الأبعاد الإشكالية لمفهوم السعادة:
إن السعادة تتنزل في إطار الأخلاق التي تتنزل بدورها في إطار القيم بين المطلق والنسبي لكن ما يلاحظ هو أن السعادة كقيمة أخلاقية تتراوح بين الإطلاق والنسبية من جهة وبين الحضور والغياب من جهة أخرى.التصور الفلسفي الأرسطي مثلا الذي يجعل من السعادة غاية في ذاتها تعبر عن قيمة مطلقة في مقابل التصور العفوي الذي يجعل من السعادة قيمة نسبية فلكل إنسان تمثله للسعادة كما أن نسبية قيمة السعادة تتجلى من خلال التصورات الفلسفية المتناقضة لهذا المفهوم .التصور الفلسفي الذي يستبدل أخلاق السعادة بأخلاق الواجب لان السعادة مثال أعلى للتخيل لا للعقل وهو التصور الكانطي فالغاية في ذاتها ليست السعادة كما هو الشأن بالنسبة لأرسطو وإنما الفعل في ذاته بمعزل عن السعادة والشقاء.إذا كان أرسطو يعتبر كل إنسان يبحث عن السعادة وهناك أشكال من السعادة الزائلة والوقتية اذا أسرفنا في طلبها تنقلب الى شقاء وان السعادة الدائمة هي سعادة التأمل المرتبطة بالجانب الأعلى للانسان ،"اقدس ما فينا "(ارسطو)، فألوان الحياة المتعددة تتناسب مع الوان من السعادة ولعل تاكيده التامل في تحديد السعادة هو مواصلة لارث استاذه افلاطون.هل من المشروع الحديث اليوم عن تمثلات مختلفة للسعادة بالنسبة للانسان العامي في اطار المجتمع الاستهلاكي ؟ بما ان الانسان المعاصر ذو بعد واحد وهو البعد الاستهلاكي اليست السعادة بدورها ذات بعد واحد وهو البعد الاستهلاكي ؟ وهل الرغبة في السعادة طبيعية ام اصطناعية؟ الا تصنع رغباتنا وتنمذج عبر كل اساليب غسل المخ ؟ الا يتداخل الجانب الطبيعي والثقافي في الانسان ؟ اليست فكرة السعادة المعاصرة ملوثة بالايديولوجيا؟ما يمكن ملاحظته هو العلاقة بين مسالة الانية الانسانية ومسالة القيم عامة وفي هذا الاطار المخصوص قيمة السعادة، فكيفما تكون الانية الانسانية تكون القيمة فاذا كانت الانية الانسانية عقلا تتاسس القيمة على العقل واذا كانت الانية الانسانية جسدا تتاسس القيمة على الجسد واذا كانت الانية الانسانية قائمة على حتميات سواء كانت نفسية ( فرويد ) او اجتماعية ( دوركايم ) تكون القيم صدى لهذه الحتميات لكن السؤال الذي يطرح : كيف بمكن ان ننظر الى قيمة السعادة في اطار المجتمع المعاصر؟ هذا السؤال يستدعي سؤالا اخرا وهو التالي : ما طبيعة المجتمع المعاصر؟ ان المجتمع المعاصر هو "المجتمع الاستهلاكي" حسب عالم الاجتماع المعاصر بودريار وبناء على ذلك يجب مقاربة السعادة طبقا لنظام احداثيات مختلف عن سابقه خاصة الميتافيزيقي أي يجب ان نقارب السعادة على ارض الواقع الاجتماعي والتاريخي وبالتالي لا سبيل للوقوف على حقيقتها الا باحداث نقلة من " السماء " الى " الارض" . ان المقاربة العلمية المعاصرة تنظر الى السعادة لا كفكرة في ذاتها وانما كفكرة مجسدة في الواقع ، الانتقال من السعادة التاملية / الباطنية / اللامرئية الى سعادة مرئية / منظورة / " قابلة للقيس" بل انه من السذاجة ان نتحدث عن فكرة الميل الطبيعي الى السعادة خاصة وان العقلنة المعاصرة في علاقة باستلاب الانسان ( ماركيز)، انه الاغتراب الذي مسّ الطبيعة والروح فالفرد في الكثير من الحالات تتحدد ميولاته ورغباته بحكم الدعاية والاشهار كما ان العديد من الافكار التي " نعتتنقها " نتوهم انها افكارنا بحكم العادة والتقليد بماهي اليات اليومي الذي ينصهر فيه الانسان المعاصر بشكل عفوي ونتيجة ذلك هو " حالة استقالة واغفال يضيع فيها ( الانسان )وقد التهمته دواليب الحياة اليومية " ( كارل ياسبرس).ان السعادة المعاصرة الجديدة تتنزل في اطار مفارقة "الطبيعي" و"المصطنع" فلا يمكن مقاربة السعادة انطلاقا من الانتروبولوجيا التقليدية التي تتحدث عن ميولات طبيعية ذلك ان الحاجة الانسانية في الحضارة المعاصرة اصبحت تصنع والمشاعر تلقن او تُملى على الانسان فكيف نفسر نحيب الملايين على موت اميرة في بريطانيا والف ديانا تموت في هذا العالم الفسيح دون أي اثرنفسي يمكن ان يفسر ذلك لكن " بلعبة الغباء المبرمج " والعبارة لتيودور ادورنو في اشارة الى ما يقوم به الخطاب الاشهاري ووسائل الاعلام الجماهيري من تاثير على العقول والاذواق يقول اريك فروم في كتابه " الانسان بين الجوهر والمظهر "( عنوان يعبر عن الوضعية المازقية للانية الانسانية المعاصرة): " خطورة اساليب غسل المخ لا تقتصر على دفعنا الى شراء اشياء لا نريدها ولسنا بحاجة اليها وانما هي ايضا تقودنا لاختيار ممثلين سياسيين لا يمكن ان نريدهم او نحتاج اليهم لو كنا مالكين تماما لقدراتنا الذهنية "( السند 14 كتاب الثالثة اداب) انطلاقا من هذا التصور اذا كان هناك مشكل في الاختيار والارادة والحاجة فانه من السذاجة ان ننظر الى فكرة السعادة انطلاقا من الانتروبولوجيا التقليدية وفي هذا الاطار يقول بودريار: "يقوم الخطاب حول الحاجات برمته على انتروبولوجيا ساذجة، وهي انتروبولوجيا الميل الطبيعي إلى السعادة. فالسعادة كما تتراءى بأحرف من لهيب وراء أدنى إشهار حول جزر " الكاناري " أو أملاح الحمامات ( المعدة للاستشفاء )، إنما هي المرجع المطلق للمجتمع الاستهلاكي ، وهي بالذات نظير النجاة. ولكن ترى ما هي هذه السعادة التي تلاحق الحضارة الحديثة بهذا القدر البالغ من التأثير الإيديولوجي". ان المجتمع الاستهلاكي له سعادته الجديدة وهي فكرة تخدم مصلحته الاقتصادية والسياسية اما السعادة الباطنية فهي متناقضة مع مطلب الاستهلاك ومن هنا التحول من المفهوم الفلسفي التقليدي للسعادة الذي تقوم على اعتبار الانية الانسانية ماهية ميتافيزيقة مجردة الى مفهوم سوسيولوجي للسعادة يترجم الوضعية الجديدة للانسان المعاصر يقوم على المساواة مع الاخرين عبر فعل الاستهلاك ( عولمة السعادة في علاقة بعولمة الاستهلاك ) لذلك يدعو بودريار إلى : " مراجعة كل رؤية عفوية. فالتأثير الإيديولوجي لفكرة السعادة لا يأتيها بحق من توق طبيعي لدى كل فرد إلى تحصيلها لأجل ذاته ، وإنما مرده ، على الصعيد الاجتماعي التاريخي ، إلى واقعة محددة، وهي أن أسطورة السعادة هي التي تحتضن في المجتمعات الحديثة أسطورة المساواة وتجسدها". لقد استحالت السعادة الاستهلاكية الى واجب ، ففكرة الواجب لم تعد مرتبطة بما يمليه العقل او ما تمليه الطبيعة وانما ما يمليه المجتمع الاستهلاكي عبر اساليب التنويم " مثل التكرار المستمر او المَطرَقة وتحويل وجهة التفكير العقلاني باثارة الغرائز وشهوة الجنس "( اريك فروم) . ان السعادة بما هي واجب او ضرورة اجتماعية معاصرة هي سعادة مرئية ومنظورة ومعروظة في شكل مكتسبات مادية مثل السيارة الفخمة والاقامة في الفنادق والملابس الانيقة ، فالمجتمع المعاصر يكره الانسان على ان يتحول جسده الى واجهة لاعلان هذا البعد المادي الاستهلاكي ، انها سعادة " المظهر " دون " جوهر " ، انها سعادة الجسد المدجن وليست سعادة الأنفس الحرة المتعالية والخطر هو ان الانسان بهذا السلوك يدافع عن هذا النظام القائم أي ان الضحية اصبح يدافع عن الجلاد وهي اقصى حالات الاغتراب نتيجة " جنون الاستهلاك " يقول غالبريث في كتابه الوضع الصناعي الجديد : " لا يخدم الفرد النظام الصناعي بمنحه مدخراته وبمده براسماله ، بل باستهلاك منتجاته ". وما يزيد في تعقد وضعية الانسان المعاصر التشريعات السياسية والقانونية التي تجعل من هذه السعادة حقا يقول بودريار : " إن السعادة بما هي بهجة تامة أو باطنية، ومنظورا إليها في استقلال عن العلامات التي قد تظهرها أمام أعين الآخرين وأمام أعيننا، إن هذه السعادة التي لا تحتاج إلى الأدلة مستبعدة إذن على الفور من المثل الأعلى للاستهلاك ، حيث تكون السعادة قبل كل شيء اقتضاء للمساواة ( أو التمييز، بطبيعة الحال ) ولا بد لها، بحسب ذلك ، من أن تدل على ذاتها ( أو تعرّف بذاتها ) من " منظور " المقاييس المرئية، وبهذا المعنى، فالسعادة أبعد ما تكون عن أي " إحتفال " أو حماس جماعي ، إذ يحدوها مطلب المساواة فتتأسس على المبادئ الفردانية ، المدعمة بلائحة حقوق الإنسان والمواطن - التي تعترف صراحة لكل امرئ ( لكل فرد ) بالحق في السعادة".هكذا تكون فكرة السعادة في إطار المجتمع المعاصر بما هو مجتمع استهلاكي ذات وظيفة ايديولوجية تبعد الإنسان عن جوهره وتدمجه في اقتصاد وسياسة تقوم على النجاعة والمردودية وهو ما يستدعي " اخلاق دنيا " بتعبير ادورنو تتجاوز " الحياة المبتورة " ( ادورنو) ، فاذا كانت السعادة التأملية ( ارسطو ) مجردة والسعادة الاستهلاكية ايديولوجية و مزيفة لابد من اخلاق جديدة سواء قامت على السعادة ام الواجب المهم ان تستحضر الإنساني بما هو جدلية بين الوحدة والكثرة
السعادة
ردحذف