سيدي بوزيد وتربية المستقبل
( بين العولمة والكونية)
إن ظاهرة العولمة التي تهيمن على حياتنا المعاصرة تقوم على محاولة فرض نموذج واحد على جميع الأصعدة مثل الثقافة والسياسة والسلوك وهو ما أدى إلى جملة من المخاطر على الإنساني والكوني والحقوقي فبقدرما تتزايد العولمة وتتفاقم بقدرما يتراجع الكوني ويتلاشى ،بقدرما يتزيد منطق القوة والهيمنة والصراع والصدام بقدرما يتراجع منطق الاختلاف والتمايز والحوار بين الشعوب والتفاعل بين الثقافات
إن هذا الواقع المعاصر القائم على مفارقة العولمة والكونية يبرر مطلب الحوار بين الشعوب والثقافات من اجل تحقيق الكلي الإنساني ولا سبيل إلى تحقيق هذا المطلب في عالم يتغير باستمرار ويتجدد على العديد من المستويات دون الإقرار بمبدأ التنوع الثقافي
إن شرط إمكان تربية المستقبل هو الحوار و إقرار التنوع الثقافي من اجل العيش المشترك بين البشر. إن هذا المستقبل الذي يجب أن يتربى فينا يتأسس على الإنساني والكوني فلا تخلو ثقافة من هذه القيم مثل قيمة العدل والأخوة والحرية الخ من هذه القيم الكونية الإنسانية. .إن الدفاع عن الكوني والإنساني والمستقبل يستوجب ترسيخ هذه القيم( التراث الحضاري / الإنساني) في العقول والوجدان والسلوك ذات الإطار الثقافي المخصوص أي إن هذه القيم مرتبطة بخصوصيات ثقافية يجب احترامها ولا يمكن لأي مشروع أن ينجح إلا إذا راعى هذه الخصوصية والكونية في التعاطي مع الإنساني . لنأخذ مثلا المشروع السياسي : إن هذا المشروع إذا لم يتأسس على قاعدة الخصوصية والكونية أي مراعاة التنوع الثقافي الخاص واكتشاف ما فيه من قيم كونية مشتركة سيتعرض إلى حملة من الصعوبات إن لم ينته إلى الفشل خذ مثلا ما حدث في سيدي بوزيد التونسية ( مهما كانت الأسماء التي تطلق على هذه التجربة الشعبية أو الممارسة الجماهيرية : حركة احتجاجية أو انتفاضة أو ثورة كلها تسميات لها مسكوت عنه ايديلوجي ) إن ما حدث هو تبادل للعنف ( العنف بكل أشكاله المادية والمعنوية والسؤال الذي يطرح هنا أيهما يعتبر عنفا شرعيا ؟) . إن ما أتحدث عنه هنا هو تبادل للعنف على الصعيد الجهوي قبل أن تتطور الأحداث : شاب جامعي / مثقف / متعلم يطلب لقاء الولي / المحافظ يقابل مطلبه الشرعي ( القانوني ) بالرفض وهو شكل من أشكال العنف فتندلع أحداث عنيفة اخطر وتتسع دائرة العنف ...إن أصل القضية هو غياب الحوار وما يفترضه من اعتراف متبادل بين المواطن والمسؤول. إن الرفض والإقصاء والتهميش لا يمكن أن يؤدي إلا إلى أسوء الاحتمالات على العكس من ذلك أن الحوار هو تطلع إلى الإنساني والكوني والغريب في الأمر أن المواطن في سيدي بوزيد يصرخ في الشارع أريد الحوار ، أريد الاستماع والإصغاء إلى صوتي ( الإصغاء شرط من شروط الحوار) ،وهو دليل قاطع على أن ثقافة الحوار قد تغلغلت في ضمائر الشباب وعقولهم لكن المسؤول يصمت ويسكت . إن صرخة المواطنة والحوار والكوني والإنساني في عقول وضمائر أبناء سيدي بوزيد لهي صرخة حبلى بالمقاصد والدلالات لمن يراهن بالفعل على المستقبل . لماذا لا نلتقط هذه اللحظة الشاردة، هذه الصرخة الواعية لنبني المستقبل ؟ أم أن هذه الصرخة سيلتهمها النسيان ؟ لقد علمنا أفلاطون أن المعرفة تذكر والجهل نسيان فكونوا أفلاطونيين وتذكروا الكلي الإنساني الذي يجوب الشوارع على طريقة ديوجين من اجل التعايش... تلك هي تونس كانت ولازالت ولن تكون إلا بالتنوع الثقافي الذي يختزن في رحمه الإنساني والكوني وهو تنوع ضارب في التاريخ يمتد إلى أكثر من ثلاثة آلاف سنة وختاما أقول ما قاله كلود ليفي ستروس الذي تمرد على كل أشكال المركزية مدافعا عن النسبية والاختلاف والتنوع : " إن البربري هو من يؤمن بالبربرية " ولنعلم أن التنوع كما يوجد بين المجتمعات يوجد أيضا داخل المجتمع الواحد ولا سبيل إلى أي تربية للمستقبل إلا باحترام مبدأ التنوع الثقافي بما هو مبدأ ضروري ومسالة حياة أو موت.
لنتدبر ونفكر مليا في هذا الإعلان العالمي بشان التنوع الثقافي من اجل تونسنا الغالية التي لن تكون إلا بالتنوع الثقافي وتلك هي حداثتها وأصالتها وآفاقها / مستقبلها.
إعلان اليونسكو العالمي بشان التنوع الثقافي
الهوية والتنوع والتعددية
المادة (1): التنوع الثقافي بوصفه تراثا مشتركا للإنسانية
تتخذ الثقافة أشكالا متنوعة عبر المكان والزمان. ويتجلى هذا التنوع في أصالة وتعدد الهويات المميزة للمجموعات والمجتمعات التي تتألف منها الإنسانية. والتنوع الثقافي، بوصفه مصدرا للتبادل والتجديد والإبداع، هو ضروري للجنس البشري ضرورة التنوع البيولوجي بالنسبة للكائنات الحية. وبهذا المعنى، فإن التنوع الثقافي هو التراث المشترك للإنسانية، وينبغي الاعتراف به والتأكيد عليه لصالح أجيال الحاضر والمستقبل.
المادة (2): من التنوع الثقافي إلى التعددية الثقافية
لا بد في مجتمعاتنا التي تتزايد تنوعا يوما بعد يوم، من ضمان التفاعل المنسجم والرغبة في العيش معا فيما بين أفراد ومجموعات ذوي هويات ثقافية متعددة ومتنوعة ودينامية. فالسياسات التي تشجع على دمج ومشاركة كل المواطنين تضمن التلاحم الاجتماعي وحيوية المجتمع المدني والسلام. وبهذا المعنى فإن التعددية الثقافية هي الرد السياسي على واقع التنوع الثقافي. وحيث انها لا يمكن فصلها عن وجود إطار ديمقراطي، فإنها تيسر المبادلات الثقافية وازدهار القدرات الإبداعية التي تغذي الحياة العامة.
المادة (3): التنوع الثقافي بوصفه عاملا من عوامل التنمية
إن التنوع الثقافي يوسع نطاق الخيارات المتاحة لكل فرد، فهو أحد مصادر التنمية، لا بمعنى النمو الاقتصادي فحسب، وإنما من حيث هي أيضا وسيلة لبلوغ حياة فكرية وعاطفية وأخلاقية وروحية مرضية.
التنوع الثقافي وحقوق الإنسان
المادة (4): حقوق الإنسان بوصفها ضمانا للتنوع الثقافي
إن الدفاع عن التنوع الثقافي واجب أخلاقي لا ينفصل عن احترام كرامة الإنسان. فهو يفترض الالتزام باحترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية، وخاصة حقوق الأشخاص المنتمين إلى أقليات وحقوق الشعوب الاصلية. ولا يجوز لأحد أن يستند إلى التنوع الثقافي لكي ينتهك أو يحدّ من نطاق حقوق الإنسان التي يضمنها القانون الدولي.
المادة (5): الحقوق الثقافية بوصفها إطارا ملائما للتنوع الثقافي
الحقوق الثقافية جزء لا يتجزأ من حقوق الإنسان التي هي حقوق عالمية ومتلازمة ومتكافلة. ويقتضي ازدهار التنوع المبدع الإعمال الكامل للحقوق الثقافية كما حُدّدت في المادة (27) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وفي المادتين (13) و(15) من العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وبناء على ذلك ينبغي أن يتمتع كل شخص بالقدرة على التعبير عن نفسه وإبداع اعماله ونشرها باللغة التي يختارها، وخاصة بلغته الاصلية. ولكل شخص الحق في تعليم وتدريب جيدين يحترمان هويته الثقافية احتراما كاملا. وينبغي ان يتمتع كل شخص بالقدرة على المشاركة في الحياة الثقافية التي يختارها وان يمارس تقاليده الثقافية الخاصة، في الحدود التي يفرضها احترام حقوق الإنسان والحريات الاساسية.
المادة (6): نحو تنوع ثقافي متاح للجميع
إلى جانب كفالة التداول الحر للأفكار عن طريق الكلمة والصورة، ينبغي الحرص على تمكين كل الثقافات من التعبير عن نفسها والتعريف بنفسها. ذلك ان حرية التعبير، وتعددية وسائل الإعلام، والتعددية اللغوية، والمساواة في فرص الوصول إلى أشكال التعبير الفني والمعارف العلمية والتكنولوجية، بما في ذلك المعارف في صورتها الرقمية، وإتاحة الفرصة لجميع الثقافات في ان تكون حاضرة في وسائل التعبير والنشر، هي كلها ضمانات للتنوع الثقافي.
التنوع الثقافي والإبداع
المادة (7): التراث الثقافي بوصفه مصدرا للإبداع
إن كل إبداع ينهل من منابع التقاليد الثقافية، ولكنه يزدهر بالاتصال مع الثقافات الاخرى. ولذلك لا بد من صون التراث بمختلف أشكاله وإحيائه ونقله إلى الاجيال القادمة كشاهد على تجارب الإنسان وطموحاته، وذلك لتغذية الإبداع بكل تنوعه والحفز على قيام حوار حقيقي بين الثقافات.
المادة (8): السلع والخدمات الثقافية بوصفها متميزة عن غيرها من السلع والخدمات
في مواجهة التحولات الاقتصادية والتكنولوجية الحالية، التي تفتح آفاقا فسيحة للإبداع والتجديد، ينبغي إيلاء عناية خاصة لتنوع المنتجات الإبداعية والمراعاة العادلة لحقوق المؤلفين والفنانينن وكذلك لخصوصية السلع والخدمات الثقافية التي لا ينبغي اعتبارها، وهي الحاملة للهوية والقيم والدلالة، سلعا أو منتجات استهلاكية كغيرها من السلع او المنتجات.
المادة (9): السياسات الثقافية بوصفها حافزا على الإبداع
إلى جانب ضمان التداول الحر للأفكار والمصنفات، ينبغي أن تكفل السياسات الثقافية تهيئة الظروف المؤاتية لإنتاج ونشر سلع وخدمات ثقافية متنوعة، وذلك عن طريق صناعات ثقافية تملك الوسائل اللازمة لإثبات ذاتها على الصعيدين المحلي والعالمي. ويرجع لكل دولة، مع احترام التزاماتها الدولية، أن تحدد سياساتها الثقافية وتنفذها بأفضل الوسائل التي تراها، سواء بالدعم التنفيذي أو بالأطر التنظيمية الملائمة.
التنوع الثقافي والتضامن الدولي
المادة (10): تعزيز القدرات على الإبداع والنشر على المستوى الدولي
إزاء أوجه الاختلال التي يتسم بها في الوقت الحاضر تدفق وتبادل السلع الثقافية على الصعيد العالمي ينبغي تعزيز التعاون والتضامن الدوليين لكي يتاح لجميع البلدان، وخاصة البلدان النامية والبلدان التي تمر بمرحلة انتقالية، إقامة صناعات ثقافية قادرة على البقاء والمنافسة على المستوى الوطني والدولي.
المادة (11): إقامة شراكات بين القطاع العام والقطاع الخاص والمجتمع المدني
لا يمكن لقوى السوق وحدها أن تكفل صون وتعزيز التنوع الثقافي الضامن للتنمية البشرية المستديمة. ويجدر في هذا الإطار التأكيد من جديد على الدور الاساسي الذي تؤديه السياسات العامة، بالتشارك مع القطاع الخاص والمجتمع المدني.
المادة (12): دور اليونسكو
تقع على عاتق اليونسكو بحكم رسالتها ومهامها، مسؤولية ما يلي:
أ. التشجيع على مراعاة المبادئ المنصوص عليها في هذا الإعلان عند إعداد استراتيجيات التنمية في مختلف الهيئات الدولية الحكومية.
ب. الاضطلاع بدور الهيئة المرجعية والتنسيقية فيما بين الدول والمنظمات الدولية الحكومية وغيرالحكومية والمجتمع المدني والقطاع الخاص، من اجل الاضطلاع بصورة مشتركة بصياغة مفاهيم واهداف وسياسات تراعي التنوع الثقافي.
ج. مواصلة نشاطها التقنيني وعملها في مجال التوعية وبناء القدرات، في المجالات ذات الصلة بهذا الإعلان والداخلة في نطاق اختصاصها.
د. المساعدة على تنفيذ خطة العمل التي ترد خطوطها الأساسية مرفقة بهذا الإعلان.
"ثروة العالم الثقافية هي تنوعه في الحوار"
لقد اعتمد "إعلان اليونسكو العالمي بِشأن التنوع الثقافي" بالإجماع في ظرف خاص للغاية. فقد جاء هذا الاعتماد غداة احداث 11 سبتمبر/ أيلول 2001، وكان المؤتمر العام المنعقد آنذاك في دورته الحادية والثلاثين، هو اول اجتماع يعقد على المستوى الوزاري بعد تلك الاحداث الرهيبة، فكان فرصة سانحة للدول الاعضاء كي تؤكد فيها مجددا قناعتها بأن الحوار بين الثقافات هو أفضل ضمان للسلام، وكي تعرب عن رفضها القاطع لمقولة حتمية النزاعات بين الثقافات والحضارات.
فإصدار وثيقة تقنينية بهذه الاهمية يشكل سابقة بالنسبة للمجتمع الدولي. فهي تضع التنوع الثقافي في مصاف "التراث المشترك للإنسانية" الذي "هو ضروري للجنس البشري ضرورة التنوع البيولوجي بالنسبة للكائنات الحية"، وتجعل من الدفاع عنه واجبا أخلاقيا ملزما، لا ينفصل عن احترام كرامة الإنسان.
وإذ يرمي الإعلان إلى صون التنوع الثقافي باعتباره كنزا حيا وبالتالي كنزا متجددا، إذ لا يجوز ان ينظر إليه كتراث راكد بل كعملية تمثل ضمانة لبقاء البشرية، فإنه يرمي أيضا وفي الوقت ذاته إلى تفادي اوجه التفرقة وظواهر الاصولية، التي ترسخ وتقدس هذه الفوارق باسم الاختلافات الثقافية، مناقضة بذلك الرسالة التي ينادي بها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
كما يشدد إعلان اليونسكو العالمي على ضرورة ان يعترف كل فرد لا بالغيرية بمختلف أشكالها فحسب، بل وأيضا بتعدد ذاتيات الغير في كنف مجتمعات تتسم ذاتها بالتعددية. فبهذا الاعتراف فقد يمكن صون التنوع الثقافي بوصفه عملية تطورية ومنهلاً للقدرة على التعبير والابداع والتجديد. وقد تم تجاوز النقاش بين البلدان التي تميل الى الدفاع عن السلع والخدمات الثقافية "التي لاينبغي اعتبارها، وهي الحاملة للهوية والقيم والدلالة، سلعاً او منتجات استهلاكية كغيرها من السلع أو المنتجات"، وبين البلدان التي تصبو الى اعلاء شأن الحقوق الثقافية، إذ ان الاعلان ألّف بين الموقفين، وابرز العلاقة السببية التي تجمع بين هذين النهجين المتكاملين. فالواقع هو أنه لا وجود لاحدهما دون الاخر.
إن هذا الاعلان، المقترن بخطوط اساسية لخطة عمل ، يمكن ان يشكل اداة رائعة للتنمية تتضمن القدرة على إضفاء الطابع الانساني على ظاهرة العولمة. وهو بطبيعة الحال، لايملي اي تعليمات محددة على أحد، وانما توجهات عامة من شأنها أن تترجم إلى سياسات تجديدية من قبل الدول الاعضاء ضمن اطار السياقات الخاصة بها ، وبالتشارك مع القطاع الخاص والمجتمع المدني.
لقد أصبح هذا الاعلان الذي يحارب مظاهر التقوقع والانغلاق المبنية على الاصولية، بتعميم منظور للعالم أكثر انفتاحاً وابداعاً وديمقراطية، يعد من الان فصاعداً من بين النصوص المؤسسة لفلسفة أخلاقية جديدة تعمل اليونسكو على نشرها في بداية القرن الحادي والعشرين، وهو نص آمل أن يكتسب ذات يوم نفس القوة التي اكتسبها الاعلان العالمي لحقوق الانسان.
كويشيرو ماتسورا
المدير العام