان. أمّا الآن، فأنا لا أراهما البتّة.
الغريب
XIV._ إذ أنّه لا بدّ أن نسمّي باسم واحد كلّ أنواع التّنقية ذات التعلّق بالبدن.
تياتيتوس
وأيّها هذه الأنواع، وأيّ اسم هذا الاسم الواحد؟
الغريب
إنّها أعمال تنقية الحيوانات الّتي منها الّتي تكون في باطن الجسم، بالتّصفية التّامّة، والرّياضة، والطبّ، ومنها الّتي تُسَمَّى باسم مرذول، وهي صناعة الاستحمام. ومن أعمال التّنقية الّتي تتعلّق بالجمادات، وهي صناعة القِصَارة، وبالجملة، صناعة الزّينة الّتي تنقسم إلى أنواع في غاية الكثرة، وذوات أسماء حقيرة.
تياتيتوس
لقد صدقت.
الغريب
كلّ الصّدق، يا تياتيتوس. أمّا طريقتنا في الكلام، فليست تُفَاضِلُ البتّة بين التّنقية بالاسفنجّة، والتّنقية بالشّراب، ولا يشغلها إطلاقا، إن كانت الأولى قليلة النّفع، والثّانية عظيمة النّفع. فهي لأجل أن نحصّل المعقول، إنّما تنظر في اختلاف الصّناعات جميعا، واشتراكها، ومن هذه الحيثيّة فهي تُجِلُّهَا كلّها. ولذلك فحين تُوَازِنُ بينها، فهي لا تلتفت إلى حقارة بعضها، وشرف الأخرى. ولاترى كذلك، إن نحن شبّهنا صناعة الصّيد بصناعة العالم بالحرب، بأنّا نكون أحقّ بالإجلال ممّا لو شبّهناها بصناعة قتل البراغيث، بل، إنّها، في الجملة، لأشدّ مبالغة. كذلك هاهنا، ففي الاسم الّذي تطلبه لتدلّ به على جميع القوى الّتي تنقّي الأجسام حيّة أو جوامد كانت، فليس علينا البتّة أن ننشغل بأمر هذا الاسم من حيث أنّه لابدّ أن يكون اسما على غاية من الشّرف. بل لا بدّ أن نهتمّ فقط بأن نفرز التّنقيات المتعلّقة بالنّفس، وأن نضع معا كلّ التّنقيات المتعلّقة بغير النّفس. ولذلك فنحن الآن إنّما نلتمس بأن نفصل التّنقية الّتي موضوعها النّفس من سائر التّنقيّات، إن صحّ إدراكنا لمقاصد هذه الطّريقة المذكورة.
تياتيتوس
لقد علمت الآن بأنّه هناك صورتان من التّنقية، صورة أولى موضوعها البدن، وصورة ثانية تنفصل عن الأولى، وهي التّنقية الّتي موضوعها النّفس.
الغريب
ونِعَمَّا العلم. أمّا الآن فإنّي داعيك لأن نقسّم هذه الصّورة أيضا إلى قسمين.
تياتيتوس
إنّي متّبعك في كلّ ما تفعل، ومقسّم معك كلّ ما تقسّم.
الغريب
XV._ من المعلوم جيّد العلم بأنّ الشرّ في النّفس هو شيء مغاير للخير.
تياتيتوس
بلا ريب.
الغريب
ولقد قلنا بأنّ التّنقية هي فصل كلّ ما يمكن أن يكون من شرّ، وترك الباقي.
تياتيتوس
لقد قلنا هذا حقّا.
الغريب
كذلك أمر النّفس، فأيّما طريقة قد نصيبها من شأنها أن تجعلنا ننفي الرّذيلة منها، فلن نخطأ لو سمّيناها بالتّنقية.
تياتيتوس
إنّنا بحقّ، لن نخطأ.
الغريب
أإنّك لتعلم بأنّه يوجد نوعان من الرّذيلة النّفسيّة؟
تياتيتوس
وأيّهما؟
الغريب
إنّهما هذان: أحدهما يكون في النّفس كالمرض في البدن، والثّاني يكون في النّفس كالقبح فيه.
تياتيتوس
ألا زدني إيضاحا.
الغريب
أإنّك لا تعلم بأنّ المرض والمنازعة إنّما هما شيء واحد؟
تياتيتوس
ولا هذا أيضا قد ظهر لي معناه.
الغريب
إذ ما المنازعة، ليت شعري، سوى فساد ما يكون أوّل أمره الاجتماع، بعد انفصال الرّباط.
تياتيتوس
إنّها لكذلك حقّا.
الغريب
وما القبح، ليت شعري، سوى عيب في التّناسب يؤذي رؤيته أبدا العين.
تياتيتوس
إنّه لكذلك حقّا.
الغريب
إذًا، أفلم تتبيّن بأنّ كلّ الّذين هم من عوامّ النّاس، فنفوسهم أبدا إنّما تتنازع فيها الظّنون والشّهوات، والشّجاعة واللذّات، والعقل والهموم، وكلّ ما أشببها من أمور أخرى؟
تياتيتوس
بلى، إنّي تبيّنت.
الغريب
ومع ذلك، فبَيِّنٌ أنّه هناك نسبة ما بين كلّ هذه الأشياء.
تياتيتوس
إنّه بيّن.
الغريب
لذلك، فنحن لن نخطأ لو قلنا بأنّ الشرّ إنّما هو منازعة في النّفس، ومرض لها.
تياتيتوس
نعم، نحن لن نخطأ إطلاقا.
الغريب
والأشياء الّتي من شأنها الحركة إذا رامت غاية، واجتهدت حتّى تبلغها، فإن هي في كلّ خروج منها إليها، أخطأتها، ولم تصبها، أنقول أخطأتها بسبب المناسبة الّتي بينها وبين الغاية، أم بسبب اللاّمناسبة الّذي بينها؟
تياتيتوس
بل بسبب اللاّمناسبة الّتي بينها، بلا ريب.
الغريب
وأنت تعلم بأنّ النّفس إذا جهلت شيئا، فجهلها أبدا ليس مَشِيئَةً، بل قهرا.
تياتيتوس
إنّي لَأعلم حقّا.
الغريب
وتعلم أيضا بأنّ الجهل إنّما هو ضلال النّفس حين تندفع لطلب الحقيقة، فيزيغ العقل عن الغاية.
تياتيتوس
إنّي لأعلم.
الغريب
فالنّفسة السّفيهة هي إذًا قبيحة وعلى غير رشاد.
تياتيتوس
إنّها لكذلك.
الغريب
فللنّفس إذًا شرّان: شرّ أوّل يسمّيه الجمهور بالشرّ وهو مرض نفسيّ بلا ريب.
تياتيتوس
نعم.
الغريب
وشرّ ثان وهو المسمّى بالجهل، لكن إذا ظهر منفردا في النّفس، فلم تجر عادة الجمهور بأن يعدّوه رذيلة.
تياتيتوس
إنّه لا مندوحة، أيّها الغريب، من أن نثبت ما كان قد عرض لظنّي حين كنت تتكلّم، وهو أنّ للنّفس شرّين، وأنّ خصالا كالجبن، والشَّرَهِ، والبغي، هي كلّها أمراض قد تعرض لنفوسنا، وأنّ العلّة الأخرى المنتشرة بين النّاس غاية الانتشار، والمختلفة، أي الجهل، هي أيضا قبح.
الغريب
XVI._ أمّا الجسم فقد علمنا له صناعتين تنظران في شفاء نوعي علّتيه المذكورين.
تياتيتوس
وأيّهما؟
الغريب
الرّياضة تشفي من القبح، والطبّ يشفي من المرض.
تياتيتوس
نعم.
الغريب
أمّا البطش، والبغي، والجبن، فأيّ صناعة أحقّ من العدل هو يشفي منها؟
تياتيتوس
هذا إن رضينا أن نأخذ بالرّأي المشهور.
الغريب
وأيّ صناعة أحقّ من التّعليم هو يشفي من عامّة الجهل؟
تياتيتوس
لا صناعة واحدة.
الغريب
لتنظر الآن: أ التّعليم هو جنس واحد، أم أكثر من جنس واحد، وإن كان أكثر من جنس واحد، فأيّهما نوعاه الكبيران؟
تياتيتوس
إنّي سأنظر.
الغريب
إنّي معطيك مسلكا يبلّغك الغرض عاجلا.
تياتيتوس
وأيّه.
الغريب
وهو بأن تنظر إن كان الجهل يمكن قسمته في وسطه. إذ إن ظهر بأنّ الجهل هو جهلان، فلا ريب أنّ التّعليم سينقسم أيضا إلى قسمين، كلّ قسم يكون متعلّقا بأحد قسميّ الجهل.
تياتيتوس
وبعد ذلك، فهل لاح الجواب الّذي تطلبه؟
الغريب
إنّني، على أيّة حال، قد تبيّنت نوعا مُنْكَرًا من الجهل يمتاز عن غيره، وهو وحده يَعْدِلُ كلّ ضروب الجهل الأخرى.
تياتيتوس
وأيّه؟
الغريب
إنّه الجهل الّذي يكون صاحبه جاهلا، وهو يتوهّم بأنّه لذو علم. وعندي أنّ هذا الجهل إنّما هو أصل كلّ الضّلالات الّتي تصيب العقول.
تياتيتوس
لقد صدقت.
الغريب
وإن صحّ ظنّي، فهذا هو الجهل الوحيد الّذي قد سمّيناه بالحمق.
تياتيتوس
بحقّ.
الغريب
وأيّ اسم قد يليق بنوع التّعليم الّذي شأنه أن يخلّصنا من هذا الجهل؟
تياتيتوس
إنّه، أيّها الغريب، إن كان النّوع الثّاني من التّعليم إنّما يتعلّق بتعليم الصّناعات والحرف، فهذا النّوع منه، قد يكون إنّما يُسَمَّى تربية.
الغريب
ويكاد يكون، هذا الظنّ، يا تيايتوس، هو ظنّ بني الإغريق كلّهم. ولكن لا بدّ من أن ننظر كذلك إن كانت التّربية لا تنقسم، أو هي تنقسم قسمة حقيقة بأن توسم باسم.
تياتيتوس
لننظر.
الغريب
XVII ._ إنّ التّربية، فيما أرى، هي تنقسم أيضا إلى قسمين اثنين.
تياتيتوس
وكيف تنقسم؟
الغريب
ففي التّعليم بطريق العبارة، هناك مسلك وعر ومسلك سهل.
تياتيتوس
وأيّ شيء ذانك المسلكان؟
الغريب
فأوّلا هناك المسلك القديم الجليل الّذي كان السّلف دائما يتّبعونه مع أبنائهم، وكثيرا من أهل عصرنا مازال يتّبعه أيضا، حين يرونهم يخطئون خطأ، إذ هو مسلك يجمع بين التّقريع الشّديد، والوعظ الحسن، ولنا أن نسمّيه حقّ التّسمية بالجَزْرِ.
تياتيتوس
تسمية حقّة.
الغريب
وثانيا، فقد خَلَفَ خَلْفٌ من بعد السّلف، فروّى كثيرا فتحقّق عنده بأنّ الجهل أبدا قهريّ، وأنّ الّذي يتوهّم نفسه عالما، لا يمكن أن يطيع إطلاقا في تعلّم شيئا هو يظنّ أنّه ذو علم به. لذلك، كانت طريقة الجزر في التّربية عندهم، ففوق أنّها مضنية جدّا، فإنّ ثمرتها حقيرة.
تياتيتوس
إنّه لَرأي حقّ.
الغريب
لهذا، فهم قد اتّخذوا سبيلا آخر حتّى يخّلصوا المتوهّم من وهمه.
تياتيتوس
وما هو؟
الغريب
إنّهم يسألون المتوهّم في الأمور الّتي يظنّ بأنّه له أن يتكلّم فيها كلام العارف، وهو لايقول إلاّ هراء. وبعد أن يدعوه مسترسلا في لفظ ضلالته، تتبيّن عندهم أوهامه بيسر، فيجمعونها معا، فيشبعونها تقليبا، ثمّ يأخذون في مقابلة بعضها ببعض حتّى يظهروا له بأنّها كلّها لَتتناقض في الأمر الواحد، ومن حيثيّة واحدة، وعند رأي واحد. وحينئذ يخجل المفتضح من نفسه، ويلين، ويذهب عنه اعتداده الكاذب بنفسه، وذلك هو الخلاص الحقّ، والأنفع لكلّ من كان به داء كهذا الدّاء. فيا بنيّ، إنّ الّذين ينقّون النّفوس من ذلك العيب، فهم كالأطبّاء. فكما أنّ الأطبّاء يَجْزِمُونَ بأنّ البدن لا يمكن أن ينتفع بالطّعام حتّى يُنْفَى منه المضرّ إيّاه. كذلك فهؤلاء يَجْزِمُونَ بأنّ النّفس لا يمكن أن تنتفع بالعلوم حتّى نفحصها، وندحضها حتّى تخجل من نفسها، وننفي منها كلّ الأوهام الّتي تمنع من العلم، ونطهّرها تطهيرا حتّى تصير عارفة بأنّها لا تعلم إلاّ ما تعلم، وليس غير.
تياتيتوس
لعمري، إنّ هذا هو المسلك الأجود والأرشد.
الغريب
وعلى هذا كلّه، فلا بدّ، يا تياتيتوس، أن نلتزم بأنّ الدّحض هو التّنقية الأعظم والأنفع، وأن نتسلّم بأنّه أيّما رجل استعفى من أن يُبلَى به، وإن كان الملك الأعظم نفسه، فهو جاهل وقبيح بالقياس إلى الأمور الّتي يكون بها طاهرا غاية الطّهر، وجميلا غاية الجمال متى رام السّعادة الحقّ.
تياتيتوس
ذلك هو الحقّ المبين.
الغريب
XVIII._ والّذين لهم هذه الصّناعة، فكيف نسميّهم، فأنا أرى أنّه لا يجوز أن نسمّيهم السّوفسطائيّون.
تياتيتوس
وَلِمَ؟
الغريب
لأنّه لو نسمّيهم بهذا الاسم، فقد نعطيهم اسما إنّما ينطلق على من هم أعلى مقاما منهم.
تياتيتوس
ومع ذلك فإنّ الّذي كنّا قد تبينّاه في السّفسطائيّ ليشبهم كلّ الشّبه.
الغريب
كما يشبه الذّئب الكلب، وكما قد يشبه المتوحّش غاية التّوحّش الأليف غاية الإلف. لذلك كان لا بدّ أوّلا أن نحترس أبدا من المشابهات حتّى لا نضلّ ولا نخطأ. فالمشابهة جنس مزيغ كثيرا. ومع ذلك فلنضع بأنّهم سوفسطائيّون، إذ أنّ الفروق الصّغيرة لا تكون سببا للخصومة، متى ما روعيت حقّ الرّعاية.
تياتيتوس
عسى أن يكون ذلك.
الغريب
فلنميّز إذًا في صناعة الفرز صناعة التّنقية، وفي صناعة التّنقية التّنقية المتعلّقة بالنّفس، وفي صناعة التّنقية المتعلّقة بالنّفس صناعة التّعليم، وفي صناعة التّعليم صناعة التّربية. ثمّ لِنَعُدَّ في صناعة التّربية، كما رأينا في بحثنا، أنّ صناعة دحض الظّنون الباطلة بأنّا لَمِنْ أهل الحكمة، إنّما هي عين صناعة السّفسطة الشّريفة بحقّ.
تياتيتوس
لنعدّ هذه الصّناعة كما طلبت. ولكنيّ الآن، وبعد أن رأينا السّوفسطائي بصور كثيرة، فأنا لمَحتار في الحدّ الّذي ينبغي أن نحدّ به السّفسطائيّ حدّا ثابتا وصادقا.
الغريب
ليس عجبا إطلاقا أن تحتار. ولكن لتعلم أنّ السّوفسطائيّ هو أيضا مضطرب يبحث عن حيلة حتّى لا يناله دليلنا. إذ أنّه، وكما قد قال المثل بصدق، ما كلّ مرّة يمكن للمرء أن يُضَلِّلَ من يطلبه. فلنهجم عليه إذًا، ولنزد من قوّة طلبنا إيّاه.
تياتيتوس
خيرا ما أمرت.
الغريب
XIX ._ أوّلا لنتمهّل قليلا نستجمع قوانا، ولنراجع ما قد تحصّل عندنا. ففي كم من صورة كان قد ظهر لنا السّوفسطائي؟ فإن صحّ قولي، كنّا قد وجدناه أوّلا بأنّه صيّاد ضالّته الفتيان الموسرون.
تياتيتوس
نعم.
الغريب
ووجدناه ثانيا، بأنّه تاجر في المعارف النّافعة للنّفس.
تياتيتوس
صدقت.
الغريب

ووجدناه ثالثا بأنّه بائع بالتّفصيل لِعَيْنِ تلك المعارف.
تياتيتوس
نعم، ووجدناه رابعا، بأنّه مبتدع للمعارف الّتي يبيعها.
الغريب
ما أخطأت التذكّر. أمّا صورته الخامسة، فسأذكرها أنا نفسي. إنّه منازل في الكلام، استأثر لنفسه بصناعة الخصومة.
تياتيتوس
نعم.
الغريب
أمّا الصّورة السّادسة الّتي ظهر لنا بها، فكانت محلّ نزاع. ومع ذلك فقد سلّمنا له بأنّه مُنَقٍّ من الأراء الفاسدة الّتي تمنع النّفس من أن يحلّ بها العلم.
تياتيتوس
حقّا.
الغريب
والآن، أفما ترى أنّه إن أحد من النّاس ادّعى معرفة علوم كثيرة، وهو، مع ذلك، إنّما يُدَلُّ عليه باسم صناعة واحدة، فحقٌّ أن يُقْطَعَ بأنّ المعرفة الّتي لنا به هي فاسدة، وأنّ كلّ محصّل لكُنْهِ صناعة ما على ذاك النّحو، فسيكون قاصرا عن معرفة الجامع الواحد لكلّ هذه العلوم، وهو إنّما لأجل ذلك كان يُعْطَى لِلَّذي يمكلها معًا أسماء كثيرة لا اسما واحدا.
تياتيتوس
قد يكون الأمر كما وصفت.
الغريب
فلنحذر إذًا من أن ينالنا نفس العيب، إن نحن لم نَصْدُقْ في البحث. ولنعد أوّلا إلى ما رسمنا من رسوم في السّوفسطائيّ. ففيها رسم قد بدا لي لَيدلّ عليه واضح التّدليل.
تياتيتوس
وأيّه؟
الغريب
أفلم نقل بأنّه مخاصم؟
تياتيتوس
بلى.
الغريب
ولقد قلنا أيضا بأنّه هو يعلّم صناعة الخصومة هذه سائر النّاس.
تياتيتوس
بلا ريب.
الغريب
فلننظر في أيّ شيء إنّما يدّعي هؤلاء السّفاسطة أنّهم يعلّمون النّاس صناعة الخصومة. ولنأخذ في البحث بهذا النّحو: أفتراهم إنّما هم يجعلون تلاميذهم أهلا للكلام في الأمور الإلاهيّة الّتي تشذّ عن عقول العوامّ؟
تياتيتوس
نعم، إذ هذا، على أيّة حال، ممّا قد دُئِبَ على الجزم به.
الغريب
وأيضا في ما يُرَى من الأرض والسّماء وما يحويانه؟
تياتيتوس
بلا ريب.
الغريب
وأنت تعلم، أنّه في المناظرات الخاصّة، حين يكون الكلام في الكون، وفي الوجود العامّ، فإنّ هؤلاء يبرعون في مناقضة أنفسم، وفي جعل غيرهم يبرعون كما برعوا.
تياتيتوس
إنيّ أعلم حقّا.

الغريب
وهم يقطعون أيضا بأنّهم لذو قدرة على أن يعلّموا مخاصمين أشدّاء في النّواميس وعامّة أمور النّاس.
تياتيتوس
بل قد نجزم بأنّه ما من أحد حضر لهم درسا إلاّ وأخذوا له على أنفسم عهدا بأن يجعلوه كذلك.
الغريب
وأيضا كان قد حُبِّر ونُشِر كلّ المواضع الّتي ينبغي الردّ بها على كلّ من يدّعي المعرفة بصناعة من الصّناعات، إمّا في صناعة صناعة، أو في عامّة الصّناعات، حتّى يتعلّمها من يروم ذلك.
تياتيتوس
أإنّك لتومئ إلى مصنّف بروتاغوراس في المنازلة، وفي سائر الصّناعات الأخرى؟
الغريب
وأومئ أيضا إلى مصنّفات أخرى لِكَثِيرٍ غيره، أيّها الكريم. وأنت قد لا تنازع في أنّ صناعة المناقضة هذه، في الجملة، إنّما هي قوّة على الخصومة في الأشياء جميعا.
تياتيتوس
إذ يشبه ألاّ شيء يمكن أن يشذّ عنها.
الغريب
وأنت، فيابنيّ، سألتك بالله لَأجبتي بصدق: أفيمكن حقّا ألاّ شيء قد يشذّ عنها. لأنّكم، معاشر الفتيان، ربّما كانت أعينكم في رؤية هذا الأمر أحدّ من أعيننا الكليلة.
تياتيتوس
وأيّ شيء تعني بحقّ؟ فأنا ما ظهر لي مرادك.
الغريب
مرادي هو إن كان يمكن لرجل واحد أن يحيط علما بكلّ شيء؟
تياتيتوس
لقد كنّا سنكون من المصطفين الأخيار، بلا ريب، أيّها الغريب.
الغريب
وحينئذ، فأنّى لرجل جاهل يناقض رجلا عالما، أن يقول ألبتّة قولا سديدا؟
تياتيتوس
كلاّ إنّه لن يقول قولا سديدا.
الغريب
إذًا، فمن أين، ليت شعري، كان للسّفسطة هذه القدرة العجيبة؟
تياتيتوس
إنّها عجيبة من أيّ حيثيّة؟
الغريب
من حيثيّة أنّ السّفاسطة قد استطاعوا أن يوهموا الفتيان، بأنّهم لأعلم النّاس في الأشياء جميعا. إذ من البيّن أنّه لولا مناظراتهم، وما ظهر منها من كلام صواب، ولولا براعتهم في المناقضة الّتي رفعت مرتبتهم في العلم، كما قد قلت، عاليا، ما كانت أنفسنا لتطيب لأن تدفع لهم الدّراهم طلبا لأن تتعلّم منهم تلك الأشياء.
تياتيتوس
حقّا، ما كانت أنفسنا لتطيب.
الغريب
بل إنّنا لَنفعل ذلك بطيب خاطر.
تياتيتوس
وفؤاد مغتبط أيضا.
الغريب
أفليس ذلك لأنّ السّفاسطة هم يبدون على معرفة كبيرة جدّا بالأشياء الّتي يتكلّمون فيها؟
تياتيتوس
إنّهم لَيبدون كذلك حقّا.
الغريب
ولقد قلنا بأنّهم لَيتكلّمون في الأشياء جميعا.
تياتيتوس
لقد قلنا.
الغريب
فهم إذًا، في أعين تلامذتهم بكلّ شيء عالمون.
تياتيتوس
بلا نزاع.
الغريب
وإن كانوا في الحقيقة هم ليسوا كذلك، إذ قد بينّا فيما سلف أنّ هذا لَممنوع.
تياتيتوس
XXI._ نعم إنّه لممنوع.
الغريب
فيلزم إذًا، فيما يبدو، أنّ العلم بكلّ الأشياء الذّي يدّعيه السّفسطائيّ إنّما هو علم مظنون، وليس علما حقّا.
تياتيتوس
إطلاقا، ويشبه أن يكون الّذي ذكرت في علم السّفسطائيّ إنّما هو أحقّ الرّسوم به.
الغريب
لنأخذ الآن مثالا أوضح نزيد ما قلنا به بيانا.
تياتيتوس
وأيّه؟
الغريب
إنّه هذا المثال الّذي أدعوك لأن تروّي فيه مليّا حتّى تحسن الجواب.
تياتيتوس
وسوف أجيبك عمّاذا؟
الغريب
إذا ما رجل ادّعى أنّه لذو معرفة، لا بالكلام، والمناقضة، بل بعمل كلّ شيء بصناعة واحدة..
تياتيتوس
وما تعني بكلّ شيء؟
الغريب
أفمن أوّل العبارة أسأت فهمي؛ وما بالك قد صعب عليك أن تقف على معنى"كلّ شيء"؟
تياتيتوس
بحقّ إنّي لم أقف على معناها.
الغريب
إنّما أريد من عبارة كلّ شيء، أنا وأنت، وكلّ الحيوانات والشّجر.
تياتيتوس
ألا زدني إيضاحا.
الغريب
إذًا، فإذا ما رجل قد عزم على أن يوجدني أنا، وأنت، وما ينبت جميعا...
تياتيتوس
وما تعني بالإيجاد؟ إذ لا يمكن أن يكون الرّجل الذّي تعنيه هو الفلاّح، وذلك لأنّك قد ذكرت بأنّه من شأنه أن يوجد الحيوانات أيضا.
الغريب
ومن شأنه كذلك أن يوجد البحر، والأرض، والسّماء، والآلهة، وسائر الأشياء جميعا. ثمّ هو من بعد أن يوجد كلّ هذه الأشياء في لمح البصر، يبيعها بثمن بخس.
تياتيتوس
إنّ هذا الكلام لَمحض دُعابة.
الغريب
ياالله، وحينما رجل يقول بأنّه بكلّ شيء عليم، وبأنّه يستطيع أن يعلّم غيره كلّ شيء بثمن زهيد، وفي زمن يسير، أفلا يكون ذلك كذلك دُعَابَةً ؟
تياتيتوس
دعابة، بلا نزاع.
الغريب
وأنت تعلم أن لا صورة من صور الدّعابة أكثرها صناعيّة، وأسحر للعين من المحاكاة.
تياتيتوس
إطلاقا. لأنّ هذه الصّورة إذ دَأْبُهَا أن تردّ كلّ شيء إلى نفسها فحسب، كانت أوعاها جدّا، وأكثرها تركيبا.
الغريب
XXII ._ من أجل ذلك، فكلّما فاخر رجل بأنّه لذو قوّة بأن يوجد الأشياء كلّها بصناعة واحدة، فاعلمن أنّ بصنعه صورا وأمورا ليس لها من وجود حقّ إلاّ الاسم، فسيخدع أحداثا ذوي غرارة، مستعملا براعته في التّصوير، وعامدا لأن يريهم صوره من بعيد حتّى يوهمهم بأنّه لذو مقدرة على صنعه صنعا حقّا أيّ شيء يشاء.
تياتيتوس
بلا ريب.
الغريب
فليت شعري، أو ما ترى بأنّه قد نجد أيضا في الكلام، صناعة أخرى يمكن أن نخدع بها، وذلك حين نحدّث الفتيان ومن هم بعيدون جدّا عن حقائق الموجودات، بكلام يريهم صورا لفظيّة للأشياء كلّها حتّى نوهمهم أنّهم إنّما يسمعون الحقّ، وأنّ الّذي يكلّمهم لَأعلم النّاس طُرًّا بكلّ الأمور؟
تياتيتوس
من الممكن أن توجد صناعة كهذه.
الغريب
وقد تكون تعلم يا تيايتوس أنّ جلّ الّذين سمعوا لذلك الضّرب من الكلام، فبالواجب بعد زمن غير يسير، وحين يبلغون أشدّهم، ويزدادون قربا من الأشياء، وحين تضطرّهم التّجربة لأن يجامعوها مجامعة قويّة، فسوف يبدّلون آراءهم الّتي حصّلوها عندذاك، وسوف يرون ما كان كبيرا في أعينهم صغيرا، وما كان هيّنا، صعبا، ويشاهدون الموجودات الحقّ كيف تُمَزِّقُ الصّور اللّفظيّة جميعا شَرَّ مُمَزَّقٍ.
تياتيتوس
إنّي لَأدرك صواب كلامك على قدر ما يمكنني أن أقضي به، وأنا في هذا العمر عمر الفتيان. لذلك فأُرَى أنّي أنا أيضا من الّذين ما يزالون يتبيّنون الأشياء من غاية البعد.
الغريب
و لذلك فنحن، الحاضرين هنا جميعا، إنّما نجتهد حتّى نُدْنِيَنَّكَ منها أمكن الإدناء لئلاّ تَبْدَهَكَ قوارع التّجربة. ثمّ لنعد إلى السّوفسطائيّ. فهو قد بان لنا بأنّه مشعوذ، وبأنّ غاية ما يقوى عليه إنّما أن يصوّر الموجودات. ولا شكّ الآن أنّ السّوفسطائيّ ليس له في الحقيقة من علم البتّة بالموضوعات الّتي يُرَائِي أنّه لذو قدرة على الكلام فيها.
تياتيتوس
نعم، لا شكّ الآن، أيّها الغريب. بل قد صار بيّنا نِعِمّا أنّ هذا الرّجل إنّما هو من زُمْرَةِ الّذين يحترفون الدّعابة.
الغريب
ولابدّ أيضا أن نعدّه مشعوذا ومصوّرا.
تياتيتوس
أَوَ من سبيل لأن نصفه بغير ذلك؟
الغريب
XXIII._ ألا لا ندعنّ الطّريدة تفرّ منّا، فهي توشك أن تقع في المصيدة الّتي ينصبها الكلام لأجل الإيقاع بأشباه هذا الّذي نطلبه. ولذلك فالسّوفسطائيّ لا يمكنه أن ينجو من هذا.
تياتيتوس
وما هذا؟
الغريب
أن يُرَتَّبَ تحت جنس صنّاع الصّور.
تياتيتوس
وهو رأيي أيضا.
الغريب
وإذ تقرّر ذلك، فلنقسّم عاجلا صناعة التّصوير، ولنمعن في قسمتها، وإن مانع السّوفسطائيّ أوّلا، فسوف نمتثل لأمر مَلَكِنَا العقل، ونمسك به، ثمّ نسلّمه إيّاه صارخين باسم غنيمتنا. أمّا إن هو رام أن يتوارى بين أجزاء صناعة المحاكاة، فسوف نَقُصُّ أثره، ونمعن أبدا في قسمة الجزء الّذي اختبأ فيه حتّى يقع بأيدينا. إذ لا شيء ألبتّة، لا هو ولا غيره يمكن أن ينجو من طلب كلّ من أُوتِي القدرة على أن يجمع في نظره للأشياء بين كلّها وأجزائها.
تياتيتوس
لا فضّ فوك، وليس الفعل إلاّ كما أمرت.
الغريب
وإذا أتممتُ القسمة الّتي بدأناها آنفا، فسوف أتبيّن صورتين اثنتين من صناعة المحاكاة. ولكنّي ما تبيّنت بعد في أيّهما إنّما يوجد المعنى الّذي نلتمسه.
تياتيتوس
فهلاّ نبأّتني أوّلا بتينك الصّورتين؟
الغريب
إنّه صورة أولى، وهي صورة النّسخ. وأحسن النُّسَخِ هي الّتي تجد فيها نِسَبَ الأصل في طوله، وعرضه وعمقه، هي هي، ويكون لون كل جزء فيها كلون كلّ جزء الأصل.
تياتيتوس
وهل كان من الّذين يرومون محاكاة الأصل من يفعل غير ذلك؟
الغريب
نعم، وهم الّذي يرومون رسم أشياء عظيمة. فحين يرسمون النّسب الحقيقيّة لأشياء جميلة، فأنت ترى بأنّ الأجزاء العليا تظهر على غاية من الصّغر، والأجزاء السّفلى على غاية من الكبر، وذلك لأنّ الأولى تُرَى عن بعد، والثّانية تُرَى عن قرب.
تياتيتوس
بلا ريب.
الغريب
لذلك فالرسّامون لا يشغلهم الحقّ، وهم لا يُوجِدُونَ في صورهم النّسب الحقيقيّة، بل النّسب التّي يكون ظاهرها جميلا فحسب.
تياتيتوس
حقّا.
الغريب
وهذه الصّورة، فلأنّها تشبه الأصل، فحقيق أن تُسَمَّى بالنّسخة.
تياتيتوس
نعم.
الغريب
فالجزء من صناعة المحاكاة الّذي يطلب المشابهة، فينبغي أن يسمّى، كما قلنا، بصناعة النَّسْخِ.
تياتيتوس
إنّه ينبغي أن يسمّى بصناعة النّسخ.
الغريب
وأنت، أفما تعلم بأنّ الأشكال الكبيرة الّتي نراها تشبه الجمال، لأنّا نتأمّلها من مكان سيّّء، وإن نحن تمعنّا فيها حقّ التمعّن فسنجدها لا تشبه الأصل الّذي تدّعي أنّها تشبهه، إذ هي في الظّاهر تشبه الأصل، وليس في الحقيقة، فإنّما نسمّيها بالخيالات؟
تياتيتوس
بلا نزاع.
الغريب
وأنت لا تنازع في أنّ هذا الجزء من عامّة صناعة المحاكاة و الرّسم هو جزء عظيم جدّا.
تياتيتوس
إنّه جزء عظيم جدّا بلا ريب.
الغريب
إذًا، فالصّناعة الّتي تُوجِد الخيالات، وليس الصّور، فالاسم الحقيق بها إطلاقا هو صناعة الخيالات.
تياتيتوس
إطلاقا.
الغريب
فانفصل إذًا نوعا صناعة الصّور المذكورين آنفا، وهما صناعة النّسخ، وصناعة الخيالات.
تياتيتوس
ذلك ما كنّا نبغي.
الغريب
أمّا الّذي ما زال يحيّرني، فهو تحت أيّ ذينك النّوعين من صناعة الصّور ينبغي أن نرتّب السّفسطائيّ؟ فبحقّ إنّه لَرجل عجيب، وصعب جدّا استكناهه، إذ ها هو ذا قد اختبأ ثانية في نوع ليس بالهيّن معرفة حقيقته.
تياتيتوس
يشبه أن يكون الأمر كما وصفت، أيّها الغريب.
الغريب
وجوابك هذا، ومواطأتي فيما قضيت به، عاجلا، أكان عن بيّنة أم اتّباعا للعادة، وجريا على سَنَنِ الكلام؟
تياتيتوس
وما سؤالك؟

الغريب
_XXIVوذلك، أيّها الفتى الكريم، لأنّه ها نحن قد صرنا بحقّ مضطرّين لأن نفحص عن أشياء صعبة جدّا، إذ كلّ جزم بأنّ الشّيء قد يوجد ظاهرا ولا يوجد حقيقة، وبأنّا قد نقول قولا ويكون كذبا، كان دائما غابرا وحاضرا محفوفا بشبهات أيّما كثيرة. بل كلّ من قطع بأنّه يجوز حقّا أن نقول كذبا، وأن نتعقّل على جهة الكذب، فمن العسر جدّا، يا تياتيتوس، ألاّ يلزمه المحال، ولا يقع فيه.
تياتيتوس
ولِمَ؟
الغريب
لأنّ القضاء بأنّ قول الكذب ممكن إنّما يقتضي التّسليم بمبدأ شنع وهو أنّ اللاّموجود موجود، وإلاّ فالكذب يكون ممتنعا. وأنت، أيّها الفتى، لَتعلم أنّ بارمنيدس العظيم، أيّام أن كنّا أحداثا، ما غادر قطّ إلى الممات، يعاند ذلك المبدأ ويبطله، وهو ما انفكّ في نثره كما في شعره يلهج قائلا:
لا تطمعنّ أبدا في أن تثبت وجود اللاّموجود
لذا فلتنصرف في الطّلب عن ذاك السّبيل
فهذا ما كان حديثه. ولكنّي أنا أرى أنّ الأجود حتّى تظهر لنا الحقيقة بجلاء أن نشبع بحثا شيئا من الإشباع هذا المبدأ نفسه. فلنشرع إذًا، ما لم تمانع، بالبحث في هذا الأمر أوّلا.
تياتيتوس
إنّي لن أمانع، بل أفعل كما بدا لك. ولكن ليكن نظرك أوّلا في أجود الطّرق النّافعة في صحّة الدّليل، ثمّ امضي على بركة الله. فأنا لَسَالِكٌ معك كلّ طريق تسلكه.
الغريب
_XXV وهو ما سنفعله بإذن الله. فلتجبني الآن: إنّ ما لا يوجد بأيّ نحو كان، فهل يمكن أن يجري ذكره باللّسان؟
تياتيتوس
ولِمَ لا يجري ذكره باللّسان؟
الغريب
إنّ الأمر جدّ وليس باللّعب. فمثلا لو كان قد سمعنا سامع، ثمّ أخذ يروّي بهمّة في طلبنا، ورام أن يصيب الشّيء الّذي تنطلق عليه لفظة اللاّوجود هذه، فأيّ شيء سيكون عنده هذا الشّيء الّذي يصدق عليه اسم اللاّوجود، وكيف عساه أن يبيّن ذلك لمن يكون قد سأله في هذا الأمر؟
تياتيتوس
إنّ سؤالك لَصعب، ويكاد يكون ممتنعا حلّه على ذهن كذهني.
الغريب
ولكن، هناك على أيّة حال هذا الأمر البيّن، وهو أنّ اللاّوجود ليس يُطْلَقُ على موجود من الموجودات البتّة.
تياتيتوس
إنّه لا يُطْلَقُ على موجود من الموجودات البتّة.
الغريب
ولأنّه لا يُقَالُ على الوجود، فمن الممتنع أيضا أن يقال على شيء من الأشياء.
تياتيتوس
وكيف هذا؟
الغريب
أإنّك لَتَعْلَمُ بأنّه كلّما لفظنا بهذه العبارة شيء ما، فنحن نخلعها على موجود، إذ من المحال أن نستعملها مجرّدة عن كلّ الموجودات، غير دالّة على واحد منها إطلاقا.
تياتيتوس
إنّه من المحال ذلك.
الغريب
وإذا تقرّر هذا، فحتم إنّ من يجري لسانه بذكره شيئا من الأشياء، فقد جرى لسانه بذكره شيئا ما.
تياتيتوس
نعم.
الغريب
إذ أنت لا تنازع في أنّ قولنا شيء من الأشياء إنّما يدلّ على شيء ما، وقولنا أشياء ما إنّما يدلّ على شيئين أو أكثر من شيئين.
تياتيتوس
إنّي لا أنازع.
الغريب
والّذي لا يجري لسانه بذكره شيئا ما، فلامحالة لا يجري لسانه بذكره شيئا إطلاقا.
تياتيتوس
نعم، إنّه لا يجري لسانه بذكره شيئا إطلاقا.
الغريب
وعلى هذا فنفس الجزم بأنّ ذلك الرّجل هو حقّا يجري لسانه بالقول، ولكن ليدلّ على لاشيء هو قول غير صواب؛ أمّا الصّواب فسيكون بأن نجزم بأنّ هذا الرّجل لا يقول شيئا كلّما رام أن يجري لسانه بذكره اللاّوجود.
تياتيتوس
وأنا أُرى أنّ كلامك هذا قد أجاب جوابا شافيا عن مسألتنا.
الغريب
XXVI._ لا تفرح؛ إذ قد بقيت، أيّها الأخ الكريم، صعوبة كبيرة جدّا، وهي أمّ الصّعوبات، وأعلاها، إذ هي تتعلّق بنفس مبدأ المسألة.
تياتيتوس
وكيف ذلك، ألا هات بيانه، ولا تماطل به.
الغريب
إنّه بيّن أنّه يمكن أن يُضَمَّ إلى موجود موجود آخر.
تياتيتوس
بلا ريب.
الغريب
وهو لا يمكن إطلاقا أنّ يُضَمَّ إلى اللاّموجود موجود.
تياتيتوس
إنّه لايمكن إطلاقا.
الغريب
وأنت تعلم بأنّ العدد هو وجود أيضا.
تياتيتوس
بل العدد لَأَخْلَقُ الأمور بالوجود.
الغريب
فيلزم إذًا أنّه من الممتنع أيضا أن نصف اللاّوجود بالكثرة أو الوحدة.
تياتيتوس
يشبه أن يكون ذلك ممتنعا لِمَا ثَبَتَ من مقدّمات.
الغريب
وإذا بان ذلك، أفكان من سبيل لأن يجري ذكر اللاّموجودات، أو اللاّوجود على لساننا، أو نستحضرهما بأذهاننا استحضارا كيفما كان، ولا نستعمل فيهما العدد؟
تياتيتوس
زدني بيانا.
الغريب
أفلا ترى أنّه حين نقول اللاّموجودات، فنحن إنّما نورد كثرة عدديّة.
تياتيتوس
حقّا.
الغريب
وحين نقول اللاّوجود، فنحن إنّما نورد الوحدة؟
تياتيتوس
بلا ريب.
الغريب
ومع ذلك فنحن كنّا قد قرّرنا بأنّه ليس صوابا بأنّ نضمّ الوجود إلى اللاّوجود.
تياتيتوس
لقد قرّرنا ذلك حقّا.
الغريب
فعسى أن تكون قد فهمت حقّ الفهم لِمَ كان اللاّوجود بمجرّده هو ممتنعا بحقّ أن يجري ذكره على اللّسان، أو يتعقّله ذهن، وأنّه بذلك الاعتبار إنّما يكون غير ممكن أن يُتَعَقَّلَ، أو يُدَلَّ عليه بلفظ، أو يُعْطَى له حدّ أو رسم.
تياتيتوس
ذلك هو عين الصّدق.
الغريب
أمّا خشيتي فأن أكون آنفا قد ضللت حين صرحّت بأنّي لَذَاكِرٌ أُمَّ صعوبات تلكم المسألة.
تياتيتوس
يا ويح نفسي، أو توجد صعوبة أخرى أعظم من الّتي بسطت؟
الغريب
ألا ضلّ ضلالك، أيّها الفتى الكريم، فكيف غاب عنك ممّا بُسِطَ سلفا أنّ اللاّوجود لَيَدْفَعُ كلّ من رام إبطاله إلى صعوبات تضطرّه لأن يناقض نفسه بنفسه؟
تياتيتوس
ألا زدني بيانا.
الغريب
وما حاجتك لأن تطلبه منّي؟ أفما تبّيّنت بأنّي حين وضعت هذا المبدأ بأنّ اللاّوجود لا يمكن أن يكون فيه معنى الوحدة ولا الكثرة، فأنا قد أثبتّ له الوحدة بنفس قولي ذاك، لأنّي قلت اللاّوجود.
تياتيتوس
بلى.
الغريب
وكذلك حين قلت بأنّه لا يمكن أن يُعْطَى له حدّ أو رسم، أو يتعقّله ذهن، أو يجري بذكره لسان.
تياتيتوس
بلى إنّي قد تبيّنت.
الغريب
وأنا حينما أروم بأن أضمّ الوجود إلى اللاّوجود، فإنّما أناقض المبدأ الّذي قد سبقت بوضعه.
تياتيتوس
إنّك تناقضه.
الغريب
لذا فأنا حينما ضممته إليه، فقد ضممته كما لو ضُمَّ إلى شيء ما.
تياتيتوس
نعم.
الغريب
وحينما نعتّه بالّذي لا يُعْطَى له رسم أو حدّ، أو يجري بذكره لسان، فإنّما جرى بذكره لساني وكأنّه شيء واحد.
تياتيتوس
بلا ريب.
الغريب
ولكن قد كنّا حكمنا بأنّه لكي يكون كلامنا على جهة الصّدق، فلا بدّ أن نُحْجِمَ عن أن نصف اللاّوجود بالكثرة، أو الوحدة، بل لا بدّ أن نُحْجِمَ أيضا عن أن نسمّيه إطلاقا، لأنّنا إن سمّيناه فإنّا نخلع عليه ضرورة صورة الوحدة.
تياتيتوس
حقّا.
الغريب
XXVII._ وإذ أنا آنفا، والآن، قد ظُهِرَ عليّ في حجّتي المبطلة للاّوجود، فلا تطمعن في أن تجد عندي الجواب عن حقيقة العبارة الدّالة على اللاّوجود، ولكن لولا ألتمسناها عندك؟
تياتيتوس
وكيف ؟
الغريب
فأنت فتى شابّ، فلتجرّد الهمّة والقوّة ولتلتمس أن تقول شيئا حقّا في اللاّوجود من غير أن تخلع عليه الوجود، أو الوحدة، أو الكثرة العدديّة.
تياتيتوس
إذًا فسأكون قد استحوذت عليّ شهوة عمياء بلهاء لأن أطلب هذا الأمر، وأنا قد رأيت لأيّ شيء أنت نفسك كنت قد أفضيت.
الغريب
لذا فليدعه كلانا، ولنكتف بالقول، راجين أن نلاقي ذات يوم رجلا ذا قدرة على حلّه هذه الصّعوبة، بأنّ السّوفسطائيّ بدهائه العظيم قد استطاع أن يختبأ في مكان لا يمكن كشفه البتّة.
تياتيتوس
لقد اختبأ في مكان لا يمكن كشفه.
الغريب
ولكن حين نقول عنه بأنّه ذو صناعة تصنع الخيالات، فبِيُسْرٍ سوف يجيبنا، ويردّ علينا بنفس ألفاظنا، وحين نسميّه بصانع الصّور، فسوف يحتجّ علينا قائلا: وما تريدون بالصّور؟ فلا بدّ إذًا، ياتياتيتوس، أن ننظر في أيّ جواب قد نجيب به عن مسألة هذا الخصم القويّ الشّكيمة.
تياتيتوس
وما في ذا من صعوبة؟ فقد نذكر له الصّور المنعكسة في الماء، والمرايا، والصّور المرسومة والمنحوتة، وما أشبهها من صور أخرى.
الغريب
XXVIII. _ إنّه ظاهر، ياتياتيتوس، أنّك ما لاقيت قط سوفسطائيّا.
تياتيتوس
ولِمَ؟
الغريب
أو تظنّه ذا عينين مغلقتين، أو غير ذي عينين؟
تياتيتوس
ولِمَ؟
الغريب
لأنّك إن أجبته بهذا الجواب، وذكرت له المرايا، والقوالب، فسوف يهزأ بك لِكَلاَمِكَ له كلاما لا يُقْصَدُ به إلاّ من يرى الأشياء ببيان. أمّا هو فسوف يُرَائِي بأنّه غير ذي معرفة بالمرايا، والماء، والنّظر أيضا، وسوف يقتصر على أن يسألك أيّ شيء يمكن أن يستفيده من كلّ كلامك ذاك؟
تياتيتوس
وأيّ شيء؟
الغريب
إنّه الأمر المشترك بين كلّ تلك الأشياء الكثيرة، والّتي يُعْطَى لها اسم واحد الصّورة، ويقال عليها وكأنّها شيء واحد. فكيف سيكون جوابك إذًا، ألا انصر رأيك، ولا تنهزمنّ عن خصمك ولو بقيد أنملة.
تياتيتوس
فلا بدّ، أن نقول حينئذ، أيّها الغريب، بأنّ الصّورة إنّما هي موضوع ثان يُنْسَخُ عن الموضوع الحقيقيّ ويكون شبيها به.
الغريب
وهذا الموضوع الشّبيه، أتُرَاهُ يكون هو نفسه حقيقيّا، أم أيّ شيء يقال عليه شبيها؟
تياتيتوس
إنّه لا يمكن أن يكون حقيقيّا، بل يكون مماثلا للحقيقيّ.
الغريب
وأنت تعلم بأنّ الموضوع الحقيقيّ هو الّذي يوجد حقيقة.
تياتيتوس
نعم.
الغريب
ولكن أنت تعلم أيضا بأنّ ما لايكون حقيقة يكون مضادّا للحقّ.
تياتيتوس
إنّه لَمُضَادٌّ للحقّ.
الغريب
فيلزم، على ما وضعت، أنّ الّذي يكون مماثلا للحقيقيّ لا يوجد حقيقة، لأنّك أنت قد رفعت عنه الوجود الحقيقيّ.
تياتيتوس
ولكن هو يوجد بنحو من الأنحاء.
الغريب
ومع هذا فعندك هو ليس يوجد الوجود الحقيقيّ.
تياتيتوس
بلا ريب إنّه لا يوجد الوجود الحقيقيّ، بل هو صورة حقيقيّة فقط.
الغريب
فالشّبيه بالموضوع الحقيقيّ إذًا، وإن تقرّر أنّه لا يوجد وجودا حقيقيّا، فهو حَقِيقَةً ما يُطْلَقُ عليه اسم الصّورة.
تياتيتوس
واعجبي، ألا انظر إلى الوجود واللاّوجود كيف قد تداخلا تداخلا عجيبا.
الغريب
إنّه لَتَدَاخُلٌ عجيب حقّا. وأنت، بلا شكّ، قد تبيّنت في كلّ هذا، كيف أنّ السّوفسطائيّ ذا المائة رَأْسٍ قد اضطرّنا مرّة أخرى إلى أن نُقِرَّ بما يعاند ما كنّا قد تسلّمنا من مبدأ وهو أنّ اللاّموجد لَيُوجَدُ بنحو من الأنحاء.
تياتيتوس
إنّي قد تبيّنت هذا جيّدا.
الغريب
إذًا فكيف السّبيل لأن نعطي حقيقة صناعة هذا الرّجل من غير أن نناقض أنفسنا بأنفسنا؟
تياتيتوس
وما كلامك، وما تخشاه حتّى قلت هذا القول؟
الغريب
إذ حين نقول بأنّ السّوفسطائيّ إنّما يخدعنا بخيالات، وبأنّ صناعته هي صناعة الخداع، أفليس ذلك إنّما في معنى قولنا إنّ صناعته شأنها أن تحدث في أذهاننا ظنونا كاذبة؟
تياتيتوس
إنّ ذلك لفي هذا المعنى حقّا، وليس في غيره.
الغريب
وأنت تعلم بأنّ التّعقّل على جهة الكذب، إنّما هو التّعقّل على ضدّ ما هو موجود.
تياتيتوس
إنّه التعقّل على ضدّ ما هو موجود.
الغريب
فلا تنازع إذًا في أنّ التّعقّل على جهة الكذب إنّما هو تعقّل ما ليس بموجود.
تياتيتوس
إنّي لا أنازع حتما.
الغريب
وهذا التعقّل على جهة الكذب، أهو تعقّل ما ليس بموجود على أنّه ليس موجودا، أم هو تعقّل ما ليس بموجود إطلاقا على أنّه موجود بنحو ما؟
تياتيتوس
بل بلا ريب، هو لايمكن أن يكون كذب بنحو من الأنحاء، إلاّ إذا كان التعقّل الكاذب هو تعقّل ما ليس بموجود على أنّه موجود بنحو ما.
الغريب
وكذلك التعقّل الكاذب هو تعقّل ما يوجد مطلقا على أنّه لا يوجد مطلقا.
تياتيتوس
نعم.
الغريب
فهذا التعقّل هو تعقّل كاذب أيضا.
تياتيتوس
إنّه تعقّل كاذب.
الغريب
ويكون، على هذا النّمط، الكلام كاذبا إذا قضى فيما يوجد بأنّه لا يوجد، وفي ما لا يوجد بأنّه يوجد.
تياتيتوس
نعم، إنّ الكلام لا يوصف بالكذب إلاّ متى كان بأحد ذينك النّحوين ليس غيرهما.
الغريب
نعم إنّه لا يكون كذلك إلاّ بأحد ذينك النّحوين ليس غيرهما. ولكن السّوفسطائيّ سوف يعاند هذا الموضع. وكلّ رجل عاقل أيضا. لأنّه، ياتياتيتوس، كيف سيصحّ حينئذ الكذب، وقد قلنا آنفا بأنّ اللاّموجودات لا يجري بذكرها لسان، ولا تُعْطَى حقيقتها، ولا صورة لها في الذّهن؟
تياتيتوس
وكيف له ألاّ يلومنا على قولنا خلاف ما قلنا آنفا وقد تجاسرنا على الجزم بأنّه هناك كذب في الظّنون والكلام. لأنّنا حينئذ سنضطرّ لأنّ نضمّ أبدا الوجود إلى اللاّوجود، وفيما مضى نحن كنّا قد حكمنا بأنّ ذلك لَمِنْ أَمْحَلِ المحال؟
الغريب
XXIX._ لله درّ حافظتك. أمّا الآن فهل تعلم ما ينبغي أن نفعله في أمر السّوفسطائيّ؟ فأنت قد تبيّنت أنّنا ما بقينا في فحصنا عنه نترتّبه تحت جنس صنّاع الأكاذيب والمشعوذين، فإنّ صعوبات جمّة سَتَنْثَالُ علينا من كلّ حَدَبٍ وصَوْبٍ.
تياتيتوس
بحقّ إنّها لَصُعُوبَاتٌ جمّة.

الغريب
ومع هذا فما بسطنا منها ليس إلاّ غيض من فيض، بل أكاد أجزم بأنّها لَلاَ متناهية العدد.
تياتيتوس
فمن المحال إذًا أن نقف على حقيقة السّوفسطائيّ وهذه صفته.
الغريب
سامحك الله، أو تريدنا أن نفشل في هذه المنازلة وننكص عنها؟
تياتيتوس
كلاّ، بل ما وجدنا سبيلا لأن نمسك بهذا الرّجل يسيرا أو كبيرا، فلابدّ أن نثبت فيه.
الغريب
إذًا، فأنت على ما اعترفت، لن ترى بأسا، بل ستكون على غاية من السّرور إن نحن أصبنا وسيلة تخلّصنا ولو تخليصا هيّنا من سلطان تلك الحجّة القويّة جدّا.
تياتيتوس
بلا ريب.
الغريب
وعندي أيضا هذا الرّجاء الشّديد الّذي أطلبه منك.
تياتيتوس
وأيّه؟
الغريب
بألاّ تراني عينك كما لو ترى قاتلا لأبيه.
تياتيتوس
وما هذا؟
الغريب
هذا هو أنّنا لا مندوحة لنا حتّى تستقيم حجّتنا من أن نراجع مبدأ أبينا بارمنيدس، وأن نجرّد كلّ الأدلّة من أجل إثبات أنّ اللاّوجود إنّما يوجد بنحو ما، وأنّ الوجود هو لا يوجد بنحو ما.
تياتيتوس
وبحقّ، إنّه لَلْأَمْرُ الّذي ينبغي أن ننظر فيه.
الغريب
وضرورته بيّنة لنفس عينيّ الأعمى كما يُقَالُ. لأنّنا ما لم نبطل مبدأ بارمنيدس، ورضيناه، فسيكون أبدا خلفا القول بوجود كلام كاذب، أو ظنّ كاذب، أو خيالات، أو صور، أو نسخ، أو أوهام، أو وجود صناعات موضوعها تلكم الأشياء.
تياتيتوس
لقد صدقت حقّا.
الغريب
لأجل ذلك، فقد وجب أن نبطل مبدأ أبينا. أمّا لو كنت تجد في ذاك شيئا من الحرج فلنضرب كلّ الصّفح عن هذه المسألة.
تياتيتوس
كلاّ، بل لا بدّ أن نمضي قدما في بحثنا، وألاّ نلتفت لأيّ عائق من العوائق.
الغريب
إذًا، فلي طلب ثالث غير عسير.
تياتيتوس
وما هو؟
الغريب
قد أسلفت بالقول بأنّي كنت دائما أحسّ بالخور كلّما رمت إبطال ذلك المبدأ، والآن أيضا إنّي أحسّ بالخور.
تياتيتوس
نعم لقد قلته.
الغريب
ولذا فما أخشاه، بعد اعترافي ذاك، أن تعدّني أنت بأنّي لَمَجْنُونٌ حين تراني أنتقل دفعة واحدة من أقصى طرف إلى أقصى طرف. ومع هذا، فلتعلم أنّي إنّما لإرضائك إنّما ألتمس نقض ذلك المبدأ إن كان حقّا يوجد له نقض.
تياتيتوس
بل لن أرى أبدا أيّ طعن فيما ستقوله في نقضك للمبدأ ووضعك للأدلّة المبطلة له. فامض على بركة الله مطمئنّ البال، سَعِيدَه.
الغريب
XXX._ فليت شعري من أين سيكون البدأ في هذا الدّليل العظيم؟ أفلا ترى، يافتى، أنّه هذا هو السّبيل الّذي ينبغي أن نتّخذه؟
تياتيتوس
وأيّه؟
الغريب
إنّه بأن نبدأ أوّلا بإمعان النّظر في الأشياء الّتي تظهر لنا بيّنة لئلاّ يرد إلينا منها الوهميّ فنَتَسَلَّمَهُ جميعا بيسر على أنّه لَمَعْنَى بَيِّنٌ نِعِمَّا.
تياتيتوس
ألا زدني تبيانا.
الغريب
إنّي أكاد أجزم بأنّ بارمنيدس، وكلّ الّذين قصدوا إحصاء الموجودات وتعيينها، إنّما قد عبثوا بنا كما شاؤوا في حديثهم لنا عنها.
تياتيتوس
وكيف هذا؟
الغريب
فكلّهم قد تكلّموا وكأنّهم يقصّون خرافة على أطفال. فواحد قد قال بأنّ الموجودات عددها ثلاثة، وفيها من يقاتل أحدها الآخر، ثمّ يصيرون إلى الحُسْنَى، فيتناكحون وينجبون أطفالا ويربّونهم. وثان زعم بأنّه لا يوجد إلاّ شيئان الرّطب واليابس، أو الحرارة والبرودة، وهذان عنده يوجدان معا، ويتناكحان. أمّا عندنا، فإنّ أتباع مدرسة إيلاء من إكزينوفان، ومن تقدّمه أيضا، فقد التزموا بأنّ ما كان يسمّونه بالكلّ إنّما هو وجود واحد، وكانوا يصفونه في أساطيرهم بذلك النّحو. ثمّ نَبَغَ بعد هؤلاء شياطين أيونيا، وصقليّا، فبدا لهم أنّ الأصوب إنّما أنّ يُؤَلَّفَ بين المبدأين الاثنين، فقضوا بأنّ الوجود هو معا كثير وواحد، وأنّ أسبابه الفاعلة هي العدواة والمحبّة. أمّا ذوات الأصوات القويّة من هذه الشّياطين فقد حكمت بأنّ المخالفة الّتي في الوجود هي مؤالفة أبديّة. وذوات الأصوات الرّخيمة فلم يروا هذه الشدّة في المخالفة الأبديّة. بل الكلّ عندهم، إنّما يكون تارة واحدا، ومُؤْتَلِفًا بتأليف أفروديت، وتارة يكون كثيرا وفي نزاع بينه وبين نفسه بفعل مفتّن من المفتّنين. فأيّ من هذه الأقوال صواب وأيّها غير صواب، إنّه لَمِنَ الصّعوبة بمكان الفصل فيها؛ ثمّ هو من سوء الأدب، ومن تعدّي المرء لطور نفسه أن يُقْدَحَ في كلام هؤلاء السّلف العظيم في أمور شريفة غاية الشّرف. ولكنّه لنا أن نصرّح بهذا الأمر ولا نخشى لومة لائم أبدا.
تياتيتوس
وما هو؟
الغريب
بأنّ هؤلاء ما اعتنوا لنا كبير عناية، نحن العوامَّ. بل كلّهم قد تركنا وراءه ومضى إلى غايته في دليله من غير أن ينظر إلينا إن كنّا نقدر على أن نجاريهم في بيانهم، أم لسنا نقدر.
تياتيتوس
وما هذا؟
الغريب
فأنت حين تسمع لواحد منهم يقول بأنّه يوجد، أو قد حدث موجودات كثيرة، أو موجود واحد، أو موجودان، أو تسمع لآخر يقول بأنّ الحرارة لَتختلط بالبرودة، ويضع الانفصال والتّركيب، وهلمّ جرّا، فنشاداني إيّاك الله، ياتياتيوس، أن تجيبني بصدق إن كنت تفهم شيئا من كلّ هذا الّذي يقولون. فأنا حينما كنت حدثا، فكلّما قرع سمعي كلام في اللاّوجود ممّا يحيّرنا الآن، كنت أظنّ أنّني قد فهمته حقّ الفهم. أمّا السّاعة، فأنت لَتَرَى بأمّ عينك كيف هو محيّرنا أيّ حيرة.
تياتيتوس
إنّي لَأَرَى هذا حقّا.
الغريب
كذلك فقد تكون حالنا بالقياس إلى الوجود كما قد بان أمرها بالقياس إلى اللاّوجود. إذ حين يجري ذكره بلساننا فنتوهّم بأنّنا نعلمه بغير عناء، وإن لم نعلم العبارة الأخرى. والحقّ أنّ مقدار ما نعلمه من الوجود هو عين مقدار علمنا باللاّوجود.
تياتيتوس
ليس هذا ببعيد.
الغريب
وكذا حالنا بالقياس إلى سائر العبارات الأخرى الّتي سلف ذكرها.
تياتيتوس
بلا ريب.
الغريب
XXXI._ فلو شئت، فلنرجأ إلى وقت آخر النّظر فيها جلّها، ولنأخذ في الفحص أوّلا عن أعظمها كلّها وأعلاها.

تياتيتوس
لاجرم أنّك إنّما تريد أن ننظر في الوجود أوّلا حتّى نعلم كلّ من يجري لسانه بذكره هذه العبارة فَلِيَدُلَّ بها على أيّ شيء؟
الغريب
أصبت الفهم يا تياتيتوس. وأجود السّبل لهذه الغاية عندي هي بأن نسأل هؤلاء سؤالنا لمن هو بين ظهرانينا، وبذا النّحو: يا هؤلاء، يا من زعمتم بأنّ الكلّ هو الحرارة والبرودة، أو هو أصلان متشابها الطّبيعة، فحين تقولون بأنّ الاثنين معا، أو كلّ واحد من الاثنين مجرّدا عن الآخر هو موجود، فأنتم تريدون أن تدلّوا بهذه العبارة الوجود على أيّ شيء؟ وأيّ شيء ينبغي أن نفهم نحن من تلك اللّفظة؟ أهو أصل ثالث يُزَادُ إلى الأصلين الأوّلين؟ وحينئذ الكلّ سيكون ثلاثة أشياء لا شيئين اثنين فحسب. وإن أنتم دللتم به على واحد من الأصلين، فالأصل الآخر لن يكون موجودا، ولن يكون هناك شيئان بل شيء واحد أبدا، أيّما ما كان الأصل الّذي ستجعلونه مُسَمَّى الوجود.
تياتيتوس
هذا حقّ.
الغريب
إذًا فعندكم الوجود إنّما يُدَلُّ به على الأصلين معا.
تياتيتوس
عسى أن يكون هذا كذلك.
الغريب
فنجيبهم، ولكنّكم، أيّها الأفاضل، بذلك أيضا أنتم تجعلون بيّن الجعل أمرين اثنين أمرا واحدا.
تياتيتوس
جوابك على غاية من الصّدق.
الغريب
ولأنّنا محتارون، فهلاّ شرحتم لنا ببيان ما تقصدون بعبارة وجود، إذ لا شكّ أنّكم لَتَعْلَمُونَ مدلولها من زمن بعيد. ونحن فقد كنّا إلى الغاية نتوهّم معرفتنا به، أمّا السّاعة فترونا نتخبّط من الحيرة. فلتفيدونا أوّلا في هذا الأمر فلا نُرَائِيَكُمْ بأنّنا نفهم عنكم، ونحن لا نفهم عنكم. أليس، يافتى، حين نتكلّم بهذا الكلام، ونطلب من هؤلاء ومن كلّ من جعل الكلّ فوق الواحد، هذا الطّلب، فسنكون، إن شاء الله، على المَحَجَّةِ البيضاء؟
تياتيتوس
إنّنا سنكون على المحجّة البيضاء حتما.
الغريب
XXXII . _ أو ما ترى أنّنا ينبغي أيضا أن نستخبر بجدّ من الّذين قد جعلوا الكلّ واحدا أيّ شيء يا هؤلاء أنتم تعنون بالوجود؟
تياتيتوس
بلى إنّ ذلك لَواجب ضرورة.
الغريب
فليجيبونا إذًا عن هذا السّؤال: أَإنّكم قد قضيتم بأنّه لا يوجد إلاّ وجود واحد؟ وأنت لن تنازع في أنّ جوابهم سيكون: نعم إنّا قد قضيناه.
تياتيتوس
نعم إنّي لا أنازع.
الغريب
فنسألهم: وعبارة الوجود هذه إنّما تدلّ عندكم على شيء؟
تياتيتوس
وجوابهم سيكون: نعم.
الغريب
فنسألهم: وهذا الشّيء هل هو عين ما يُدَلُّ عليه بلفظة الواحد، وهل أنتم إنّما تستعملون عبارتين مختلفتين لتدلّوا بهما على أمر واحد؟
تياتيتوس
وكيف سيكون جوابهم أيّها الغريب؟
الغريب
إنّه بيّن، ياتياتيتوس، أنّ كلّ من اعتقد ذلك المبدأ المذكور، فسوف يستصعب الجواب عن هذا السّؤال وعن كلّ سؤال آخر.
تياتيتوس
ولِمَ؟
الغريب
لأنّه كلّ من تقدّم وأثبت بأنّه لا يوجد إلاّ الواحد، فسيحسّ بالخلف إن هو رام بعدها أن يثبت وجود اسمين اثنين.
تياتيتوس
بلا ريب.
الغريب
وبالجملة فسيكون خلفا أن نقبل بأنّ للاسم وجودا ولو بنحو من الأنحاء.
تياتيتوس
ولِمَ؟
الغريب
وذلك لأنّ كلّ من أثبت أنّ الاسم هو غير المسمّى فقد أثبت شيئين اثنين لامحالة.
تياتيتوس
لا محالة.
الغريب
أمّا إن هو أثبت أنّ الاسم عين المسمّى، فإثباته لا محالة سيكون في معنى قوله إن الاسم لا يدلّ على شيء؛ وإن أصررنا على أنّه لَيَدُلُّ على شيء، فلن يكون إلاّ اسما لاسم ليس غير.
تياتيتوس
حقّا ما قلت.
الغريب
والواحد الّذي ما هو إلاّ وحدة الواحد، لن يكون هو نفسه إلاّ وحدة اسم.
الغريب
لن يكون إلاّ وحدة اسم ضرورة.
الغريب
وكيف سيقولون في الكلّ، أيقولون بأنّه غير الواحد الموجود أم هو عين الواحد الموجود؟
تياتيتوس
بل سيكون جوابهم بلا ريب: إنّه عين الواحد الموجود، وهو قولهم الّذي قد دأبوا عليه.
الغريب
وإن صحّ أنّ الواحد هو الكلّ كما عبّر عن ذلك شِعْرًا بارمنيدس نفسه حين أنشد:
إنّه لَشَبِيهٌ بكرة تمّت أطرافها تَقْوِيسَا
وأطرافها قد تساوت عن المركز بُعْدَا
وأن تكون جهة أكبر من أختها أو
أصغر فهذا أمر ممّا لا يكون بَتَاتَا
فهذا الموجود الموصوف سيكون له وسط وأطراف، وإن كان ذا وسط وأطراف، فلا محاله هو ذو أجزاء.
تياتيتوس
إنّه ذو أجزاء لا محالة.
الغريب
ومع ذلك فلا مانع يمنع أن يكون الشّيء المُقَسَّمُ إلى أجزائه، ذا وحدة متى أُخِذَ من حيث هو جملة أجزاء، فيكون واحدا، فهو جملة وهو كُلٌّ.
تياتيتوس
نعم، لا مانع لذلك البتّة.
الغريب
وحيئذ سيكون محالا أن يكون الشّيء عين الواحد.
تياتيتوس
ولِمَ؟
الغريب
لأنّ الواحد حقّا وبالتّمام هو غير ذي أجزاء إطلاقا.
تياتيتوس
نعم إنّه غير ذي أجزاء إطلاقا.
الغريب
وكلّ شيء كهذا الشّيء يكون مركّبا من أجزاء كثيرة فليست حقيقته حقيقة الواحد التّامّ.
تياتيتوس
ضرورة.
الغريب
ولكنّ الوجود الموصوف بالوحدة، أ هو واحد أم كلّ، أم أنّك ترى بأنّه لا ينبغي البتّة وصف الوجود بأنّه كلّ.
تياتيتوس
إنّه صعب جدّا أن أتبيّن أيّ الأمرين الرّاجح، وأيّهما المرجوح.
الغريب
حقّا ما حكمت. إذ أنّ الوجود الموصوف بالوحدة لن يكون أبدا عين الواحد، لأنّ الكلّ هو فوق الواحد.
تياتيتوس
نعم.
الغريب
أمّا إن قلنا بأنّ الوجود ليس كلاّ، لأنّه لمّا اتّصف بالوحدة صار واحدا، والكلّ المطلق موجود، فسيكون الوجود فقيرا من نفسه لا محالة.
تياتيتوس
لا محالة.
الغريب
وإن صحّ أن الوجود كان فقيرا من نفسه، فسيلزم أنّ الوجود غير موجود.
تياتيتوس
اضطرارا.
الغريب
ويكون الكلّ أيضا فوق الواحد، لأنّ الوجود يكون قد اتّصف بصفة تخصّه، والكلّ قد اتّصف بصفة تخصّه.
تياتيتوس
نعم.
الغريب
أمّا إن كان الكلّ لا يوجد إطلاقا، فالوجود كذلك لن يوجد إطلاقا، ولن يكون أبدا ذا قوّة على الوجود.
تياتيتوس
ولأيّ شيء؟
الغريب
لأنّ كلّ ما يحدث فإنّما يحدث وهو في صورة الكلّ، لذلك فمن أثبت الواحد والكلّ، فلا بدّ أن يرفع ضرورة الوجود، والكون.
تياتيتوس
لعمري، يشبه أن يكون الأمر كما وصفت.
الغريب
وأيضا ما لايكون كلاّ، فلا يمكن أن يكون ذا كمّ، لأنّ كلّ من كان ذا كمّ أيّا كان، فهو بالضّرورة مصوّر بصورة الكلّ.
تياتيتوس
إنّه بالضّرورة مصوّر بصورة الكلّ.
الغريب
وهناك صعوبات أخرى جمّة، كلّ صعوبة تنطوي على صعوبات عويصة الحلّ، وهي كلّها تلزم عن كلّ من قال بأنّ الموجود هو اثنان، أو بأنّ الوجود هو واحد.
تياتيتوس
وإنّ الصّعوبات الّتي عرضنا لها آنفا قد بيّنت لنا ذلك بما كفّى ووفّى: فكلّ صعوبة تخلف أختها، والمتأخرّة هي أبدا أبلغ تحييرا من الّتي تقدّمتها، وأشدّ عقدة.
الغريب
XXXIII._ اعلم أنّنا لم نعرض لكلّ الّذين فصّلوا القول غاية التّفصيل في الوجود، واللاّوجود، والقدر الّذي ذكرناه عنهم لَمُغْنٍ. أمّا الآن فلابدّ أن ننظر في طوائف أخرى انتحلت مذاهب مغايرة، لعلّنا إذا ما تممّنا هذا البحث، نُصَدِّقْ بلا مرية بأنّ الوقوف على طبيعة الوجود ليس بأقلّ صعوبة من الوقوف على طبيعة اللاّوجود.
تياتيتوس
لننظر في هؤلاء أيضا.
الغريب
و إذا رأيت هذه الطّوائف يُحَاجِجُ بعضها بعضا في أمر الوجود رأيت حربا وقتالا بين عمالقة كبار.
تياتيتوس
وكيف ذلك؟
الغريب
إذ منهم من أهبط إلى الأرض كلّ ما أصله السّماء والغيب، وضمّ بقوّة بين يديه صخورا وسلاسل. ولمّا كان هؤلاء ما قبضت أيديهم إلاّ على أشياء صفتها هذه الصّفة، فقد حكموا بعناد كبير بأنّه ليس يوجد إلاّ ما يُلْمَسُ، ويقاوم. لذلك فقد عدّوا الوجود عين الجسم، والجسم عين الوجود. وإذا سمعوا فيلسوفا من طائفة أخرى يذكر بأنّه من الموجودات ما لايكون جسما، سخروا منه مرّ السّخريّة، وصمّوا آذانهم عن أن يسمعوه.
تياتيتوس
بحقّ، إنّهم أناس لَشَدِيدُو المراس، أيّها الغريب، فأنا كنت قد لاقيت بعضهم ذات مرّة.
الغريب
من أجل ذلك كان الّذين يعاندونهم وأعينهم إلى الملأ الأعلى، وعالم الغيب، إنّما يتلطّفون في معاندتهم إيّاهم حتّى يلزموهم بوجود صور عقليّة لا جسميّة هي الجوهر الحقّ. أمّا أجسام خصومهم الّّتي يثبتونها فقد طحنوها بحججهم وأقوالهم شرّ الطّحن، ومن بعد أن كانت تُرَى هي الجوهر، فهم لا يقرّون لها إلاّ بالكون المحض. أَمَا رأيت، ياتياتيوس، كيف هي ضروس هذه الحرب بين الطّائفتين؟
تياتيتوس
بلى، لقد رأيت.
الغريب
و بالواجب أن نسأل كلّ واحد منهما أن يبيّن لنا أمر ما كان قد عدّه هو الجوهر.
تياتيتوس
وكيف لهم أن يبيّنوه لنا؟
الغريب
أمّا الّذين جعلوا الوجود للصّور، فعسى أن نستفيد منهم مطلوبنا بيسر شديد، فهم لعمري، لَأَلْيَنُ عريكة وأرحب ذرعا. وأمّا الّذين جعلوا الوجود كلّه قسرا وقهرا للجسم، فصعب جدّا أن ننال منهم بُغْيَتَنَا، بل يكاد يكون ذلك مستحيلا. ومع هذا فلي طريقة ربّما تنفعنا في كسب مطلوبنا.
تياتيتوس
وأيّها؟
الغريب
إنّما الخير لو كان لنا من سبيل نجعلهم به حقّا أدمث خلقا، وأسهل خليقة. وإذ ذلك ليس في مقدورنا، فلنتوهّم أنّهم قد رضوا بأن يجاوبونا بلين وطيب خاطر. وأنت تعلم أنّ الرّضا الّذي ينبغي للمرء أن يقيم له وزنا ليس رضا أهل اللّؤم عنك، بل رضا أهل الكرم والفضل. وفي كلّ الأحوال، فليس الّذي يشغلنا هو هؤلاء أنفسهم، بل أن ندرك الحقّ ليس غير.
تياتيتوس
لقد صدقت.
الغريب
XXXIV._ فلنتوهّم أنّ هؤلاء قد لانوا ورضوا أن يجيبونا بطيب خاطر، ولتكن أنت تُرْجُمَانَهُمْ.
تياتيتوس
لأكن أنا ترجمانهم.
الغريب
فلو سُئِلُوا إن كان حيوان ما حيّ مائت هو شيئا، أفسيكون جوابهم نعم؟
تياتيتوس
نعم سيكون جوابهم نعم.
الغريب
ولو سئلوا إنّ هذا الحيوان الحيّ هل هو جسم حيّ، أفسيجيبون نعم؟
تياتيتوس
سيجيبون نعم
الغريب
فالنّفس إذًا عندهم هي موجودة.
تياتيتوس
إنّها موجودة.
الغريب
وهم بلا ريب، لَيَعْتَرِفُونَ بأنّ من النّفوس ما تكون عادلة، ومنها ما تكون ظالمة، ومنها ما تكون حليمة، ومنها ما تكون سفيهة.
تياتيتوس
بلا ريب.
الغريب
والنّفس إن اتّصفت بالعدل فَلِحُلُولِ العدل فيها، وإن اتّصفت بضدّه فلحلول ضدّه فيها.
تياتيتوس
وهذا أيضا ممّا سيقرّون به.
الغريب
وكلّ ما يصحّ أن يوجد في محلّ، أو لا يوجد، فهو ضرورة موجود ما.
تياتيتوس
إنّه موجود ما ضرورة.
الغريب
وإذ صحّ أنّ العدل موجود، وكذلك الحكمة، وعامّة الفضائل، وأضدادها هي معان موجودة، وإذ صحّ أنّ النّفس الّتي هي محلّ لها كلّها هي أيضا موجودة، فهذه المعاني أهي عندهم كلّها أمور خفيّة أم منها ما يكون ظاهرا وملموسا.
تياتيتوس
بل هي عندهم تكاد تكون كلّها أمورا خفيّة.
الغريب
وهذه المعاني الخفيّة هل هي ذوات أجسام؟
تياتيتوس
وهاهنا، فقد يجيبونك بأكثر من جواب. أمّا النّفس فهم يرونها ضربا من الجسم. وأمّا الحكمة وسائر الأمور الأخرى الّتي أحصيتها، فهم في وَجَلٍ منها، مذبذبين في أمرها، لا يجرأون على أن ينكروا وجودها ألبتّة، ولا أن يجزموا بالقطع إنّها لَأَجْسَاٌم كُلُّهَا.
الغريب
إنّه بيّن، ياتياتيتوس، أنّ هؤلاء الرّهط قد صاروا أكثر كرامة. أمّا الذّين كانوا قد نبتوا من الأرض ورضعوا من ثديها، فهم لن يشعروا أبدا بالحياء، بل سيصرّون بكلّ عناد على أنّ كلّ ما لا يمكن قبضه باليد فلا وجود له إطلاقا.
تياتيتوس
ذلك ما هو أمرهم حقّا.
الغريب
فلنطّرد إذًا في سؤالينا إيّاهم، لأنّهم ما قبلوا بوجود غير الجسم وإن كان صغيرا جدّا، فذلك مُغْنٍ لنا. وليجيبوا الآن عن ذا: أيّ شيء هو، ليت شعري، هذا المشترك بين الأمور اللاّجسميّة والجسميّة حتّى جاز القول بأنّ الأولى كما الثّانية كلاهما هو لَمَوْجُودٌ؟ أمّا لو تحيّروا في أن يجدوا جوابا لذلك، فلنر إن هم سيقبلون بحدٍّ للوجود كهذا الحدّ.
تياتيتوس
ألا أظهره لنا حتّى نرى ما عسى أن يكون رأيهم.
الغريب
فأنا أقول بأنّ كلّ ما كان ذا قوّة ما طبيعيّة في أن يفعل أو ينفعل عن شيء من الأشياء وإن بلغ الغاية في الصّغر، ولو مرّة واحدة، فهو موجود حقّ. فالوجود إذًا ليس شيئا آخر إلاّ القوّة.
تياتيتوس
وإذ هم لا يملكون حدّا أجود، فلا جرم أنّهم سيقبلون بحدّك هذا.
الغريب
وإن كنّا لانمنع أن يصير لنا رأي آخر فيما يقبل، فلنجتمع كلّنا أوّلا على هذا الحدّ.
تياتيتوس
لنجتمع كلّنا عليه.
الغريب
XXXV._ ولنمرّ الآن إلى الطّائفة الأخرى، أي أصحاب الصّور، ولتكن أنت أيضا ترجمانهم.
تياتيتوس
لأكن أيضا ترجمانهم.
الغريب
أيّتها الطّائفة إنّكم لَتفصلون الكون عن الوجود، وتجعلون الوجود غير الكون، والكون غير الوجود.
تياتيتوس
نعم إنّا لَنَفْعَلُ هذا.
الغريب
وتقولون إنّ الواسطة في إدراك الكون هو البدن والحسّ، أمّا الوجود الحقّ الّذي أبدا هو هو لا يتغيّر، أمّا الكون فيتغيّر لدخوله تحت حكم الزّمن، فالسّبيل إليه إنّما بالنّفس والعقل فحسب.
تياتيتوس
نعم إنّا لَنَقُوله.
الغريب
وهل أنتم تعنون بكلا نوعي الإدراك شيئا آخر غير ما قد قلنا سلفا؟
تياتيتوس
وكيف هذا؟
الغريب
بأنّه كلاهما لَفِعْلٌ وانفعال لازمان عن قوّة سببها التقاء شيئين اثنين. إنّك ياتياتيتوس ربّما لن تفهم جواب هذه الطّائفة في هذه المسألة، أمّا أنا فربّما فاهمه خير منك لِطُولِ معاشرتي لها.
تياتيتوس
فكيف سيكون جوابهم إذًا؟
الغريب
إنّهم لن يوافقونا على ما قلنا آنفا لأفراخ الأرض في أمر الوجود.
تياتيتوس
وما الّذي قد قلنا؟
الغريب
لقد قلنا إنّ الحدّ المرضيّ للوجود هو قوّته على الانفعال أو الفعل في أيّ شيء وإن بلغ الغاية في الصّغر.
تياتيتوس
حقّا.
الغريب
أمّا هذه الطّائفة فستجيبنا بذا: إنّا لانماري في أنّ الكون هو قوّة على الفعل والانفعال. ولكن الوجود فهو بريء منهما تمام البراءة.
تياتيتوس
أو لا ترى، أيّها الغريب، شيئا من الصّدق فيما زعموا؟
الغريب
بل لَئِنْ كان فيما زعموا شيء من الصّدق، فليجيبونا جوابا شافيا بيّنا إن كانوا يعترفون أيضا بأنّ النّفس لَهِيَ تعلم الوجود، والوجود هو مَعْلُومٌ.
تياتيتوس
إنّهم لَيَعْتَرِفُونَ بذلك.
الغريب
وإذ هم يعترفون به، فأن يَعْلَمَ، وأن يُعْلَمَ أَكِلاَهُمَا فعل أم انفعال، أم فعل وانفعال معا أم أحدهما فعل وثانيهما انفعال، أم كلاهما لا هذا ولا ذاك؟
تياتيتوس
لاشكّ أنّ جوابهم سيكون أن يَعْلَمَ، وأن يُعْلَمَ، لا أحد منهما فعل أو انفعال، وإلاّ فقد كانوا سيناقضون ما قد سبق أن وضعوه.
الغريب
ومع ذلك فهو لامندوحة لهم من أن يعترفوا أنّه لو صحّ أن يَعْلَمَ هو أن يَفْعَلَ، فسيلزم ضرورة صحّة أن يكون معلوما فهو أن يكون منفعلا. وحينئذ فالوجود الّذي يكون معلوما بالعلم، سيكون متحرّكا ما كان معلوما، وسيكون منفعلا، أمّا لو كان الوجود ساكنا فما كان ليمكن ذلك.
تياتيتوس
حقّا ما قلت.
الغريب
فبحقّ الآلهة يا تياتيتوس، أفما ترى بأنّا قد قبلنا من غير معارضة قويّة بأنّ الحركة، والحياة، والنّفس، والعقل كلّها أمور لا محلّ لها من الوجود المطلق، وأنّ هذا الوجود هو معطّل عن الحياة، والتعقّل، وأنّه على سُبْحَانِيَّتِهِ، فلا عقل له، وهو جامد بلا حركة.
تياتيتوس
سيكون هذا، أيّها الغريب، بحقّ تسليما منّا لهم عجيبا.
الغريب
وهل يجوز أن نقول إنّ الوجود هو ذو عقل، ولكنّه معطّل عن الحياة؟
تياتيتوس
كلاّ إنّه لا يجوز.
الغريب
وهاتان الصّفتان العقل والحياة أيوجدان للوجود ولا يكونان في نفس؟
تياتيتوس
بل لا بدّ للوجود أن يكون ذا نفس حتّى يكون ذا عقل وحياة.
الغريب
وإن كان ذا عقل وحياة ونفس، فكيف يكون الوجود جامدا بإطلاق، والحياة فاشية فيه كلّه.
تياتيتوس
إنّ هذا لا يكون ألبتّة.
الغريب
إذًا فلا بدّ أن نسلّم أيضا بأنّ المُحَرَّكَ والحركة لَمِنَ الأمور الموجودة.
تياتيتوس
إنّها من الأمور الموجودة حتما.
الغريب
لذلك، ياتياتيتوس، كان لو كانت كلّ الموجودات ثابتة، لامتنع إطلاقا أن تَتَعَقَّلَ ذات من الذّوات، أو أن يكون موضوع من المواضيع ممّا يُتَعَقَّلُ.
تياتيتوس
بلا ريب.
الغريب
ونحن إن سلّمنا بالمبدأ الآخر ورضينا بأنّ الأشياء كلّها هي في حركة دائبة، لاضْطُرِرْنَا لأن نلتزم مذهبا يرفع أيضا تمام الرّفع كلّ تعقّل للوجود.
تياتيتوس
وكيف هذا؟
الغريب
أَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ أنّ الشّيء لا يكون هو هو، وموجودا في حال هي هي إلاّ إذا كان ثابتا.
تياتيتوس
إنّي لَأَعلم هذا حقّا.
الغريب
وحين لا يكون الشّيء على ذلك الشّرط المذكور، أفيمكن أن يُتَعَقَّلَ بنحو من الأنحاء؟
تياتيتوس
كلاّ إنّه لا يُتَعَقَّلُ إطلاقا.
الغريب
لهذا فإن كلّ من أبطل العلم، والتعقّل، فإن هو أثبت شيئا واحدا لأيّ شيء كان، فلابدّ أن ننقض دعواه بكلّ حجّة قويّة.
تياتيتوس
بلا ريب.
الغريب
من أجل ذلك، كان الفيلسوف الّذي إنّما يضع جميع الخير، وكلّ الفضل في العلم والتعقّل، إنّما يرى أنّ ضرورة الضّرورات، وواجب الواجبات هو نقض ذينك المذهبين معا، أي المذهب الأوّل الّذي يزعم بأنّ الوجود كلّه ثابت، وهو عقيدة إمّا أصحاب الوحدة، أو أصحاب الصّور الكثيرة، والمذهب الثّاني الّذي يزعم بأنّ الوجود كلّه متحرّك حركة دائبة. بل هو لَكَالطِّفْلِ الّذي شيمته أن يطلب الشّيئين معا، فهو لا يجد مندوحة من أن يثبت الثّابت كلّه، والمتحرّك كلّه، وأن يثبت الوجود والكلّ معا.
تياتيتوس
إنّ هذا لَحَقٌّ.
الغريب
XXXVI._ أو ما ترى، ياتياتيتوس، أنّنا قد وفّينا حدّ الوجود؟
تياتيتوس
بلى، إنّنا قد وفّينا حدّه بلا ريب.
الغريب
هيهات ثمّ هيهات، بل، عن قريب، سنعرف جميعا أنا وأنت، كم هو صعب جدّا الفحص عن الوجود.
تياتيتوس
أو هناك صعوبة أخرى، وأيّها؟
الغريب
واعجبي منك، يا فتى الخير، أَإِنَّكَ ما تبيّنت أنّ معرفتنا بحقيقة الوجود إنّما هي صفر تامّ، مع ظنّنا أنّنا ما قد تكلّمنا به فيه فهو عين الصّواب.
تياتيتوس
وأنا لَمَازِلْتُ أظنّ ذلك، ثمّ إنّه ما بان لي بعد أين كان ضلالنا المزعوم؟
الغريب
لذا فأمعن النّظر في آخر نتائجنا، وتبيّن إن كان يمكن أن نسأل فيها عين الأسئلة الّتي سألناها من قبل الّذين كانوا يضعون بأنّ الكلّ هو الحرارة والبرودة.
تياتيتوس
وأيّ أسئلة؟ ألا ذكّرنيها.
الغريب
حبّا وكرامة. وسوف اتّخذ لأجل ذلك سبيل سؤاليك كما كنت قد سألتهم حتّى نستفيد بعض الفائدة.
تياتيتوس
افعل ما شئت.
الغريب
إِنَّكَ لَتَعْلَمُ بأنّ الحركة والسّكون إنّما هما معنيان متضادّان تضادّا أوّليّا.
تياتيتوس
نعم إنّي أعلم.
الغريب
وأيضا أنت لَتَقُولَ بأنّ كلاّ منهما على السّواء هو موجود.
تياتيتوس
نعم إنّي لأقول.
الغريب
وإن أنت قد أثبتّ لهما الوجود، فأنت لا تريد بأنّ كليهما، أو كلاّ منهما هو ذو حركة.
تياتيتوس
إطلاقا.
الغريب
ولا بأنّ كليهما أو كلاّ منهما هو ذو سكون.
تياتيتوس
ألبتّة.
الغريب
بل أنت ترى أنّ الوجود هو معنى ثالث في النّفس فوق المعنيين الآخرين، وهذان المعنيان هو متضمّن لهما. ولأنّك اعتبرت اشتراكهما في الوجود، فقد قضيت بأن كليهما هو موجود.
تياتيتوس
وبحقّ، فحين يقال بأنّ الحركة ذات وجود، والسّكون ذو وجود، فَلِلذِّهْنِ أن يتبيّن معنى ثالثا فوق ذينك المعنيين، ألا وهو الوجود.
الغريب
فصحّ إذًا بأنّ الوجود نفسه ليس هو الحركة، ولا السّكون، بل أمرا ثالثا مغايرا لهما.
تياتيتوس
عسى ذلك.
الغريب
فيحصل أنّ الوجود من حيث حقيقته ليس بذي حركة ولا سكون.
تياتيتوس
إنّه ليس بذي حركة ولا سكون.
الغريب
ولكن أيّ شيء لابدّ للذّهن أن يعتبره حتّى يُحَصِّلَ معرفة بيّنة ومتينة بالوجود ؟
تياتيتوس
نعم، أيّ شيء ليت شعري؟
الغريب
أُرَى أنّه سيكون من الصّعوبة جدّا أن يجد الذّهن ذلك الشّيء. إذ إذا كان الشّيء ليس بذي حركة فكيف يكون ليس بذي سكون، وإن كان ليس بذي سكون، فكيف يكون ليس بذي حركة؟ والوجود، قد رأيت، فهو فوق ذينك المعنيين معا. أَفَتُرَاهُ يجوز أن يصحّ ذلك؟
تياتيتوس
كلاّ إنّه لا يصحّ إطلاقا.
الغريب
وهناك أمر آخر لا بدّ أن نذكّر به هاهنا.
تياتيتوس
وما هو؟
الغريب
إنّك لَتَذْكُر أنّه حينما طلبنا بأن نبيّن ما الشّيء الّذي ينطلق عليه اسم اللاّوجود، فقد احترنا حيرة عظيمة.
تياتيتوس
نعم لقد احترنا حيرة عظيمة.
الغريب
والآن، ونحن نطلب ما الشّيء الّذي يَنْطَلِقُ عليه اسم الوجود، أَفَتُرَى بأنّ حيرتنا فيه لَهْيَ أخفّ من حيرتنا تلك؟
تياتيتوس
بل إنيّ أُرَى، أيّها الغريب، أنّا حيرتنا هذه لَأعظم من تلك.
الغريب
فَلْنَبْقَ إذًا عند هذه الحيرة. وإذ هو قد تبيّن أنّ الوجود واللاّوجود قد تساوا في تحييرهما لنا، فلا جرم أنّه بأيّ مقدار من البيان سنرى أحدهما، فبنفس ذلك المقدار منه سنرى الآخر. وإن نحن قصرنا عن أن نرى هذا و ذاك، فلابدّ أن نجتهد في البحث عنهما معا، بلا فصل لهما، وألاّ نيأس أبدا.
تياتيتوس
وليكن الأمر كما أمرت.
الغريب
ألا هل أخبرتني: كيف هو يمكن أن يُطْلَقَ على شيء واحد أسماء كثيرة؟
تياتيتوس
وكيف ذلك، فلو ذكرت لي مثالا؟
الغريب
XXXVII._كإنسان واحد نصفه بأسماء كثيرة، فنخلع عليه لونا ما، وصورة ما، وطولا ما، وحسنة ما، وسيّئة ما، وهلمّ جرّا من أمور أخرى كثيرة، فنقول فيه هو إنسان، ولكن نقول فيه أيضا هو امرؤ خير، وهو كذا، وكذا من سائر الصّفات الّتي لا يحصرها عدد. وكذلك جميع الأشياء الأخرى، ففي كلّ واحد منها نثبت أنّه واحد، ولكن إذا تكلّمنا فيه تكلّمنا وكأنّه أشياء كثيرة وندلّ عليه بأسماء كثيرة.

تياتيتوس
هذا صحيح.
الغريب
فاعلم أنّه لو سمع كلامنا هذا فتى حدث أو شيخ كبير وكلاهما ما رسخت بَعْدُ قدمه في العلم، فسوف يستبشر أن وقع على غنيمة باردة. لأنّه ليس من الصّعب على كلّ من هبّ ودبّ أن يعجل بالردّ علينا قائلا: هَا إنّه لَمِنَ المحال العقليّ لأشياء كثيرة أن تكون واحدة، ولشيء واحد أن يكون كثيرا، وسوف لن يملّوا أيضا القول، حتما، هَا إنّه لا يجوز إطلاقا أن نقول الرّجل هو خيّر، بل لا يجوز إلاّ أن نقول الخير هو خير، والرّجل هو رجل. وقد تكون أنت نفسك، ياتياتيتوس، قد لاقيت كثيرا من هؤلاء الرّهط الّذين أولعوا بمثل هذه الحجج، وفيهم من قد طعن في السنّ، ذوي سفاهة في أحلامهم، قد أغوتهم مثل هذه السّخافات، وهم يتوهّمون أنّهم قد فازوا من الحكمة بالقَدَحِ المُعَلَّى.
تياتيتوس
نعم لقد لاقيت.
الغريب
ولذلك، فلتعلم أن كلّ الّذي سنقوله بطريق السّؤال إنّما المقصود به هؤلاء الرّهط، ومعهم الّذين كنّا نحاورهم آنفا حتّى تعمّ حجّتنا كلّ الّذين تحدّثوا في الوجود أيّا ما كان حديثهم.
تياتيتوس
وماذا لنا أن نسأل؟
الغريب
سنسألهم، يا تياتيتوس، بذا: يا هؤلاء أيّا من هذه الوجوه الثّلاثة أنتم ترضون: أنقول إنّ الوجود لا يوجد للحركة ولا للسّكون، ولا يمكن لصفة من الصّفات أن توجد لشيء من الأشياء، والأشياء كلّها لا يمكن أن تختلط معا، ولا يمكن ألبتّة أن يجامع بعضها البعض، أم نقول بل إنّ الأشياء كلّها توجد معا، وكلّ شيء يمكن أن يجامع كلّ شيء، أم نقول بل من الأشياء ما يمكن أن يجامع بعض الأشياء، ومنها ما لا يمكن أن يجامع الأخرى؟
تياتيتوس
أمّا أنا فلا معرفة عندي بما قد يكون جوابهم.
الغريب
فإنّه لك أن تأخذ الوجوه المذكورة وجها وجها، وتنظر فيما قد يلزم عن واحد واحد.
تياتيتوس
خيرا ما نصحت.
الغريب
فلننزل إذًا، ما لم تمانع، بأنّهم قد صرّحوا أوّلا بأنّه لا شيء يمكن أن يجامع أيّ شيء بأَيٍّ من الأنحاء. فحينئذ، إنّه سيلزم لا محالة بأنّ الحركة لا نسبة لها البتّة إلى الوجود، وأيضا السّكون لا نسبة له إلى الوجود.
تياتيتوس
إنّهما لا نسبة لهما إلى الوجود ضرورة.
الغريب
وإذا كانا لا نسبة لهما إلى الوجود، فلن يوجدا.
تياتيتوس
لن يوجدا إطلاقا.
الغريب
وهذا لعمري إنّما يقتضي أوّل الاقتضاء بطلان جميع الأقوال الّتي سلفت، أي بطلان قول الّذين وضعوا الكلّ في حركة دائبة، وبطلان قول الّذين وضعوا الواحد الثّابت من حيث هو واحد، وبطلان قول الّذين وضعوا صورا كثيرة ثابتة وأزليّة. إذ كلّ هؤلاء الفلاسفة فقد أثبتوا الوجود للعالم، فمنهم من زعم بأنّه لَمتحرّك حقّا، ومنهم من زعم بأنّه لَساكن حقّا.
تياتيتوس
لقد صدقت.
الغريب
وأيضا فالفلاسفة الّذين وضعوا أن الكلّ هو يجتمع تارة، وينفصل أخرى، وهي إمّا طائفة ترى أنّ الوحدة إنّما تنشأ من اللاّمتناهي، واللاّمتناهي ينشأ من الوحدة، أو أخرى ترى أنّ العالم إنّما ينشأ عن عدد محدود من الأستقصات، وينحلّ أيضا إليها، فكيفما جعلوا صنفي التغيّر ذاك أيكونان أبدا معا، أم يتناوبان، فلا يمكن إطلاقا أن يصحّ ذلك الّذي أثبتوه إلاّ إذا كان اختلاط.

تياتيتوس
إلاّ إذا كان اختلاط.
الغريب
أمّا الّذين يمنعون أن يجامع شيء من الأشياء أي شيء آخر لا يكون هو، بل لا يجوّزون إلاّ أن يُطْلَقَ على الشّيء نفسه اسمه فحسب، أفمترى بأنّ هؤلاء لَأشدّ الطّوائف سخفا؟
تياتيتوس
وكيف هذا؟
الغريب
لأنّه في كلّ كلام لهم فهم مضطرّون لأن يستعملوا عبارات كهذه موجود، وبمفرده، وسائر الأشياء، وبالذّات. وإذ ظهر أنّه من غير الممكن أن يتفوّهوا بأيّ قول من غير أن يستعملوها، أو يستعملوا أشباهها، فلا ضرورة لأن يكون غَيْرُهُمْ حتّى يدحض شبهتم، بل إنّهم لَيَسْتَبْطِنُونَ عدوّهم ومناقضهم الّذي يحملونه معهم أينما ذهبوا، كذلك الرّجل المذكور الّذي كان أصله من أوريكلاس.
تياتيتوس
لقد أصبت التّشبيه نِعْمَ الإصابة، أيّها الغريب.
الغريب
أمّا إن نحن رضينا بأنّ لِكُلِّ شيء أن يجامع كلّ شيء، فما الّذي قد يلزم عن ذلك؟
تياتيتوس
إنّي أنا نفسي لَأَقدر أيضا على أن أجيب عن هذه المسألة.
الغريب
وما جوابك؟
تياتيتوس
سيلزم مثلا أنّ الحركة إذا جامعت السّكون فستقف ألبتّة، والسّكون إذا جامع الحركة فسيتحرّك ألبتّة.
الغريب
وهو بيّن أنّه من تمام المحال أن تكون الحركة من حيث هي حركة ساكنة، والسّكون من حيث هو سكون متحرّكا.
تياتيتوس
كلّ البيان.
الغريب
XXXVIII._ فما بقي إذًا إلاّ الوجه الثّالث.
تياتيتوس
نعم.
الغريب
وأنت لَتَعْلَمُ أنّ الصّدق لا يمكن ضرورة أن يخرج عن واحد من هذه الوجوه الثّلاثة، فإمّا أنّ الكلّ يختلط بالكلّ، أو لاشيء يجامع شيئا إطلاقا، أو من الأشياء ما يخالط أشياء، ومنها ما لايخالط.
تياتيتوس
بلا ريب.
الغريب
وهو قد تبيّن لنا إحالة ذينك الوجهين الأوّلين.
تياتيتوس
نعم، لقد تبيّنت لنا إحالة ذينك الوجهين.
الغريب
فلا بدّ إذًا لمن رام الصّدق أن يختار الوجه الثّالث.
تياتيتوس
بلا مرية.
الغريب
وإذ صحّ أنّ من الأشياء ما يختلط بغيرها ومنها ما لا يختلط، فهي إذًا لَبِمَنْزِلَةِ الحروف الّتي منها ما يجوز أن تجتمع بغيرها، ومنها ما لايجوز لها ذلك.
تياتيتوس
بلا ريب.
الغريب
وأنت لَتَعْلَمُ بأنّ الحروف الصّوتيّة هي تمتاز عن غيرها من حيث أنّها يمكن أن تترتّب بين الحروف فتصل بينها، ولولاها ما أمكن أن تنتظم معا سائر الحروف إطلاقا.
تياتيتوس
صدقت.
الغريب
والّذي له المعرفة بأيّ الحروف الّتي يجوز أن تجتمع معا، وأيّها الّتي لا ينبغي لها ذلك، أفهو أيّ رجل كان، أم ليس أيّ رجل كان، بل رجل ذو صناعة بهذه الأمور؟
تياتيتوس
بل رجل ذو صناعة بهذه الأمور.
الغريب
وصناعته هذه بما تسمّى؟
تياتيتوس
إنّها صناعة النّحو.
الغريب
وكذا في الأصوات الحادّة والثّقيلة. فالّذي له المعرفة بأَيٍّ منها يصحّ أن يأتلف، وأيّها لا يجوز أن يأتلف، فهو الموسيقيّ. أمّا الّذي لا معرفة له فذلك العامّيّ.
تياتيتوس
نعم.
الغريب
والتّفرقة بين من يعرف ولا يعرف هي لَكَذَلِكَ مطّردة في كلّ صناعة صناعة.
تياتيتوس
إنّها لَمطّردة حقّا.
الغريب
وعلى هذا، فلمّا كنّا قد اجتمعنا بأنّ الأجناس هي أيضا منها ما يجتمع ومنها ما لا يجتمع، أفلا ترى أنّه من الواجب كذلك أن يكون علم نسترشد به في الكلام، حتّى نتبيّن بصواب، أيّا من الأجناس يمكن أن تجامع أيّا من الأجناس، وأيّا من الأجناس لا يمكن أن تجامع أيّا من الأجناس. وإن كان يوجد أجناس تخالط كلّ الأجناس الأخرى وتصل بينها، أو إن كان يوجد أجناس تكون سببا لقسمة أجناس غيرها؟
تياتيتوس
بل أن يكون علم بهذا المعنى، أيّها الغريب، لَمِنْ ضرورة الضّرورات.

الغريب
XXXIX._ وكيف سنسمّي هذا العلم يا تياتيتوس؟ أفلا نكون، ونحن نبحث في السّوفسطائيّ فقد وقعنا أوّلا من حيث لا نشعر على العلم الشّريف، أي الفلسفة؟
تياتيتوس
وما قولك؟
الغريب
أَإِنَّك لَتعلم بأنّ قسمة الأجناس ومعرفة أيّ جنس هوهو وليس غيره، وأيّ جنس هو غيره وليس هوهو إنّما من مشمولات علم الجدل.
تياتيتوس
نعم إنّي أعلم.
الغريب
فالعالم بذلك يستطيع أن يتبيّن بوضوح صورة ما واحدة تكون منتشرة في صور كثيرة كلّ واحدة منها منحازة الحقيقة، وتحتها صور كثيرة مختلفة الحقيقة تترتّب تحت صورة واحدة. وكلّ صورة من تلك واحدة تكون منتشرة بين صور كثيرة تترتّب تحت صورة واحدة. وفي آخر المرتبة سيرى أنّ هناك صورا كثيرة منحازة الحقيقة ومنفصلة عن بعضها البعض كلّ الانفصال. وهذه القدرة الّتي يعطيها هذا العلم إنّما هي قدرة على قسمة الأجناس جنسا جنسا، ومعرفة أيّ من الأنواع هي تترتّب تحت صورة واحدة، وأيّها لاتترتّب تحت صورة واحدة.
تياتيتوس
حقّا.
الغريب
وأنت تعلم بأنّ علم الجدل ليس يكون لأحد على التّحقيق والحقيقة إلاّ للفيلسوف.
تياتيتوس
نعم إنّه لا يكون إلاّ للفيلسوف على التّحقيق والحقيقة.
الغريب
فذلك ما هو المكان الّذي نصيب فيه الفيلسوف إذا ما طلبناه الآن، أو قادما. فهو أيضا صعب أن نبصره لشدّة ظهور المكان الّذي فيه. ولكنّ صعوبة رؤية الفيلسوف هي غير صعوبة رؤية السّوفسطائيّ.
تياتيتوس
وكيف ذلك؟
الغريب
لأنّ السّوفسطائي إنّما يختبأ في ظلمة اللاّوجود، ويطيل بها الإقامة، فالّذي يجعله صعبا أن يُرَى إنّما هو الظّلمة.
تياتيتوس
إنّها الظّلمة.
الغريب
أمّا الفيلسوف الّذي لا نظر له في كلّ كلامه إلاّ إلى الوجود، فالّذي يجعله صعبا أن يُرَى، إنّما هو قوّة ضياء المكان الّذي يضمّه. إذ أنّ العامّة لا تقوى أبصارها الكليلة على رؤية الأمور الإلاهيّة الشّريفة.
تياتيتوس
هذا الجواب كالأوّل هو صادق.
الغريب
فلنرجئ إلى وقت آخر النّظر في الفيلسوف، وتبيّن ما هو ما بقينا نروم ذلك. أمّا السّوفسطائي، فليس من شكّ أنّه ينبغي ألاّ نَنِيَ في طلبه، وألاّ نهدأ حتّى نكون قد استكنهناه تمام الاستكناه.
تياتيتوس
حقّا ما قلت.
الغريب
XL._ وإذ نحن كنّا قد اجتمعنا بأنّ من الأجناس ما يجامع بعضها بعضا، ومنها ما لا يجامع بعضها بعضا، أو يجامع قليلا من الأجناس فحسب، ومنها ما يجامع كثيرا من الأجناس، وأنّه من الأجناس ما يجامع كلّ الأجناس، ولا يعوقه عن ذلك شيء البتّة، فلنستمرّ في بحثنا على هذا النّمط. ولأنّه لو فحصنا في كلّ الصّور فقد نضطرب ويلتبس أمرنا، فلنقتصر على بعض الأجناس العالية جدّا، ولننظر في واحد واحد منها ما هو، وكيف هي يجامع بعضها بعضا. وبعد ذلك، فإمّا أن يصير الوجود واللاّوجود لنا بيّنين نِعِمَّا، وإلاّ فهذه الطّريقة ستكون قد أرتنا بعض الرّؤية إن كان اللاّوجود يوجد حقّا أو لا يوجد.
الغريب
ذلك ما ينبغي فعله.
الغريب
وأنت تعلم بأنّ أعلى الأجناس إنّما الّتي كنّا قد أسلفنا ذكرها، أي الوجود، والسّكون والحركة.
تياتيتوس
نعم إنّها لَأَعْلَى الأجناس.
الغريب
وقد قلنا بأنّ الجنسين الأخيرين لا يمكن أن يجامع أحدهما الآخر.
تياتيتوس
ألبتّة.
الغريب
أمّا الوجود فيجوز أن يخالط الجنسين معا، لأنّه كلاهما هو موصوف بالوجود.
تياتيتوس
بلا شكّ.
الغريب

فهناك إذًا ثلاثة أجناس.
تياتيتوس
إنّها ثلاثة أجناس بِحَقٍّ.
الغريب
وكلّ واحد من هذه الأجناس هو غير الجنس الآخر، ولكن هوهو نفسه.
تياتيتوس
نعم.
الغريب
وما معنى هذين اللّفظين الّذين نطقنا بهما، الهوهو، والغير؟ أهما جنسان مختلفان عن الأجناس الثّلاثة الأولى، وإن كانا لا يوجدان أبدا إلاّ مخالطين لها، فيتحصّل عندنا خمسة أجناس لا ثلاثة، أم أنّ الهوهو والغير ليسا هما إلاّ عبارتين مختلفتين إنّما نَدُلُّ بهما من غير أن نشعر على واحد من الأجناس الثّلاثة الأول؟
تياتيتوس
عسى ذلك.
الغريب
ومع هذا، فَبَيِّنٌ أنّ الحركة ليست هي عين الهوهو أو الغير، والسّكون أيضا ليس هو عين الهوهو أو الغير.
تياتيتوس
ولم ذلك؟
الغريب
لأنّ ما تشترك الحركة والسّكون في الاتّصاف به، لا يمكن إطلاقا أن يكون عين أحدهما.
تياتيتوس
ولِمَ ذلك؟
الغريب
لأنّه لو كان عين أحدهما لسكنت الحركة، وتحرّك السّكون. فأَيٌّ من الجنسين إذا اتّصف به الجنسان معا، فبالاضطرار ستنقلب طبيعة الجنس الآخر إلى ضدّها.
تياتيتوس
ستنقلب اضطرارا.
الغريب
وأنت تعلم بأنّ الحركة والسّكون إنّما يتّصف كلاهما بالهوهو، والغير.
تياتيتوس
حقّا.
الغريب
فلم يجز إذًا أن نقول بأنّ الحركة هي عين الهوهو أو الغير، ولا السّكون هو عين الهوهو أو الغير.
تياتيتوس
نعم إنّه لم يجز.
الغريب
ولكن هل يجوز أن نعدّ الوجود والهوهو بأنّهما شيء واحد؟
تياتيتوس
عسى ذلك.
الغريب
إذ لو كان الوجود والهوهو شيئا واحدا، والحركة هي موصوفة بالوجود، والسّكون موصوف بالوجود، فسيكون الحركة والسّكون أيضا شيئا واحدا.
تياتيتوس
وهذا محال.
الغريب
فمن المحال إذًا أن يكون الوجود والهوهو شيئا واحدا.
تياتيتوس
يُشْبِهُ أن يكون الأمر كما وصفت.
الغريب
فيلزم أنّ الهوهو إنّما هو صورة رابعة تُزَادُ إلى الصّور الثّلاث الأولى.
تياتيتوس
بلا ريب.
الغريب
وكذلك شأن الغير، أفنقول بأنّه جنس خامس يُزَادُ إلى الأجناس الأربعة المذكورة، أم هو اسم يقال على عين ما يقال عليه الوجود؟
تياتيتوس
ليس لي أن أقطع في هذا.
الغريب
ولكن أنت تعلم بأنّ من الأشياء ما وجودها يكون بإطلاق، ومنها ما وجودها بالإضافة إلى غيرها.
تياتيتوس
نعم إنّي أعلم.
الغريب
ومعلوم أنّ الغير إنّما يكون أبدا بالإضافة إلى غيره.
تياتيتوس
نعم.
الغريب
فلو كان الوجود عين الغير ولم يختلفا غاية الاختلاف لَمَا جاز ذلك. لأنّ الغير لو جامع الصّورتين معا، كالوجود، فسيكون غَيْرٌ لاَ غَيْرَ له حتّى يكون بالإضافة إليه غيرا. وأنت تعلم، بلا ريب، بأنّ كلّ غير لا يكون غيرا إلاّ بالإضافة إلى شيء آخر ضرورة.
تياتيتوس
كذلك هي حقيقة الأمور.
الغريب
فيلزم إذًا بأنّ الغير إنّما هو صورة خامسة يُزَادُ إلى الصّور المذكورة آنفا.
تياتيتوس
نعم.
الغريب
وهذه الصّورة إنّما هي تَسْرِي أيضا في سائر الصّور كلّها: إذ كلّ صورة من هذه الصّور الأخرى ليست بذاتها إنّما تكون غيرا لأختها، بل باتّصافها بصورة الغير.
تياتيتوس
اضطرارا.
الغريب
XLI._ فلنأخذ هذه الصّور الخمس صورة صورة، ولنقل فيها هذا القول.
تياتيتوس
وأيّ قول؟
الغريب
لننظر أوّلا في الحركة: فالحركة هي غير السّكون بإطلاق.
تياتيتوس
إنّها غير السّكون بإطلاق.
الغريب
فالحركة ليست هي السّكون.
تياتيتوس
ألبتّة.
الغريب
والحركة هي موجودة لأنّها تتّصف بالوجود.
تياتيتوس
إنّها موجودة.
الغريب
وهي أيضا غير الهوهو.
تياتيتوس
إنّها غير الهوهو.
الغريب
فالحركة ليست عين الهوهو.
تياتيتوس
إنّها ليست عين الهوهو بلا ريب.
الغريب
ومع هذا فقد كنّا رأينا بأنّ الحركة هي الهو الهو لأنّ كلّ شيء هو متّصف بالهوهو.
تياتيتوس
حقّا.
الغريب
فلا نتحرجّن إذًا من أن نقبل هذا اللاّزم بأنّ الحركة هي معًا الهو الهو، وليست الهو الهو. ولكن ذلك ليس لها من حيثيّة واحدة. بل إنّه يُقَالُ عنها الهو الهو من حيث هي في نفسها تتّصف بالهو الهو، و ليست الهوالهو، فمن حيث اتّصافها بالغير، فلاتّصافها بالغير إنّما فارقت الهوالهو، وجاز وصفها بضدّ الوصف الأوّل، بأنّها ليست الهوالهو.
تياتيتوس
حقّا ما قلت.
الغريب
ولذلك فإن صحّ أن نثبت أنّ الحركة قد تتّصف بالسّكون بنحو ما، فلن يكون من المحال أن نقول عنها بأنّها ثابتة.
تياتيتوس
نعم إنّه لن يكون من المحال، ولا سيّما إن كنّا نرضى بأنّه من الأجناس ما يجامع بعضها البعض، ومنها ما لا يجامع بعضها البعض.
الغريب
ونحن كنّا قد بينّا أنّ طبيعة هذه الأجناس ممّا يصحّ فيها ذلك.
تياتيتوس
بلا مرية.
الغريب
والحركة، فكما كنّا قد أثبتنا بأنّها غير الهوهو، وغير السّكون، فهل هي أيضا غير الغير؟
تياتيتوس
إنّها غير الغير لا محالة.
الغريب
وهي بنحو ما ليست بغير، وبنحو آخر هي غير، كما ظهر لنا ممّا قيل آنفا.
تياتيتوس
صدقت.
الغريب
وإذ نحن كنّا قد حصرنا الأجناس الّتي طلبنا النّظر فيها في خمسة، وإذ هو قد تقرّر عندنا بأنّ الحركة هي غير الأجناس الثّلاثة المذكورة، فهل من سبيل لأن نقرّر أيضا بأنّ الحركة لَهْيَ غير الجنس الرّابع الآخر؟
تياتيتوس
إنّه لامندوحة لنا من ذلك، إذ الأجناس لا يمكن أن يقلّ عددها عن الخمسة الّتي بينّاها.
الغريب
فجاز لنا أن نقطع إذًا بكلّ ثبات بأنّ الحركة هي غير الوجود.
تياتيتوس
إنّها غير الوجود.
الغريب
فالحركة إذًا هي لا وجود بحقّ، وهي وجود أيضا إذ هي تتّصف بالوجود.
تياتيتوس
لا محالة.
الغريب
فيلزم من هذا اضطرارا أنّ اللاّوجود هو موجود في الحركة وفي كلّ جنس جنس. لأنّ هذه الأجناس إنّما باتّصفاها بالغير تكون غير الوجود، فتنقلب لا وجودا، فيصدق أن نقول عنها بأنّها كلّها لا موجودات. ولكن هي أيضا متّصفة بالوجود، فهي كلّها موجودات.
تياتيتوس
عسى ذلك.
الغريب
فكلّ صورة إذًا هي وجود، وهي أيضا كثرة كاثرة من اللاّوجود.
تياتيتوس
نعم.
الغريب
والوجود نفسه هو كذلك غير سائر الأجناس الأخرى.
تياتيتوس
اضطرارا.
الغريب
فيلزم من هذا أنّه على قدر عدد الأجناس الأخرى الأغيار، يكون الوجود لا موجودا، وذلك لأنّه ليس إيّاها، فهو واحد في ذاته، وتكون هي ليست الوجود.
تياتيتوس
لكأنّ الأمر كما قد وصفت.
الغريب
وليس لنا أن نعجب من ذلك، فالأجناس هي يجامع بعضها بعضا. وإن كان من لا يرضى هذا الحكم، فما له إلاّ أن يراجع كلامنا من قبل أن يطلب إبطال ما وصلنا إليه من نتائج.
تياتيتوس
لقد صدقت.
الغريب
ولننظر في هذا الأمر أيضا.
تياتيتوس
وما هو؟
الغريب
إنّنا حين نقول اللاّوجود، فليس لِنَدُلَّ به على أمر هو ضدّ الوجود، بل على أمر هو غير الوجود.
تياتيتوس
ألا زدني بيانا.
الغريب
فمثلا حين نذكر شيئا ما لا يكون طويلا، أفلندلّ بهذه العبارة ضرورة على الصّغير، وليس على المساوي؟
تياتيتوس
بل إنّها لا تدلّ ضرورة على الصّغير.
الغريب
إذًا فليس صحيحا أن يُقَالَ بأنّ سلب الشّيء هو إثبات لضدّه. بل إنّ حرف السّلب (لا) إن وُضِعَ قبل الشّيء، فليس لإثبات الضدّ، بل لإثبات المخالف.
تياتيتوس
حقّا.
الغريب
XLII._ ولننظر في هذا الأمر الآخر.
تياتيتوس
وأيّه؟
الغريب
أما ترى أنّ طبيعة الغير هي مُقَسَّمَةٌ كالعلم؟
تياتيتوس
وكيف ذلك؟
الغريب
فأنت تعلم بأنّ العلم أيضا هو واحد، ولكن كلّ جزء جزء منفصل منه إنّما ينظر في موضوع مخصوص، ويسمّى باسم مخصوص. من أجل ذلك إنّما كانت العلوم والصّناعات كثيرة.
تياتيتوس
حقّا ما قلت.
الغريب
وكذا حال الغير، فطبيعته واحدة، وهو ذو جزئيّات كثيرة.
تياتيتوس
عسى ذلك، ولكن لو زدت هذا الكلام بيانا.
الغريب
أنت تعلم بأنّ من الأمور الّتي يقال عليها الوجود، أمرا هو يقابل الجميل.
تياتيتوس
نعم إنّي أعلم.
الغريب
وهذا الأمر ذو اسم أم غير ذي اسم؟
تياتيتوس
إنّه ذو اسم، إذ كلّما قلنا لا جميل، فلندلّ به أبدا على شيء طبيعته هي غير طبيعة الجميل.
الغريب
فلتجبني الآن؟
تياتيتوس
عمّاذا؟
الغريب
أليس اللاّجميل إنّما هو موجود مُتَرَتِّبٌ تحت جنس من الأجناس، ويُأْخَذُ على أنّه مقابل لموجود آخر؟
تياتيتوس
بلى.
الغريب
فاللاّجميل إذًا إنّما هو موجود أُخِذَ على أنّه مقابل وجود آخر.
تياتيتوس
حقّا ما قلت.
الغريب
وعلى هذا، فليس صوابا أنّ ندّعي بأنّ الجميل هو حريّ أن يوجد أكثر من اللاّجميل.
تياتيتوس
إنّه ليس صوابا إطلاقا.
الغريب
بل لا بدّ أن نقول بأنّ اللاّطويل والطّويل يوجدان على نحو سواء.
تياتيتوس
إنّهما يوجدان على نحو سواء.
الغريب
وأيضا بأنّ اللاّعدل والعدل إنّما يوجدان على نحو سواء.
تياتيتوس
بلا ريب.
الغريب
وكذا في سائر الأشياء، إذ الغير، كما قد تبينّا، هو موجود، وإذا كان موجودا فكلّ جزئيّاته ستكون لامحالة موجودة ككلّ موجود.
تياتيتوس
إنّها موجودة حتما.
الغريب
وعلى هذا فقد ظهر أنّ مقابلة جزئيّات الغير بالوجود، لا يقتضي أن تكون هذه غير موجودة، وذلك لأنّ ما يدلّ عليه الغير ليس أمورا مضادّة للوجود، بل أمورا تغايره فحسب.
تياتيتوس
قول بيّن غاية البيان.
الغريب
وأيّ اسم قد نعطي لكلّ أمر من هذه الأمور بهذا الاعتبار؟
تياتيتوس
إنّه اللاّوجود بلا ريب، هذا اللاّوجود الذّي ما انفككنا نطلبه بغاية معرفة السّوفسطائيّ.
الغريب
فبان إذًا بأنّ اللاّوجود لَيُوجَدُ ككلّ وجود سواء بسواء، وأنّه ذو وجود حقّ وطبيعة يختصّ بها، وكما كنّا قد أثبتنا بأنّ الطّويل هو طويل، والجميل هو جميل، وأيضا بأنّ اللاّطويل هو لاطويل، واللاّجميل هو لاجميل، فلنا كذلك أن نثبت بأنّ اللاّوجود هو لاوجود، وأن نعدّه جنسا يضاف إلى سائر الأجناس الكثيرة. وأنت يا تياتيتوس، أفلا ترى بأنّ هذا الّذي قلنا هو صواب؟
تياتيتوس
إنّه صواب حقّا.
الغريب
XLIII._ وأنت الآن لا بدّ أن تكون قد تبينّت أيضا بأنّا إنّما قد أتينا ما كان ينهانا عنه بارمنيدس، وتعدّينا وصيّته الّتي كان وصّانا بها.
تياتيتوس
وكيف ذلك؟
الغريب
ذلك أنّنا قد سلكنا طريقا طالما نهانا من سلوكه، وبعد أن قد أمعنّا فيه، ظهر لنا كذب قوله.
تياتيتوس
وكيف هذا؟
الغريب
هذا أنّه ممّا كان يقول:
لا تطمعنّ أبدا في أن تثبت وجود اللاّموجود
لذا فلتنصرف في الطّلب عن ذاك السّبيل
تياتيتوس
ذلك ممّا كان يلهج به حقّا.
الغريب
أمّا نحن فقد أثبتّا بأنّ اللاّموجود موجود، وبينّا أيّ شيء هو صورته. إذ قد أظهرنا بأنّ الغير هو موجود، وبأنّه منتشر بين الموجودات باعتبار إضافة بعضها إلى بعض، وحكمنا بأنّ كلّ جزئيّة في الغير تُأْخَذُ على جهة المقابلة للوجود فهي اللاّموجود حقّا.
تياتيتوس
وهذا الّذي أثبتناه هو عين الصّدق بلا ريب.
الغريب
لذا فلن يكون صوابا زعم كلّ زاعم بأنّنا ما أثبتا وجود اللاّموجود إلاّ بوضعنا إيّاه على أنّه شيء هو ضدّ الوجود. إذ هذا الضّرب من اللاّوجود قد صرنا من زمن بعيد لا يعنينا إن كان موجودا أو غير موجود، وإن كان يمكن حدّه أو لايمكن حدّه. أمّا هذا الرّسم الّذي رسمنا به اللاّوجود آنفا فإمّا أن يُبَيِّنَ لنا من يعانده وجه كذبه، وإمّا، إن لم يستطع إبطاله، أن يسلّم كما سلّمنا بأنّ الأجناس يجامع بعضها بعضا، والوجود والغير لَيُوجَدَانِ فيها كلّها، ويجامع أحدهما الآخر، وبأنّ الغير هو موجود لاتّصافه بالوجود، ومع اتّصافه بالوجود فهو ليس عين الوجود، بل غيره، ولأنّه غير الوجود، فَبَيِّنٌ نِعِمَّا أنّه لا وجود اضطرارا. وأيضا الوجود، فلاتّصافه بالغير، فهو غير سائر الأجناس، وإذ هو غير سائر الأجناس كلّها، فهو ليس عين واحد منها جنسا جنسا، أو مجموعة ألبتّة، بل هوهو نفسه. فلا جرم إذن أنّ أشياء أيّما كثيرة، الوجود ليس إيّاها، وسائر الأشياء كلّها شيئا شيئا، أو مجموعة هي باعْتِبَارٍ موجودة، وباعْتِبَارٍ آخر غير موجودة.
تياتيتوس
لقد قلت الصّدق.
الغريب
وإن كان من لا يرضى هذا البيان، فليأتنا بأحسن منه. أمّا إن ظللنا نسوق الحجج جزافا متوهّمين أنّا قد جئنا بالّذي لا يُقْدَرُ عليه بيسر، فقد نفني قوّانا في أمور غير ذات بال كما كنّا قد أسلفنا إظهاره. فهذه الأمور أيّا كان فله أن يفيد فيها بقول بلا عناء. ولكن لتنظر الآن في هذا الشّيء الصّعب والحسن.
تياتيتوس
وأيّه؟
الغريب
ما كنت قد قلت: بأن ندع تلك الدّقائق الّتي هي غير ذات فائدة، ونتقصّ القول المثبت بأنّ الغير هو هو بنحو ما، وأنّ الهوهو غير بنحو ما، وأن نرى ما الهو هو والغير. و أمّا أن نُرِيَ بأيّ نحو من الأنحاء بأنّ الهوهو غير، والغير هو هو، وأنّ الكبير هو الصّغير، والمشابه هو اللاّمشابه، وأن نولع بأن نثبت أبدا تلك المتقابلات، فليس هذا بالفحص الحقّ، وهو إنّما من خصال غِرٍّ متعلّم مُبْتَدِأ في نظره في الموجودات.
تياتيتوس
حقّا ما قلت.
الغريب
XLIV._ وكذلك أيّها الأخ الكريم، فكلّ من فصل كلّ شيء عن كلّ شيء، فقد أبان لنا ليس فقط خروجه عن القصد، بل وأيضا جهله جهلا مطلقا بالفلسفة وأسرارها.
تياتيتوس
ولِمَ؟
الغريب
لأنّه ليس شيء مُبْطِلٌ للقول إبطالا أشدّ من فصل كلّ شيء عن كلّ شيء، إذ أنّ الكلام لا يصحّ إلاّ بمجامعة الصّور بعضها لبعض.
تياتيتوس
هذا صحيح.
الغريب
فلتتبيّن إذًا، كم كان ضروريّا مقاومتنا لهؤلاء كما كنّا قد فعلنا، وكم كان واجبا إلزامنا إيّاهم بالتّسليم بأنّ الأشياء إنّما يخالط بعضها بعضا.
تياتيتوس
ومن أجل أيّ شيء وجبت هذه الضّرورة؟
الغريب
إنّها وجبت من أجل أن يصحّ وجود القول. إذ لو مُنِعْنَاهُ فسيلزم أمر شنع جدّا، وهو بطلان الفلسفة نفسها. وهنا فلا بدّ أن نتّفق أيضا في طبيعة القول. إذ لو حُرِمْنَاه بأن يُبْطَلَ وجوده، فسوف يكون ممتنعا أن نقول شيئا من الأشياء، ووجوده إنّما يبطل إن قبلنا بأن لا شيء قد يخالط أيّ شيء كان.
تياتيتوس
حقّا ما قلت. ولكن لماذا أنت قد حكمت بضرورة أن نتّفق الآن في طبيعة القول.
الغريب
إنّك حتّى تفهم مقصود ما طلبت، فالأجود أن نأخذ في البيان من هذا الموضع.
تياتيتوس
وأيّ موضع؟
الغريب
لقد كنّا أثبتنا آنفا بأنّ اللاّوجود إنّما هو جنس كالأجناس الأخرى، وأنّه منتشر في الموجودات كلّها.
تياتيتوس
نعم لقد أثبتناه.
الغريب
ولابدّ أن نرى الآن إن كان هو يخالط الظنّ والقول.
تياتيتوس
ولأيّ شيء؟
الغريب
لأنّه لو لم يخالطهما، فبالضّرورة سيكون كلّ شيء صادقا. وإن خالطهما، فسيكون ممكنا أن يكون الظنّ خاطئا، والقول خاطئا أيضا. إذ أنّ الخطأ في الظنّ أو القول إنّما هو قول اللاّموجود والحكم به.
تياتيتوس
صدقت.
الغريب
وإن صحّ وجود الخطأ، فسيصحّ وجود الكذب.
تياتيتوس
نعم.
الغريب
وإن صحّ وجود الكذب، فسيصحّ لامحالة وجود الخيالات والصّور والأوهام.
تياتيتوس
حقّا.
الغريب
وكنّا قد قلنا فيما سلف بأنّ السّوفسطائيّ إنّما قد اختبأ في ذلك المكان وهو قد منع منعا تامّا أن يكون للخطأ وجود، لأنّ اللاّوجود، على زعمه، لا يمكن أن يُتَصَوَّرَ ولا أن يُنْطَقَ به. إذ أنّ اللاّوجود لا يوجد ألبتّة بأيّ نحو من الأنحاء.
تياتيتوس
نعم لقد قلنا هذا.
الغريب
أمّا نحن فقد أثبتنا وجود اللاّموجود، والسّوفسطائيّ بعد هذا فلن يمكنه أبدا أن يعاند في هذا الموضع. ولكن هو قد يعاند معاندة أخرى بأن يصرّح بأنّه ليس كلّ الصّور ممّا يجوز اتّصافها باللاّوجود، بل من الصّور ما لا يمكن أن توصف باللاّوجود، كالظنّ والقول، وحينئذ فلن تكون ألبتّة صناعة الصّور والخيالات حيث نروم أن نصيب السّوفسطائيّ، إذ لا الظنّ ولا الكلام ممّا يتّصفان باللاّوجود. وأنت تعلم أنّه إن هما لم يتّصفا باللاّوجود فلا يمكن أن يكون هناك خطأ أصلا. لذلك ما وجب أن نبدأ بالفحص عن حقيقة القول، والظنّ، والتخيّل. إذ أننّا متى علمناها فسيمكننا أن نتبيّن اتّصافها كلّها باللاّوجود، وإن تبينّا ذلك، فسيمكننا أن نثبت وجود الخطأ، وإن أثبتناه، فسيمكننا حشر السّوفسطائيّ فيه، ورميه بتلك الصّفة. وإلاّ فإنّنا سنضطرّ لأن ننصرف عن ذاك الموضع لنبحث عنه في جنس آخر من الأجناس.
تياتيتوس
أيّها الغريب، يشبه أن يكون ما قلناه في السّوفسطائيّ أَوَّلَ الكلام بأنّه لَمِنَ الصّيد الّذي يصعب قنصه أيّما صعوبة هو صادق حقّ الصّدق. وبيّن أنّه لذو صعوبات جمّة. إذ ما إن يضع صعوبة واحدة، حتّى تنتصب كالحصن المنيع الّذي لا بدّ من معالجته حتّى نصل إليه. والآن كذلك ما كدنا ننتهي من هذه الصّعوبة الّتي عارضنا بها وهي منع أن يكون للاّوجود وجود، حتى عارضنا بأختها الّتي لا بدّ من حلّها بأن نثبت أن الخطأ إنّما هو يوجد في الظنّ والقول أيضا. وبعد أن نحلّ هذه الصّعوبة، فليس بعيدا أن يعارضنا بصعوبة أخرى، ويستمرّ الأمر كذا إلى ما لانهاية.
الغريب
ألا تشجّع، يا تياتيتوس، وحسبنا أنّنا نمضي قدما ولو يسيرا غاية اليسر. فإن أنت يئست هاهنا، فما كنت فاعلا في مواضع أخرى حيث لا يمكن أن نتقدّم بقيد أنملة، أو قد نُدْفَعُ أيضا إلى الوراء؟ فكما يقول المثل لا بدّ من زمن طويل لفتح مدينة. أمّا الآن، أيّها الأخ الفاضل، فبعد أن انتهينا من أعوص الصّعوبات الّتي ذكرت، فبحقّ أن نقول إنّنا قد استولينا على أمنع الحصون، وأنّ كلّ ما بقي منها فهو هيّن وأقلّ شأنا.
تياتيتوس
حقّا ما قلت.
الغريب
XLV._ فلنبدأ إذًا بالنّظر في القول والظنّ حتّى نتبيّن، كما قد طلبنا، إن كان فيهما اللاّوجود، أو إن كان كلاهما أبدا صادقين، ولا يكونان إطلاقا كاذبين.
تياتيتوس
نعم، لننظر.
الغريب
فلنبحث إذًا في الألفاظ كما كنّا قد بحثنا في الصّور والحروف. وحينئذ فقد نصيب الحلّ الّذي نريد الآن.
تياتيتوس
وما أنت قائل لي في الألفاظ؟
الغريب
إن كان أيّا منها ينتظم مع أيّ منها، أو إن كان لا واحد منها ينتظم مع أيّ منها، أو إن كان إنّما بعضها ينتظم مع بعضها، وبعضها لا ينتظم مع بعضها.
تياتيتوس
بل الوجه الأخير هو الصّحيح: أي أنّه بعض منها ينتظم مع بعض منها، وبعضها لا ينتظم مع بعضها.
الغريب
فأنت إنّما تريد بذلك أن تقول: إنّ الألفاظ الّتي يُنْطَقُ بها لفظا وراء لفظ فتدلّ على أمر ما، فهي المنتظمة معا. أمّا الّتي يُنْطَقُ بها كذلك، وتكون غير ذات معنى، فهي غير منتظمة معا.
تياتيتوس
ألا زدني بيانا.
الغريب
إنّي أريد نفس ما كان قد خطر ببالك، لمّا أجبتني بذلك الجواب. إذ هناك صنفان من العلامات الّتي تدلّ على الوجود دلالة صوتيّة.
تياتيتوس
وأيّهما؟
الغريب
إنّهما الأسماء والأفعال.
تياتيتوس
فبيّنهما لي الاثنين.
الغريب
فالعلامة الّتي تنطلق على الأفعال، فَتُسَمَّى بالفعل.
تياتيتوس
إنّها تسمّى بالفعل.
الغريب
أمّا العلامة الصّوتيّة الّتي تنطلق على الّذين يفعلون الفعل، فتسمّى بالاسم.
تياتيتوس
إنّها تسمّى بالاسم.
الغريب
وأنت تعلم بأنّا إن لفظنا بالاسماء فقط اسما وراء اسم، فلا نحصل ألبتّة على قول، وكذلك إن لفظنا بالأفعال فعلا وراء فعل من غير أسماء، فلا نحصل إطلاقا على قول.
تياتيتوس
ذلك ما لم أكن أعلمه.
الغريب
فلا جرم أنّك كنت ترى رأيا آخر لمّا أنت قد أجبتني. إذ ذلك ما كان قصدي حين قلت إنّ الأفعال أو الأسماء إن لُفِظَ بها هذا اللّفظ فلا يمكن أن ينشأ منها أبدا قول.
تياتيتوس
وأيّ لفظ؟
الغريب
فمثلا أفعال كهذه يمشي، يجري، ينام، وغيرها الّتي تدلّ كلّها على أعمال، فلو لفظناها فعلا وراء فعل، فلا يمكن ألبتّة أن ينشأ منها قول.
تياتيتوس
إنّه لا يمكن إطلاقا.
الغريب
وأيضا أسماء كهذه أسد، ظبي، حصان، وغيرها من الأسماء كلّها الّتي تدلّ على من قام بالفعل، فلو لفظناها اسما وراء اسم، فلا يمكن أن ينشأ منها قول ألبتّة. لأنّه ما لم نخلط الأفعال بالاسماء، فالمجتمع من الأسماء فقط، أو من الأفعال فقط، لا يمكن أن يدلّ على فعل موجود ما أو لافعله ، أو لاموجود ما إطلاقا. بل إنّه حين نخلط الأسماء بالأفعال فقط إنّما ينشأ القول، وأقلّه وأوّله أن يكون من اسم واحد وفعل واحد.
تياتيتوس
ألا زدني بيانا.
الغريب
أفما ترى مثلا أنّه حين يقال إنسان يتعلّم، فهذا أقصر القول وأوّله؟
تياتيتوس
بلى إنّي لَأَرَاه.
الغريب
فهذا القول أو ما يكون على نمطه، إنّما هو يخبر بأمر من الأمور لِشَيْءٍ ما قد كان في الزّمن الماضي، أو كائن الآن، أو سيكون مستقبلا، أي هو لا يقتصر فقط على أن يسمّي شيئا ما، بل هو يدلّ على أنّ أمرا ما هو يُفْعَلُ، بتركيب الأفعال إلى الأسماء. لأجل ذلك قد قلنا بأنّ الّذي يتكلّم على ذلك النّمط فهو ليس يسمّي فقط بل إنّه يقول قولا، وهو إنّما بتركيب الأسماء إلى الأفعال إنّما يُنْشِأُ القول.
تياتيتوس
هذا صحيح.
الغريب
XLVI._ وحينئذ، فمثلما أنّ الأشياء منها ما قد ينتظم معا، ومنها ما لاينتظم، كذلك العلامات الصّوتيّة، فمنها ما لاينتظم معا، ومنها ما ينتظم فينشأ عنها قول.
تياتيتوس
حقّا ما قلت.
الغريب
وهناك تنبيه آخر.
تياتيتوس
وأيّه؟
الغريب
إنّ القول إذا انتظم فهو بالضّرورة قول في أمر ما، ومن المحال أن يكون قولا في لا شيء.
تياتيتوس
إنّه من المحال أن يكون قولا في لا شيء.
الغريب
وهو لابدّ أن يكون على صفة من الصّفات.
تياتيتوس
بلا ريب.
الغريب
لِنَتَّخِذْ ذواتنا موضوعا لكلامنا.
تياتيتوس
الأمر ما أمرت.
الغريب
فلتسمع لهذا القول الّذي سأجمع فيه موضوعا إلى عمل بتركيب اسم إلى فعل. وأنت عليك أن تجيبني فيما هو موضوع هذا القول؟
تياتيتوس
سأجيبك بما يمكنني أن أجيب به.
الغريب
فليكن هذا القول القصير: تياتيتوس جالس.
تياتيتوس
نعم إنّه قصير جدّا.
الغريب
فعمّن يتحدّث؟
تياتيتوس
إنّه يتحدّث عنّي أنا.
الغريب
وهذا القول؟
تياتيتوس
وما هو؟
الغريب
تياتيتوس الّذي أحاوره الآن، هو يطير في الهواء.
تياتيتوس
إنّه يتحدّث عنّي أنا أيضا.
الغريب
والقولان كلاهما، هو كما قد قلنا، على صفة ما بالضّرورة.
تياتيتوس
إنّه بالضّرورة على صفة ما.
الغريب
وما الصّفة الّتي ينبغي أن نصف بها كلاّ منهما؟
تياتيتوس
بأنّ أحدهما كاذب، والآخر صادق.
الغريب
وأنت لا تنازع في أنّ الصّادق منهما إنّما هو الّذي يقول فيك أشياء موجودة كما هي موجودة.
تياتيتوس
بلا ريب.
الغريب
والكاذب هو الّذي يقول فيك أشياء غير الأشياء الموجودة.
تياتيتوس
نعم.
الغريب
أي إنّه يقول فيك أشياء غير موجودة على أنّها موجودة.
تياتيتوس
إنّه يقول فيّ أشياء غير موجودة على أنّها موجودة.
الغريب
فالأشياء الّتي يقولها عنك هي موجودة، ولكن هي غير الموجودة فيك، إذ هو يمكن، كما سبقنا بالبيان، لِشَيْءٍ واحد أن يقال عنه موجودات كثيرة، ولا موجودات كثيرة.
تياتيتوس
حقّا.
الغريب
والقول الثّاني الّذي قلته فيك فهو بيّن بما رسمنا من رسم للقول، بأنّه لَقَصِيرٌ جدّا.
تياتيتوس
وهو ما كنّا قد اجتمعنا عليه آنفا.
الغريب
وبيّن أيضا أنّه يتحدّث عن إنسان ما.
تياتيتوس
هذا صحيح.
الغريب
وهو بالضّرورة إنّما يتحدّث عنك أنت، وإلاّ فسيكون حديثه عن لا أحد.
تياتيتوس
إنّه بالضّرورة إنّما يتحدّث عنّي أنا.
الغريب
إذ لو كان حديثه عن لا أحد، لامتنع أن يكون قولا أصلا. فنحن قد بينّا فيما سبق أنّه من المحال أن يكون قول لا يتحدّث عن شيء إطلاقا.
تياتيتوس
هذا في غاية الصحّة.
الغريب
وعلى ذلك، فحين يقال عنك أشياء هي غير على أنّها عين الأشياء الّتي لك، أو أشياء غير موجودة على أنّها موجودة، فهذا التّركيب من الأسماء والأفعال، سيلزم عنه لا محالة قولا كاذبا حقّ الكذب.
تياتيتوس
إنّه قول كذب لا محالة.
الغريب
XLVII._ وكذلك الفكر، والظنّ، والتخيّل، فَبَيِّنٌ أيضا أنّها تارة تكون في أنفسنا صادقة، وتارة تكون كاذبة.
تياتيتوس
وكيف؟
الغريب
إنّك متى عرفت حقيقة تلك الهيئات النفسيّة الثّلاث، وفيما يفارق بعضها بعضا، فستعرف بِيُسْرٍ كيف ذلك.
تياتيتوس
فهلاّ بينّتها لي إذن؟
الغريب
اعلم أنّ الفكر والقول ليسا إلاّ شيئا واحدا، سوى أنّ الكلام الباطنيّ الّذي تحاور النّفس به نفسها بصمت، فقد سُمِّيَ باسم مخصوص الفكر.
تياتيتوس
حقّا ما قلت.
الغريب
أمّا ما تَلْفَظُ به في الخارج في هيئة صوتيّة، فقد سُمِّيَ بالقول.
تياتيتوس
هذا صحيح.
الغريب
ونحن نعلم أيضا أنّه لَيُوجَدُ في القول هذا الشّيء.
تياتيتوس
وما هو؟
الغريب
الإيجاب والسّلب.
تياتيتوس
نعم إنّا نعلمه.
الغريب
وحين يكون إيجاب أو سلب في النّفس، في الفكر، وبصمت، فلا اسم يسمّى به هذا الفعل أحقّ من اسم الظنّ.
تياتيتوس
نعم لا اسم أحقّ منه.
الغريب
أمّا الظنّ الّذي ينشأ في الذّهن ليس بالذّات، بل بتوسّط الحسّ، فالاسم الحقيق به إنّما هو التخيّل.
تياتيتوس
إنّه التخيّل وليس غيره.
الغريب
لذا، وإذ هو قد تقرّر بأنّه يوجود في القول صدق وكذب، وأنّ الفكر إنّما محاورة النّفس لِنَفْسِهَا، وأنّ الظنّ هو تمام الفكر، وأنّ التخيّل هو خليط من حسّ وفكر، فليس من شكّ أنّ هذه الأمور، لكونها ذات نسبة بالقول، فبالاضطرار هي يجوز أن توصف بالكذب أيضا.
تياتيتوس
بالاضطرار.
الغريب
أما تبيّنت الآن، يا تياتيتوس، كيف أنّنا قد أثبتنا جواز الكذب في الظنّ والقول في وقت أقصر ممّا كنّا نتوهّم أنّه لا بدّ منه حتّى نثبته، وأنّ خشيتنا الأولى بأن يذهب جهدنا سُدَى في هذا البحث لم تكن صوابا؟
تياتيتوس
بلى إنّي قد تبيّنت ذلك، أيّها الغريب.
الغريب
XLVIII._ فلتربط كذلك على قلبك فيما قد بقي لنا من نظر، وبعد أن قد بينّا هذا الأمر، فلنعد إلى ما تركنا من قسمة للأجناس.
تياتيتوس
وأيّ قسمة؟
الغريب
لقد كنّا قسّمنا صناعة الصّور إلى جنسين، جنس يشتمل على صناعة النّسخ، وجنس يشتمل على صناعة صنع الخيالات.
تياتيتوس
نعم لقد قسّمنا هذه القسمة.
الغريب
ونحن كنّا قد احترنا في أَيٍّ من الجنسين ينبغي أن نضع السّوفسطائيّ.
تياتيتوس
نعم لقد احترنا هذه الحيرة.
الغريب
وإذ نحن لكذلك محتارون، إذ هجمت علينا شبهة أيّما عظيمة أخذت رؤوسنا بالدّوار، وهي أنّه من المحال أن توجد نسخة، أو خيال، أوصورة أيّا كان نوعها، وذلك لأنّه من المحال إطلاقا أن يوجد الخطأ بأيّ نحو من الأنحاء.
تياتيتوس
لقد كان هذا حقّا.
الغريب
وإذ نحن الآن قد أثبتنا جواز وجود قول كاذب، وظنّ كاذب، فبيّن أنّه ممكن وغير متنع أن يكون هناك محاكاة للوجود، وإذا تقرّر هذا الإمكان، فصناعة الخداع الّتي هي لازمة عن هذه القدرة ستكون ممكنة أيضا.
تياتيتوس
ستكون ممكنة حقّا.
الغريب
وقد كنّا اجتمعنا أيضا على أنّ السّوفسطائيّ إنّما يوجد في واحد من ذينك الجنسين المذكورين.
تياتيتوس
نعم.
الغريب
فلنمض إذن في قسمة الجنس المذكور، ونتخلّص فيه ممّا يعمّ السّوفسطائيّ وغيره حتّى نبلغ ما يختصّ به هو وحده فنبيّنه لأنفسنا أوّلا، ثمّ لِمَنْ طريقته تشبه طريقتنا في البحث.
تياتيتوس
ذلك ما ينبغي أن نفعله.
الغريب
وأنت لَتذكر بأنّه كنّا قد بدأنا بحثنا بقسمة الصّناعة إلى صناعة صانعة وصناعة مقتنية.
تياتيتوس
نعم إنّي أذكر ذلك.
الغريب
ثمّ نحن قد تبينّا السّوفسطائيّ في هذه الأقسام من صناعة القنية، أي الصّيد، والمنازلة، والتّجارة، وأشباهها.
تياتيتوس
إنّا قد تبينّاه حقّا.
الغريب
وإذ الآن قد بان إنّما هو محشور في صناعة المحاكاة، فلابدّ أن نأخذ أوّلا في قسمة صناعة الصّنع نفسها إلى قسمين اثنين. وذلك لأنّ المحاكاة إنّما هي نوع تحت صناعة الصّنع، وإن كانت هي لا تصنع موجودات حقّة، بل صورا ليس غير.
تياتيتوس
ذلك ما ينبغي فعله حتما.
الغريب
فلنقسّم صناعة الصّنع إلى صنفين.
تياتيتوس
وما هما؟
الغريب
إنّهما صناعة صنع إلاهيّة، وصناعة صنع بشريّة.
تياتيتوس
ألا زدني بيانا.
الغريب
XLIX._ أإنّك لتذكر بأنّه كنّا، صَدْرَ هذا البحث، قد سمّينا كلّ قوّة تكون علّة موجدة لشيء لم يكن موجودا من قبل، بأنّها قوّة صانعة.
تياتيتوس
نعم إنّي أذكر.
الغريب
ولأيّ من القولين أنت مائل أتقول بأنّ كلّ هذه الحيوانات الّتي نشاهدها، والنّبات الّذي ينبت في الأرض من الأصول والبذر، وكلّ هذه الجمادات الذّائبة وغير الذّائبة في باطن الأرض، الّتي جميعها لم تكن أوّلا ثمّ كانت إنّما هي من صنع إلاه مبدع، أم أنّك قائل كما تقول العوّام والرّعاع؟
تياتيتوس
وما تقول العوامّ والرّعاع؟
الغريب
بأنّ الّذي أنشأ كلّ تلك الأشياء إنّما هو بعض الأسباب الطّبيعيّة، ولا عقل مبدع، أوعلم إلاهيّ قد كان سببا لها إطلاقا.
تياتيتوس
أمّا أنا، فلِحَدَاثَةِ سنّي، إنّما أنتقل دائما من ذاك القول إلى هذا القول. أمّا اليوم، وبعد أن قد نظرت إليك، فأُرى أن عقيدتك أنت إنّما هي أنّ الأشياء هي معلولة لعقل إلاهيّ، وأنا لَمائل لما تميل إليه.
الغريب
أحسنت، يا تياتيتوس. إذ أنت لو كنت من الّذين يرون الرّأي الآخر لاضْطُرِرْتُ الآن لأن أثبت لك خطأ ذلك بالحجّة والدّليل. وهو لَيُثْلِجُ صدري أن أرى أنّ جودة فطرتك قد أخذتك وحدها إلى الرّأي الصّواب ونأت بك عن ذلك الرّأي الآخر الّذي قلت إنّك ممّا تميل إليه، فأغنيتني عن محاججته ومناقضته. فلنضرب إذًا عنه صفحا، ولنواصل بحثنا من غير تضييع للوقت. ولنكتف بالقول بأنّ الأشياء الطّبيعيّة فإنّما هي مصنوعات لصناعة إلاهيّة، وأنّ المصنوعات الّتي يصنعها الإنسان باستخدامه تلكم المصنوعات الطّبيعيّة، فإنّما هي مصنوعات لصناعة بشريّة، ولذا فهو يوجد جنسان من الصّنع: الصّنع البشريّ، والصّنع الإلاهيّ.
تياتيتوس
حقّا ما قلت.
الغريب
ولنقسّم كلّ جنس من ذينك الجنسين إلى جنسين آخرين.
تياتيتوس
وكيف ذلك؟
الغريب
فكما كنت قد قسّمت عامّة صناعة الصّنع بالعرض، فقسّمها الآن بالطّول.
تياتيتوس
فليكن الأمر كما أمرت.
الغريب
فنحصل حينئذ على أقسام أربعة: قسمان يعودان إلى البشر وهما صناعتان بشريّتان، وقسمان آخران يعودان إلى الله، وهما صناعتان إلاهيّتان.
تياتيتوس
نعم.
الغريب
وإذا أخذنا هذه الأقسام بالعرض، فسنجد قسمين اثنين أحدهما من القسم الأوّل من قسمة صناعة الصّنع، وثانهما من القسم الثّاني من قسمة صناعة الصّنع هما يختصّان بإبداع أمور حقيقيّة، والقسمان الباقيان منهما إنّما يختصّان بإبداع الصّور.
تياتيتوس
ألا زدني بيانا.
الغريب
أإنّك لَتَعْلَمُ بأنّا نحن البشر، وسائر الحيوانات، وأسطقسات الأمور الطّبيعيّة، كالنّار والماء، وما جانسهما، إنّما الله هو الّذي أبدعنا.
تياتيتوس
إنّه الله حقّا.
الغريب
ولكن هذه كلّها قد تتبعها خيالات لاتكون هي نفسها، ولا توجد إلاّ بصنع إلاهيّ.
تياتيتوس
أيّ خيالات؟
الغريب
إنّها الأحلام الّتي نراها، أو المظاهر الّتي تظهر ظهورا ذاتيّا في وضح النّهار، كالظلّ الّذي يلزم عن هجوم الظلّمة على النّار، أو الأشباح الّتي تترائ لنا بسبب التقاء خيطين من ضوء، أحدهما يكون خارجا من العين، والآخر غريبا عنها، عند صفحة لامعة ومصقولة، فتحدث صورة تنفعل عنها حواسّنا انفعالا معاكسا للانفعال الّذي يحصل عند الرّؤية الطّبيعيّة.
تياتيتوس
فالصّنع الإلاهيّ إذًا هو قسمان، قسم يشتمل على الأمور الحقّة، وقسم يشتمل على الخيالات الّتي تتبع الأمور الحقّة.
الغريب
والصّنع البشريّ، أفماترى بأنّنا بصناعة المهندس إنّما نبني بيتا حقيقيّا، وأنّنا بصناعة الرّسم، فقد نرسم بيتا آخر كأنّه حلم من صنع بشريّ لأناس أيقاض.
تياتيتوس
بلى إنّي أرى ذلك حقّا.
الغريب
وكذا في سائر المصنوعات البشريّة، فهي تنقسم إلى صنفين اثنين، صنف يشتمل على الشّيء نفسه، وهذا يكون إبداعه من صناعة تختصّ بصنع الموجودات الحقّة، وصنف ثان يشتمل على الصّورة وهذه يكون إبداعها من صناعة تختصّ بصنع الصّور.
تياتيتوس
إنّي الآن قد تبيّنت مقصودك، ومُقِرٌّ كما أقررت بأنّ صناعة الصّنع هي تنقسم إلى جنسين اثنين، كلّ جنس ينقسم أيضا إلى جنسين اثنين. فالجنسان الاثنان الحاصلان من القسمة الأولى يشتمل واحد منهما على المصنوعات الإلاهيّة، وثانهما على المصنوعات البشريّة. وكلّ جنس من هذين الجنسين يشتمل على قسمين اثنين يضمّ أحدهما المصنوعات الحقيقيّة، وثانهما الموجودات المحاكية للحقيقيّة.
الغريب
L._ والآن فلا بدّ أن نذكّر بأنّ صناعة الصّور هي تشتمل على جنسين، جنس يضمّ صناعة النّسخ، والآخر يضمّ صناعة صنع الخيالات، إذ هو قد صحّ بأنّ الكذب لَيُوجَدُ حقّا.
تياتيتوس
إنّه لَيُوجَدُ حقّا.
الغريب
وإذ هو قد صحّ وجود الكذب، فقسمة صناعة الصّور إلى ذينك الجنسين هي صحيحة لامحالة.
تياتيتوس
إنّها صحيحة لا محالة.
الغريب
فلنقسّم إذًا صناعة الخيالات إلى قسمين اثنين.
تياتيتوس
وكيف ذلك؟
الغريب
إذ من الخيالات ما يُفْعَلُ بوسائل، ومنها ما يكون نفس الفاعل هو آلتها.
تياتيتوس
وكيف ذلك؟
الغريب
فمثلا إذا إنسان ما تشبّه بك في هيئته الجسميّة، أو حاكى صوته صوتك، فهذا الجنس من صناعة المحاكاة إنّما يسمّى بالجملة، صناعة التشبّه.
تياتيتوس
نعم إنّه صناعة التشبّه.
الغريب
إذن فلنسمّ هذا الجنس من صناعة المحاكاة بصناعة التشبّه، ولنلتفت سعيديّ البال عن الجنس الثّاني، ولا ننشغل بالبحث فيه، بل لنترك غيرنا يفحص عنه ويطلب له اسما جامعا له.
تياتيتوس
ليكن الأمر كما أمرت.
الغريب
ثمّ، أفما ترى، يا تياتيتوس، أنّ هذا الجنس أيضا إنّما يُقَسَّمُ إلى قسمين؟
تياتيتوس
وما هما ليت شعري؟
الغريب
إذ الّذين يتشبّهون، فمنهم من يكون عارفا بما يتشبّه به، ومنهم ما لايكون عارفا بما يتشبّه به. فتكون القسمة التّامّة إنّما بزيادة المعرفة، واللاّمعرفة.
تياتيتوس
نعم.
الغريب
لذا فالمثل الّذي ذكرته آنفا إنّما هو من جنس تشبّة العارفين، إذ إنّما بعد أن تُعْرَفَ صورة وجهك إنّما يمكن التشبّه بك في صورة وجهك.
تياتيتوس
بلا ريب.
الغريب
ولكن أنت تعلم أيضا بأنّه لَيوجد من النّاس من يعتقد اعتقادات ما في صور العدل والفضيلة عن غير علم، وهم يجتهدون كلّ الاجتهاد حتّى يبدوا لغيرهم بأنّهم لَيَتَحَلَّوْنَ بما ظنّوه هم فضيلة فيتشبّهون بها في أفعالهم وأقوالهم ما أمكنهم.
تياتيتوس
نعم إنّي أعلم.
الغريب
ولكن هل كلّ من بدا في صورة العادل، ولم يكن عادلا بحقّ، فهو خائب في هذا البدوّ ضرورة؟
تياتيتوس
كلاّ.
الغريب
فيتقرّر إذًا أنّ المتشبّة الغير عارف هو مغاير للمتشبّه العارف.
تياتيتوس
إنّه مغاير حتما.
الغريب
LI._ إذن، فكيف نسميّهما باسم يلائم كلّ واحد منهما؟ إذ من البيّن أنّه صعب جدّا أن نجده عند السّلف لكونهم لم يكونوا حريصين على قسمة الأجناس إلى الأنواع حتّى أنّا قد لانجد واحدا منهم قسّم هذه القسمة. لذلك فنحن اليوم لا نلفى كثرة كاثرة من الأسماء. ومع هذا، فحتّى نميّز النّوعين الاثنين، فسوف نسمّي التّشبّه الأوّل القائم على الظنّ بالتشبّه العَقَدِيِّ، والتّشبّه الثّاني القائم على العلم بالتشبّه العارف، ولو بدا الاسمان الاثنان غير دقيقين كلّ الدقّة.
تياتيتوس
الفعل ما فعلت.
الغريب
وإنّما الآن ينبغي أن ننظر في النّوع الأوّل، إذ السّوفسطائيّ، كما قد ظهر لنا، فهو ليس من الّذين يعلمون، بل من الّذين يتشبّهون.
تياتيتوس
حقّا ما قلت.
الغريب
فليكن فحصنا إذًا في المتشبّه القائم على الظنّ، كفحصنا في الحديدة إنّ كانت جيّدة، أو يخالطها بعض التّبن.
تياتيتوس
الأمر ما أمرت.
الغريب
فلتعلم، يا تياتيتوس، أنّ هذا المتشبّه لينطوي حقّا على تبنة أيّما عظيمة. فمن هؤلاء المتشبّهين، الغِرُّ الّذي يتوهّم أنّه ذو علم بما ليس نصيبه منه إلا الظنّ، ومنهم من يتردّد بين الأدلّة ويكون حريصا كلّ الحرص على ألاّ يُرَى جاهلا بالأمور الّتي يُرَائِي النّاس بأنّه لذو معرفة بها.
تياتيتوس
إنّ ذينك لجَنسان حقيقيّان، بلا ريب، أيّها الغريب.
الغريب
فلنسمّ أحدهما بالمتشبّه المطلق، والثّاني بالمتشبّه السّاخر.
تياتيتوس
صواب ما فعلت.
الغريب
وهذا الجنس الأخير، هل عساه أن ينقسم إلى قسمين؟
تياتيتوس
فلتر بنفسك.
الغريب
إنّي بعد النّظر، فقد تبينّت بوضوح أنّه لَينقسم إلى جنسين اثنين. جنس أوّل يشتمل على المتشبّه السّاخر الّذي يبسط سخريّته على جمع من النّاس، وفي خطب طويلة. وجنس ثان يشتمل على المتشبّه السّاخر الّذي لا يكون كلامه إلاّ مع قلّة من النّاس، وهو لا يطلب إلاّ دفع محاوره لكي يناقض نفسه بنفسه.
تياتيتوس
صدقت غاية الصّدق.
الغريب
وكيف نسمّي الرّجل ذا الكلام الطّويل، أنسمّيه بالسّياسيّ أم الخطيب الجمهوريّ.
تياتيتوس
بل نسميّه بالخطيب الجمهوريّ.
الغريب
وكيف نسمّي الآخر، أنسميّة بالحكيم، أم بالسّوفسطائيّ؟
تياتيتوس
إنّه من المحال أن يُسَمَّى بالحكيم، إذ كنّا قد أثبتا بأنّه صفر من العلم ألبتّة. ولمّا كان إنّما يتشبّه بالحكيم، فبيّن أنّه لا بدّ أن يكون اسمه مشتقّا من اسمه، ولذا فلن نجانب الصّواب لو قلنا الآن: لعمري، ها هو ذا السّوفسطائيّ حقّا ويقينا.
الغريب
ولو عدنا فذكّرنا بصفات السّوفسطائيّ من آخر ما انتهينا إليه إلى المبدأ، كما فعلنا آنفا؟
تياتيتوس
وإنّ هذا لَرأيي أيضا.
الغريب
إذن فشجرة النّسب الحقّ للسّوفسطائيّ هي أنّه يتعلّق بالقسم المتشبّه من القسم السّاخر من صِنَاعَةٍ قائمة على الظنّ هي نفسها قسم من صناعة المناقضة الّتي تترتّب تحت صناعة الخيال الّتي تترتّب تحت صناعة صنع الصّور الّتي تترتّب ليس تحت صناعة الصّنع الإلاهيّ، بل تحت تحت صناعة الصّنع البشريّ الّتي تترتّب تحت صناعة الصّنع الّتي تختصّ بصناعة الكلام وإبداع الأوهام.
تياتيتوس
ذلك هو القول التّامّ.

تمّ تعريب محاورة أفلاطون المسمّاة بالسّوفسطائي، وكان الفراغ منه في الثّامن والعشرين من جمادى الأولى 1427 هجريّة، الموافق ل24/06/2006، وله الحمد أوّلا وآخرا.

*PLATON, LE SOPHISTE, Traduction française par Emile Chambry, FLAMMARION 1969.

http://membres.multimania.fr/philosophie15/

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق