العلم بين الحقيقة والنمذجة : الحدود الابستمولوجية من خلال مفهوم الحقيقة
ان رسم حدود او خطوط فاصلة للنمذجة العلمية يعني انها تتنزل بالضرورة في اطار محدودية المعرفة الانسانية او تناهي النظام الرمزي الإنساني لكن بالرغم من هذه المحدودية فالانسان لا ينقطع عن طلب الحقيقة ، طلب الكلي وهو مطلب ملازم لمحدودية الانسان وتناهيه ومحدودية معرفته وتناهيها مهما كانت طبيعة هذه المعرفة علمية او غير علمية . لقد اعتبر فرنسوا جاكوب " ان للدماغ البشري مطلب اساسي وهو الحصول على تمثل موحّد منسجم للعالم وللقوى التي تحركه " وبالتالي يمكن القول ان النمذجة العلمية بماهي تمثل من بين اشكال متعددة ومتداخلة من التمثلات الانسانية تعبير عن هذه الحاجة الملحة التي تعتمل داخل الذات الانسانية . ان هذا التمثل الانساني الذي يتمظهر عبر النمذجة العلمية بماهي مسار تركيبي ودلالي وتداولي يمكن اختزاله في وجهين او مظهرين عظيمين للعلم حسب تصور لوي دو بروي ( نص : الوجه الانساني للعلم ) وهما الوجه النظري والوجه العملي لكن ما يلاحظ في هذا التصور هو اقامة التعارض بين الوجهين ( يمكن مقارنة هذا الموقف بموقف المعاشرة السرية بين العلم والغائية وموقف ادغار موران ) لانهما يستجيبان الى " نزعات متضادة في الطبيعة البشرية " فمن جهة ننزع الى " الزيادة في معارفنا لاجل الحصول على الفرح المقدّس هو فرح المعرفة والفهم " ومن جهة اخرى ننزع الى " استعمال معارفنا لتيسير وجودنا " هذا التعارض في العلم يشبهه لوي دو بروي بتعارض طبيعتي الاختين ماري ومارث ( قصة انجيلية ) الاولى مستغرقة في التامل والثانية منهمكة في الاعمال المنزلية الوضيعة ، انها قصة انجيلية تختزل قصة العلم الخالص والعلم التطبيقي ، قصة " الحوار الابدي بين الحياة والحلم وبين الفكر والفعل ." اذا كانت القسمة مستحيلة بين النزوع الى الحقيقة وبين النزوع الى الاستعمال او التسيير فلنحاول الفصل منهجيا على الاقل للبحث في مفهوم الحقيقة العلمية كحدّ من الحدود الابستمولوجية للنمذجة العلمية . ان الحديث عن حدود ابستمولوجية للنمذجة يعني النظر الى العلم من الداخل اي المراجعة النقدية والتحليلية للمسار العلمي وهو ما يحيل على تمش من الدرجة الثانية : الدرجة الاولى العلم والدرجة الثانية التفكير في العلم ، فالابستمولوجيا من حيث الاشتقاق اللغوي هي علم العلم او الدراسة النقدية للعلم وحسب لالاند انها " الدراسة النقدية لمبادئ مختلف العلوم ، ولفروضها ونتائجها ، بقصد تحديد اصلها المنطقي وبيان قيمتها وحصيلتها الموضوعية " لذلك يمكن التمييز بين النظر الى العلم من الداخل فننجز حدودا ابستمولوجية وبين النظر من الخارج فننجز حدودا فلسفية اي بين النظر ابستمولوجيا الى العلم من خلال جهاز مفاهيمي ابستمولوجي يتجدد بتجدد العلم وبين النظر فلسفيا او ايتيقيا او دينيا الى العلم من خلال جهاز مفاهيمي قد يتجدد وقد لا يتجدد .ان الحقيقة العلمية في نظر بشلار تتعارض مع الراي الذي يعتبره عائقا ابستمولوجيا امام المعرفة الصحيحة ، فاذا كان الراي لا يمكن ان يبرر نظريا او علميا فان معارف العقل العلمي ، على العكس من ذلك ، تبنى بشكل نظري وعقلي ، واذا كان الفكر العلمي لا يطرح سوى الاسئلة التي يمكنه الاجابة عنها فان الراي يقوم على الاعتقاد في كل القضايا وطرح كل المسائل لذلك يتحدث بشلار عن قطيعة ابستمولوجية بين الراي والحقيقة العلمية .ان الحقيقة العلمية نسبية ذلك ان تاريخ العلم لا يقوم على وجود حقيقة واحدة ثابتة ونهائية وهو ما يجعل من العقلانية العلمية ليست عقلانية وثوقية ومنغلقة ونهائية وانما عقلانية منفتحة تقوم على النفي والاثبات ، انها عقلانية ديالكتيكية في بحث مستمر عن الحقيقة لذلك اعتبر بشلار العلم في حالة ندم مستمر . ان هذا الطابع النسبي للحقيقة العلمية يبرز خاصة في العلم الفزيائي المعاصر الذي يتعلق الميكروفيزيائي فالحقيقة في اطار هذا العلم لم تعد تقوم على البداهة كماهو الشان لديكارت مثلا او التطابق كما هو الشان في الفيزياء الكلاسيكية وانما الحقيقة اصبحت احتمالية احصائية تقريبية انشائية . ان هذه السمة للحقيقة بماهي تقريبية او احتمالية لا تشكك في علمية العلم وانما هو تعبير عن انتقال من براديغم الى اخر ، الانتقال من براديغم الحتمية والموضوعية والواقعية الى براديغم الاحتمال والتداخل بين الذاتية والموضوعية والرياضوية اي انه لا يمكن القول " لا علم حيث لاحتمية " كما هو الشان للعلم الكلاسيكي بل يمكن ان يكون العلم دون القول بالحتمية ، يمكن ان يكون العلم مع الاحتمال و البينذاتية والتقريبي وهي لحظة اخرى من لحظات تاريخ العلم . وكما يقول هلبار : " ان المنطق يمكن ان يتطور خارج حدود المنطق الاقليدي " وهوما يعني القطع مع الحقيقة الواحدة والمطلقة ، القطع مع منطق الوحدة والانتقال الى منطق الكثرة والتعدد على الصعيد العلمي ( الحقيقة العلمية بين الوحدة والكثرة ) ، انها لحظة انهيار المطلق وانبجاس النسبي من خلال تحطيم الكسموس الاغريقي ونشاة الكون المفتوح و القطع مع قناعة راسخة دامت حوالي 2000 سنة مفادها ان الهندسة الاقليدية لها الصلوحية القصوى وتجاوز البداهة الاقليدية التي اصبحت " لاشعورا هندسيا " بتعبير بشلار .يمكن اعتماد علاقات الارتياب لهيزنبارغ لابراز هذه التحولات العلمية وانعكاساتها على الحقيقة العلمية وطبيعتها ومفادها انه لا يمكن ان نحدد موقع الالكترون وسرعته في ان واحد لان تسليط شعاع ضوئي على الالكترون لتحديده يؤثر في سرعته وموقعه لان طاقة الفوتون ( الشعاع الضوئي ) تنضاف الى طاقة الالكترون وبالتالي فان العلاقات بين الموقع والسرعة تقوم على الارتياب واللاتحدد والاحتمال . ان علاقات الارتياب تدل على تجاوز المفاهيم الكلاسيكية التي اصبحت عاجزة على التعامل مع هذا الواقع الجديد ومن هذه المفاهيم الحقيقة القائمة على التطابق والموضوعية والحتمية . يقول بور : " ان مسلمة الكوانتا تمنعنا من تفسير الظواهر الذرية تفسيرا يعتمد في ان واحد السببية والعلاقات الزمنية ـ المكانية ، ذلك لاننا عندما نفسر الظواهر العادية نفترض مسبقا ان ملاحظة الظواهر ، اي قياسها التجريبي ، لا تؤثر في الظاهرة موضوع الملاحظة ، هذا في حين ان المسلمة الكوانتية تتطلب منا الاقتناع بان كل ملاحظة للظواهر الذرية تؤدي الى تدخل الة القياس في الظاهرة نفسها تدخلا يؤثر تاثيرا واضحا . وبالتالي لا يمكن ان نعطي لا للالة ، ولا للظاهرة واقعا فيزيائيا مستقلا بذاته ." ان هذه التحولات التي شهدها العلم المعاصر اعادت النظر في العديد من المفاهيم والعلاقات بينها مثل مفهوم الخطا وعلاقته بالحقيقة ، فاذا كان العلم تمشيا او مسارا اليس الخطا شرط امكان هذه الحركة ؟ الا يمكن ان تنتفي هذه الحركة بانتفاء الخطا ؟ هل يعد الخطا غريبا عن حركة العلم ؟ هل يمكن الحديث عن حركة وبحث وطلب وسعي لو لم يكن هناك خطا ؟ ليس الخطا غريبا عن الفكر العلمي انه العنصر المحرك للفكر بل ان الحقيقة لا تبرز الا في علاقة بالخطا وهو ما يعني انه من الخطا عدم تقدير اهمية الخطا لانه شرط هذا المسار التاريخي للعلم لذلك يعتبر اغار موران : " الخطا في عدم تقدير اهمية الخطا " وبالتالي هناك علاقة جدلية بين الحقيقة والخطا وفي هذا المعنى يقول ادغار موران : " اكبر منبع للخطا هو فكرة الحقيقة نفسها " ان تاريخ الفكر العلمي لا يمكن ان يتاسس الا على هذه الحركة الجدلية : خطا يفترض وجود حقيقة وحقيقة تفترض وجود خطا ، خطا ينبع من الحقيقة وحقيقة تنبع من الخطا فلا وجود لحقيقة مطلقة ولا وجود لخطا مطلق . بناء على هذا الفهم الذي يقيم ترابطا ضروريا بين الحقيقة والخطا يتم تجاوز القول بالحقيقة الواحدة من خلال الالتزام بما يقوله علم من العلوم مثل الالتزام بالهندسة الاقليدية واعتبارها الحقيقة المطلقة او الالتزام بالفيزياء النيتونية واعتبارها الحقيقة المطلقة . ان هذه الوثوقية في المعرفة العلمية والاعلاء من شان الحقيقة وتنزيهها تنتهي الى جعل الخطا لامعقولا وتخرجه من مجال العقلانية العلمية لكن التحولات التي طرات على العلم المعاصر من خلال ظهور الهندسات اللااقليدية والثورة الكوانطية ادت الى مراجعة الحقيقة المطلقة لتفتح العقلانية العلمية المعاصرة على المتغير والتاريخي واللايقيني والاحتمالي والارتياب والذاتي وفي كلمة الانفتاح على ما اعتبر لامعقولا في اطار عقلانية علمية وضعية . بناء على هذه التحولات العلمية الكبرى , ايّ موقف يمكن ان نتخذه من الحقيقة العلمية ؟ هل نيأس منها ونقر بعجز العقل العلمي ام نثق فيها وننسى هذه التغيرات والازمات التي مر بها الفكر العلمي ونعتبر لن ذلك لم يرتق الى مرتبة العلمية بتعلة الموضوعية والحتمية والتطابق ؟ ام ان الامر يتعلق بنشاة شكل اخر من العلم والعقل والعقلانية والحقيقة والابستمولوجيا ؟ ان هذه الاسئلة تدعونا الى التمييز بين ثلاثة مواقف من العلم : الموقف الريبي الذي فقد الثقة في العلم والموقف الوثوقي الذي يثق ثقة مطلقة في العلم والموقف النسبي الذي يتجاوز الموقفين ليقر بنسبية المعرفة العلمية من خلال الانتقال من الحقيقة الى الحقائق واعتبارا الخطا شرطا في مسار المعرفة العلمية بل شرط علمية العلم ( كارل بوبر : مبدا قابلية التكذيب او الدحض ) يقول ادغار موران : " ان هذا الطرح لمشكل الخطا يدخل تعديلا عل مشكل الحقيقة ، لكنه لا يقضي عليه ، فالحقيقة غير منفية هنا ، لكن طريق الحقيقة عبارة عن بحث لا نهاية له ، فطرق الحقيقة تمر عبر المحاولة والخطا ، والبحث عن الحقيقة لا يمكن ان يتم لا عبر التيه والترحل . فالترحل يقتضي ويتضمن ان من الخطا البحث عن الحقيقة بدون البحث عن الخطا . ان من الصعب نقل تجربة معيشة ، وطرق البحث عن الحقيقة تمر عبر التجربة وربما عبر تجربة الخطا القاتلة " ( دفاتر فلسفية : الحقيقة ، سبيلا وعبد العالي ص 24 ) .ان هذه التحولات العلمية المعاصرة انشات جهازا مفاهيميا مختلفا عن الجهاز المفاهيمي السابق وجعلت من صلاحية وملاءمة هذه المفاهيم غير ممكنة الا في انساقها الاكسيومية مثال ان اعتبار مجموع زوايا المثلث قائم الزاوية يساوي 180 درجة فهذه الحقيقة ليست مطلقة وانما نسبية لانها ترتبط اساسا بالاكسيوماتيك الاقليدي . ان تعدد اشكال الاكسيوماتيك او الانظمة الفرضية الاستتنتاجية يعبر عن تصور مختلف للمعرفة العلمية التي لم تعد تتاسس على ما هو فطري / بديهي / يقيني / ضروري نظرا للمبادئ التي يقوم عليها العقل مثل مبدا الهوية وصيغته : الشئ هو ما هو( ا هي ا ) وهو اساس ضروري لكل تفكير وبدونه لا تكون اي فكرة ممكنة ، الى جانب مبدا الهوية نجد كذلك مبدا عدم التناقض وهو متولد عن مبدا الهوية وصيغته : انه من المحال ان نصف شيئا بصفة ثم بنقيضها فلا استطيع ان اقول مثلا ان هذا الحبر الذي اكتب به ازرق وليس ازرقا في ان واحد . الى جانب ذلك ، نجد مبدا الثالث المرفوع وهو يتفرع عن مبدا الهوية وصيغته الايجابية : ان الشئ اما كذا او غير كذا ولا يمكن ان يكون شيئا اخر . ولقد اضاف ليبنتز مبدا رابعا الى هذه الثلاثة وهو مبدا السببية او السبب الكافي وصيغته كما جاءت في كتابه : " كل موجود له سبب كاف يجعله على ما هو عليه لا على نحو اخر " . اذا كانت المعرفة لم تعد فطرية ، في اطار الابستمولوجيا المعاصرة فهذا لا يعني انها اصبحت تجريبية حيث تكون النفس صفحة بيضاء تكتب فيها التجربة ما تشاء كما لا يعني ان المعرفة تقوم على الوفاق بين العقل والتجريبي حيث تكون " التجربة بدون مقولات عمياء والمقولات بدون تجربة جوفاء " ( كانط ) وانما المعرفة اصبحت بنيوية وهو ما يجعلنا نتحرك في فضاء معرفي اخر او براديغم اخر وهو البنيوية . يمكن ان نعتمد هذا النص لابراز الحدود الابستمولوجية للنمذجة العلمية من خلال هذا النقد الابستمولوجي للحقيقة والاعلان عن نهاية الحقيقة المطلقة في العلم : " تعرض تصور الحقيقة لتحول جذري خلال القرون الثلاثة الخيرة ، فقد كان القرن التاسع ما يزال خاضعا لفكرة الحقيقة المطلقة ، التي يتوصل اليها الفكر عندما يلتحق بالواقع : تطابق الاشياء والعقل . وهذا الخضوع تبرزه جملة الرياضي الكبير غوس وهو يتامل حول امكانية الهندسة الاقليدية : " انا منجر بالاحرى نحو الشك في حقيقة الهندسة " . فقد قاده التامل الى الطريق الذي سيقود الى تحرير الحقيقة من طابعها الدغمائي ، كعلامة على تلاق غريب بين واقع وفكر يبدو كل منهما غريبا عن الاخر . لكنه لم يكن قادرا على التخلص من هذه الفكرة المتوارثة والشائعة ، وهكذا بدا له ان الحقيقة تتبخر في نفس الوقت الذي يتبخر فيه الطابع المطلق الذي كان منسوبا اليها تقليديا... ان مفهوم الحقيقة المطلقة يتعين بالضرورة ان يرتكز على مطلق سابق على كل تجربة بل على كل فكر انساني . وهذا هو الحال بالنسبة لمثل افلاطون والحقائق الالهية عند ديكارت . اما المنهج العلمي الذي لا يعرف الا العلاقة ويود تجاهل المطلق ، فيتعين عليه ان يتخطى نقطة الارتكاز هاته .olmo jean ( دفاتر فلسفية : الحقيقة ، اعداد وترجمة محمد سبيلا وعبد السلام بنعبد العالي ص 78 دار توبقال
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق